Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأرثوذكسية جزء من خريطة طموح جيوسياسي لبوتين

موقف موسكو من الكنيسة مثال على كيفية استخدام قوى الدين إما للتضامن وإما للصراع

كهنة أرثوذكس روس يحضرون صلاة عيد الفصح في كنيسة من القرن الـ17 (أ ف ب)

ملخص

على رغم انهيار الاتحاد السوفياتي ظل الإيمان بالجوهر التاريخي الثابت أو ما يسمه المؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر "سياسة الأبدية" عقيدة بالنسبة لبوتين

كانت رحلة ستيفن فيرمويل (توم تريون) إلى النمسا لإقناع أحد الكرادلة بعدم التعاون مع الحكومة النازية في ظل خطر يلوح في الأفق في شأن اندلاع حرب عالمية جديدة، نقطة تحول في مسيرة ذلك الكاهن الكاثوليكي الإيرلندي الذي أخذ على عاتقه التحذير من مخاطر الاستبداد، وتعهد تكريس بقية حياته لتلك الرسالة.

فعلى خلفية الحربين العالميتين التي يعاصرهما بطل فيلم "الكاردينال"، 1963، سعى البطل إلى تسليط الضوء على وضع رجال الدين عندما يكافحون في أوقات الحروب لتحديد خياراتهم بعيداً من السياسة.

جاء الصراع الداخلي لرجل الدين في الفيلم الأميركي بعد قرون من زوال سيطرة الكنيسة على الحكم وفصلها عن الدولة، لكن ثمة بقاعاً أخرى من العالم لا تزال المؤسسة الدينية فيها تقبع في ذلك القبو السياسي، فباتت حرب أوكرانيا كاشفة عن حالة مستمرة من الترابط بين السلطة السياسية والمؤسسة الدينية/ يؤثر كل منهما في الآخر.

وإن كانت الكنيسة في أوكرانيا تختلف عن ذلك الشكل التقليدي من المنفعة المتبادلة بين الطرفين، بالنظر إلى تلك الروابط العرقية والتاريخية التي تجمع موسكو وكييف، فثمة انقسام سياسي هيمن على الأراضي الأوكرانية في الشرق والغرب، خلال السنوات الماضية.

ميثاق الدين والسياسة

قبل إطلاق العنان لحرب لا هوادة فيها، منذ فبراير (شباط) 2022، أزاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الستار أولاً عن ذلك السلاح التقليدي القديم، أو ما يعرف بالقوة الناعمة الدينية. وسعى بوتين إلى استخدام الهوية الدينية المسيحية الأرثوذكسية المشتركة بين روسيا وأوكرانيا في هجوم يهدف إلى تعزيز التفوق الديني لموسكو وخدمة أهدافه الجيوسياسية. ففي خطابه الشهير في 21 فبراير 2022، استعان الرئيس الروسي بتلك الروايات الدينية التي تدعم المعركة المحيطة بالهوية الوطنية الأوكرانية. ومراراً، أشار بوتين في خطابه إلى أن أوكرانيا "جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا ومساحتنا الروحية".

ودعم بوتين في ذلك حليفه الأقرب أسقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبطريرك موسكو كيريل الأول، الذي ذهب خلال احتفال عيد القيامة إلى وصف خصوم بلاده بأنهم "قوى الشر".

وعلى رغم انهيار الاتحاد السوفياتي وإعلان استقلال أوكرانيا رسمياً في عام 1991، ظل الإيمان بالجوهر التاريخي الثابت، أو ما يسمه المؤرخ الأميركي تيموثي سنايدر "سياسة الأبدية" التي تؤكد الوحدة العضوية للإمبراطورية الروسية وشعبها (بخاصة جوهرها السلافي والأرثوذكسي) بمثابة عقيدة بالنسبة لضابط الاستخبارات السوفياتية السابق فلاديمير بوتين، والذي لم يتوقف قط عن محاولة فرض نفوذه على أوكرانيا.

ليس الدين بالمعنى العقائدي فقط، فثمة أيديولوجية تجمع بوتين وكيريل استشهد بها كلاهما على مدى العقدين الماضيين. وتقوم هذه الأيديولوجية التي تعرف بـ"العالم الروسي" على أن هناك مجالاً أو حضارة عابرة للحدود تسمى "روسيا المقدسة"، وتشمل روسيا وأوكرانيا وبيلاروس (وأحياناً مولدوفا وكازاخستان)، فضلاً عن "الروس العرقيين والمتحدثين بالروسية في جميع أنحاء العالم".

وبحسب صحيفة "موسكو تايمز" المعارضة، فإنه وفقاً للأيديولوجية فإن موسكو هي المركز السياسي وكييف "أُم كل الروس" تمثل الجانب الروحي، وأن اللغة الروسية هي اللغة المشتركة والكنيسة الأرثوذكسية تحت بطريركية موسكو هي العقيدة المشتركة، وفي هذا "العالم" يعمل البطريرك في تناغم مع زعيم وطني (بوتين) ليحكم هذا العالم، فضلاً عن دعم روحانية وأخلاق وثقافة مميزة مشتركة.

كما أن هذا المركز الروحي يقف ضد ما يعتبره أتباع الأيديولوجية "الغرب الفاسد بقيادة الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية التي استسلمت لليبرالية والعولمة وكراهية المسيحية وحقوق المثليين التي تم الترويج لها في مسيرات مجتمع الميم والعلمانية المتشددة". 

ويقول الباحث لدى معهد الولايات المتحدة للسلام إيدان هوستن إن الروس والأوكرانيين شعب واحد يتحدر من المملكة المسيحية نفسها التي نشأت في القرن العاشر.

فوفقاً للتاريخ القومي لكلا البلدين، قبل الأمير فولوديمير الأول من كييف الديانة المسيحية عام 988 وأسس مملكة كيفان روس المتدينة التي أصبحت سلفا للدول الحديثة مثل أوكرانيا وروسيا.

لكن في الوقت نفسه يعترض الأوكرانيون على ادعاءات مثل تلك التي قدمها البطريرك كيريل في رسالة إلى مجلس الكنائس العالمي، حيث ذكر أن الأوكرانيين والروس "يأتون من جرن معمودية كييف واحد... ويشتركون في مصير تاريخي مشترك".

وبالنسبة لمعظم الأوكرانيين تتجاهل ادعاءات كل من بوتين وكيريل التاريخ الطويل لاستقلال بلدهم الذي يعد أمراً أساسياً لهويتهم الوطنية، كما تتجاهل حقيقة أن المشهد الديني في أوكرانيا أكثر تنوعاً بكثير مما هو معروف بشكل عام. ففي حين أن ما يقرب من 80 في المئة من الأوكرانيين يصرحون بالانتماء إلى طائفة أرثوذكسية، فإن نحو 10 في المئة من السكان (بخاصة في غرب البلاد) ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية، إضافة إلى مجموعات صغيرة من المسيحيين البروتستانت.

ويشير أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج ماسون والمستشار السابق لدى الخارجية الأميركية بيتر ماندافيل إلى أنه قبل السيطرة الروسية على شبه جزيرة القرم عام 2014، استدعى بوتين العقيدة المسيحية الأرثوذكسية لكلا البلدين كعنصر واحد من عناصر جدليته في شأن ضرورة التوافق الجيوسياسي لأوكرانيا مع موسكو.

وتدريجاً تحول ما كان في الأصل قصة تضامن ثنائي القومية من خلال جهود القوة الناعمة الدينية لبوتين التي استدعت حقبة كيفان روس لتثبيت طرحه بأن البلدين يمتلكان تاريخاً مشتركاً قائماً على الثقافة والهوية الدينية.

الانقسام الأرثوذكسي

تاريخياً، اتبعت الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا بطريركية موسكو، إذ تعود هيمنتها إلى أكثر من 300 سنة، فمع تنامي قوة روسيا وضعف كنيسة القسطنطينية في ظل الحكم العثماني، فوض البطريرك المسكوني عام 1686 بطريرك موسكو سلطة ترسيم مطران (أسقف) كييف.

وفي عام 1990، وتحت ضغط من الحملة القومية من أجل الاستقلال، أحيت الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الوضع شبه المستقل لكنيستها التابعة في أوكرانيا، وأعادت تسميتها إلى الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية (UOC)، لذلك وُجدت كنيستان أرثوذكسيتان متنافستان في كييف، منذ ذلك الحين، حيث كنيسة UOC الموالية لموسكو، وكنيسة UOC-KP التي تمثل أوكرانيا المستقلة.

وعلى مدى القرن الماضي، شكل الأرثوذكس الأوكرانيون المستقلون كنائس منفصلة تفتقر إلى الاعتراف الرسمي، وسعت الكنيسة في كييف إلى الاعتراف بها من القسطنطينية (المقر التاريخي للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية) منذ أن استقلت البلاد عن الاتحاد السوفياتي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فعندما انفصل متروبوليتان فيلاريت عن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لإنشاء الكنيسة الأوكرانية، بطريركية كييف (UOC-KP)، لم يحصل على اعتراف القسطنطينية.

وأخيراً، في 15 من ديسمبر (كانون الأول) 2018، عقد نحو 190 أسقفاً وكاهناً وقادة من الكنيسة في أوكرانيا اجتماعاً امتد ساعات طويلة داخل كاتدرائية "سانت صوفيا"، بحضور الرئيس السابق بترو بوروشينكو لانتخاب رئيس الكنيسة الأوكرانية الموحدة الجديد المطران إبيفانيوس، معلنين "تأسيس كنيسة أرثوذكسية مستقلة خاصة ببلادهم"، ليغيروا تقليداً دينياً يمتد عمره إلى قرون طويلة، إذ كانت كنيسة كييف تابعة لموسكو، وفي أعقاب ذلك سافر المطران المنتخب إلى إسطنبول، حيث البطريركية القسطنطينية المسكونية ليحصل على "أمر رسمي" يمنح كنيسة كييف "الاستقلال".

قرار الكنيسة الأرثوذكسية (UOC-KP) في أوكرانيا بالانفصال كان يرتبط بشكل مباشر بضم موسكو لشبه جزيرة القرم واعتبارها أراضاً روسية، إذ اعتبرت كييف الانفصال خطوة مهمة ضد تدخل بوتين في شؤونها، مع اتهامها للكنيسة الروسية بممارسة نفوذ خبيث على أراضيها من خلال السماح بأن يستخدمها الكرملين أداة لـ"تبرير النزعة التوسعية ودعم المتمردين الانفصاليين في شرق أوكرانيا"، لكن في الوقت نفسه ارتبط القرار بدعم أميركي بعد أن وضع بطريرك القسطنطينية بارثولوميو الأول أوكرانيا تحت الولاية الكنسية لرئيس أساقفة أميركا دانييل بامفيلون، والأسقف الكندي إيلارون من إدمونتون، اللذين يترأسان الكنائس الأوكرانية الأرثوذكسية في كلا البلدين.

وصي الحضارة المسيحية

كان فرع الكنيسة الأرثوذكسية في كييف المتحالف بشكل مباشر مع الكرملين (الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية - بطريركية موسكو، أو UOC-MP) نقطة نشطة في جهود بوتين نحو استمرار تبعية الأوكرانيين للكنيسة في بلاده. فبينما أصبح واضحاً أن أوكرانيا تتجه بخطى ثابتة نحو التحالف مع الغرب والحديث عن عملية محتملة لانضمامها لـ"الناتو"، ذهبت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية إلى تكثيف جهودها لتأكيد فكرة أن روسيا يجب أن ينظر إليها على أنها وصي للحضارة المسيحية والقيم العائلية التقليدية في مواجهة التوجه العلماني لعديد من دول الاتحاد الأوروبي، مستخدمة أحياناً قضية دعم حقوق المثليين.

ومع ذلك، يعتقد المراقبون أن بوتين ليس المسؤول الوحيد عن تسييس الدين في أوكرانيا. فيشير ماندافيل إلى أن قرار الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا (بطريركية كييف، UOC-KP) بالانفصال عن كنيسة موسكو في حضور بوروشينكو الذي دفع موسكو لقطع علاقتها مع بطريركية القسطنطينية في إسطنبول احتجاجاً على موافقتها على طلب أوكرانيا إقامة كنيسة مستقلة، زاد من حدة الصراع الديني بشكل أكبر.

وقد سعت الكنيسة الأوكرانية الموالية لروسيا إلى ثني الجنود الأوكرانيين عن الدفاع عن أنفسهم ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا في القرم باسم الأخوة الأرثوذكسية وفي بعض الحالات رفض رجال الدين أداء طقوس دينية للمسيحيين الأرثوذكس الأوكرانيين الذين تم تعميدهم خارج الكنيسة الأرثوذكسية الموالية لروسيا UOC-MP.

حملة أوكرانية ضد الكنيسة

مع اشتعال شرارة الحرب الكبرى في 2022، بدأت الحكومة الأوكرانية حملة ضد الكنيسة الأرثوذكسية (UOC) بسبب تلك العلاقة التاريخية بالكنيسة الروسية التي دعم زعيمها البطريرك كيريل الأول الرئيس بوتين في عمليته العسكرية الخاصة ضد كييف.

وقطع عديد من الطوائف الأرثوذكسية في أوكرانيا علاقاته مع تلك كنيسة موسكو، وانتقل إلى الكنيسة الأرثوذكسية المنافسة في كييف.

ومنذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، تجري كييف تحقيقاً في شأن عمل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية كذراع للكرملين، وجرى تفتيش ومداهمة عديد من الأديرة، ووجهت إلى عديد من الكهنة تهمة الخيانة والتحريض على الكراهية الدينية، بما في ذلك وضع رجل الدين الرفيع المتروبوليتان بافل ليبد تحت الإقامة الجبرية بموجب قرار لمحكمة كييف مطلع أبريل (نيسان) الماضي، وذلك بعد جلسة نظر فيها في اتهامات للرجل بأنه يدعم القوات الروسية ويؤجج الانقسامات الدينية.

ونشرت أجهزة الأمن الأوكرانية تسجيلات على الإنترنت يزعم أنها من مكالمات هاتفية لبافل يصف فيها العملية العسكرية لموسكو، قائلاً "إنها حرب بين الاتحاد الروسي وأميركا حتى مقتل آخر أوكراني"، مؤكداً أن بلاده هي التي أثارت العملية العسكرية الروسية الخاصة ضدها، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية.

كما تصر الحكومة الأوكرانية على طرد بافل والرهبان من إدارة دير كييف - بيشيرسك لافرا، الذي يعد مقراً للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، لكن كما يتضح فإن الخلاف حول الدير، المعروف أيضاً باسم دير الكهوف، هو جزء من صراع ديني أوسع ظهر بالتوازي مع الحرب.

ووفق معهد الولايات المتحدة للسلام، فإنه في حين أن أزمة أوكرانيا لم تتخذ طابعاً طائفياً صريحاً، فقد أصبح التوتر المستمر بين الجماعات الأرثوذكسية المختلفة عاملاً معقداً في الصراع، مما أدى إلى زيادة الولاءات المؤيدة لموسكو أو المؤيدة لكييف في بعض الحالات، وخلق وضعاً صعباً للجماعات الدينية الأخرى التي تمثل أقلية مثل الروم الكاثوليك واليهود والمسلمين.

وفي حين أن تسييس الدين في صراع أوكرانيا ليس فريداً من نوعه، يقول ماندافيل إنه يمثل دراسة حالة لظاهرة أوسع كثيراً تتعلق بالقدرة المتزايدة للدول على تحويل القوة الناعمة الدينية إلى تكتيكات حادة بحسب ما تتطلبه الظروف. ويضيف أن موقف موسكو من الكنيسة الأرثوذكسية مثال على كيفية استخدام القوى الطموحة للدين إما لبناء التضامن أو زرع بذور الصراع.

المزيد من تقارير