Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خلفيات فوتوغرافية وشطرنجية وفلسفية في أفلام ستانلي كوبريك

13 فيلماً في متن سينمائي تمكن كل فيلم منها من أن يكون المرجعية المطلقة لتاريخ سينمائي حافل

مشهد من "2001 أوديسا الفضاء" أشهر أفلام كوبريك (موقع الفيلم)

ملخص

حقق ستانلي كوبريك 13 فيلماً في متن سينمائي تمكن كل فيلم منها من أن يكون المرجعية المطلقة لتاريخ سينمائي حافل

بعد أشهر من الآن سيكون ربع قرن من الزمن قد مر على رحيل السينمائي الأميركي ستانلي كوبريك. ومع ذلك لا يزال الرجل وأفلامه أحياء بيننا وموضع تحليل ودراسات تكاد تدور كلها حول العناصر الإبداعية العديدة التي شكلت مرجعيته فيها. واللافت أن كل تلك المرجعيات تتوزع على عدد كبير من الأصناف الفكرية والجمالية الأدبية ولكن ليس على السينما نفسها والتي كان كوبريك سيداً كبيراً من ساداتها ومن كبار التجديديين في خوضها، بالتالي إذا كان تحليل سينما ستانلي كوبريك - أو محاولة ذلك في الأقل - يستدعي عدداً كبيراً من الإحالات إلى الفلسفة (من روسو إلى نيتشه) وإلى الفن التشكيلي (من اللوحات الطبيعية الإنجليزية إلى الهيبرواقعية) وإلى الموسيقى (على شتى أنواعها من هاندل إلى الرولنغ ستونز)، ناهيك بارتباط هذه السينما بالأدب، انطلاقاً من أن كوبريك الذي كان الأكثر اقتباساً من تراث الرواية العالمية في العدد الأكبر من أفلامه، يطرح علينا نفسه سؤالاً لا بد منه: أين السينما في هذا كله؟ أين هي في مرجعيات ذاك الذي اعتبر في نهاية الأمر، الأكثر سينمائية بين السينمائيين؟ وفي شيء من الاختصار: أين هي مرجعية ستانلي كوبريك السينمائية؟

مصهر لأنواع لا تعد وتحصى

إن كل ما كتب عن صاحب "سترة معدنية كاملة" و"لوليتا" و"إشراق" وغيرها من تحف قليلة العدد على أية حال، يلح على ارتباطه في مراهقته كما نوهنا، بثلاثة نشاطات هي التصوير الفوتوغرافي ولعب الشطرنج ثم الجاز، الذي سرعان ما تخلى عن رغبته في احتراف عزفه، حين بدأ يبيع صوراً وتحقيقات مصورة لمجلة "لوك" وهو بعد دون العشرين من عمره. ولقد ندر أن طاول ما كتب عنه اختياراته السينمائية، للوصول إلى تحديد مرجعية ما له في هذا المجال. وعلى رغم أن ستانلي كوبريك مغرم بالسينما (تقول الحكايات إنه كان يشاهد ما لا يقل عن ثلاثة أفلام يومياً، عن طريق الفيديو وما شابه)، فإنه - هو - نادراً ما تحدث عن السينما، حتى ولا عن سينماه. ودائماً ما كانت حجته في هذا أن أي كلام لفظي على فن هو في النهاية فن بصري، سيضعف من القيمة البصرية للعمل. ربما كان هذا صحيحاً. ومع هذا فإن بإمكاننا أن نستشف بعض خيارات ستانلي كوبريك السينمائية من مصادر عدة، أهمها في نظرنا، ما قاله هو مرة في معرض مقارنته بين عالمين سينمائيين، حيث قال "إن أكبر نجاح حققه إيزنشتاين في نظري، يكمن في جمال تكوينات الكادر لديه وفي قوة التوليف - المونتاج. أما بالنسبة إلى المحتوى فأرى أن أفلامه حمقاء، وممثليه جامدون (...). إنني أعتقد أحياناً أن إدارة الممثلين لدى إيزنشتاين تستند إلى رغبته الدائمة في أن يبقيهم لأطول فترة ممكنة داخل الإطار الذي كونه: إنهم - في النهاية - يتحركون ببطء شديد كما لو كانوا يسيرون تحت الماء. والحال أن كل شخص يهمه حقاً أن يدرس الفوارق بين التقنيات السينمائية يتعين عليه أن يدرس إيزنشتاين وشابلن. عند إيزنشتاين كل شيء شكل ولا محتوى هناك، أما لدى شابلن فثمة محتوى من دون شكل".

تفضيلات سينمائي كبير

والحقيقة أن في إمكاننا أن نضيف إلى هذا الكلام الدال لائحة بأفلام، قال كوبريك في عام 1963 إنها هي الأفلام التي يفضلها من بين كل ما حققته السينما في تاريخها. واللائحة على الشكل التالي:

1- "آل فيتيللوني" لفدريكو فلليني (1963)

2- "الفريز البري" لإنغمار برغمان (1958)

3- "المواطن كين" لأورسون ويلز (1941)

4- "كنز سييرا مادري" لجون هوستون (1948)

5- "أضواء المدينة" لشارلي شابلن (1931)

6- "هنري الخامس" للورانس أوليفييه (1954)

7- "الليل" لمايكل أنجلو أنطونيوني (1961)

8- "بانك ديك" لدبليو سي فيلدز (1940)

9- "روكسي هارت" لويليام ويلمان (1942)

10- "ملائكة الجحيم" لهوارد هيوز (1930)

للوهلة الأولى قد تبدو هذه اللائحة لائحة عادية تضم أسماء أفلام كان معظم هواة السينما يعلنون في ذلك الزمن (بداية الستينيات) أنهم يفضلونها. غير أن قراءة هذه الأفلام على ضوء إنتاج ستانلي كوبريك السينمائي، ستقول لنا، ثلاثة أمور أساسية:

كان كوبريك في اختياراته شديد التنوع والتأرجح بين سينما المؤلف الذاتية وسينما الخارج الاستعراضية، مع ميل واضح إلى النوع الأول. وكان كوبريك في ذلك الحين من المخرجين الأميركيين النادرين الذين ينظرون بجدية إلى ما يصنع من سينما في أوروبا. وفي اختياراته الأميركية يميل كوبريك بوضوح ناحية سينمائيين ذوي شخصية قوية، يعملون بشكل عام خارج المنظومة الهوليوودية المعهودة أو على هامشها. والحال أن هذا التحليل الموجز إلى حد كبير، لاختيارات كوبريك في ذلك الحين، والذي بنيناه هنا انطلاقاً من تحليل أكثر اتساعاً يورده الناقد الفرنسي ميشال سيمان في كتابه المرجعي الأساسي، عن كوبريك، يضعنا في الحقيقة، ليس في قلب تاريخ السينما، بل في قلب سينما كوبريك نفسها. وكأن كوبريك شاء بسينماه أن يختصر فن السينما وأن يعيد خلقه من جديد، هذا ما أكدناه في أول هذا الكلام، ونصل الآن إلى إعادة تأكيده. ولربما كان علينا أن نلاحظ هنا أن كوبريك عبر عن تلك الاختيارات بعد أن بارح الولايات المتحدة نهائياً، وتوجه ليعيش في إنجلترا أسوة بعدد كبير من زملاء له سابقين عليه بارحوها بدورهم هرباً من براثن "مطاردي السحرة" من جماعة السيناتور السيئ السمعة ماكارثي ونائبه ريتشارد نيكسون الذي سيصبح لاحقاً الرئيس الذي نعرف واشتهر من ناحية بتقاربه من الشرق "الاشتراكي" ومن ناحية ثانية بفضائح سياسية أودت به إلى الاستقالة كما نعرف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غير أن هذا لا يغير في الأمر شيئاً، إذ إن كوبريك ظل حتى النهاية أميركياً وظلت سينماه سينما أميركية، موضوعاً وبيئة وروحاً. فنحن إذا استثنينا "باري ليندون" - الذي مثل فيه نجوم أميركيون على أية حال، على رغم إنجليزية وإيرلندية موضوعه - سنجد كوبريك محافظاً على تواصله مع السينما الأميركية، أنواعاً (الخيال العلمي - حرب فيتنام - العنف في مجتمع المستقبل - القنبلة الذرية - سينما الرعب)، أو كتاباً، حتى ولو كان بعض الكتب التي استند إليها إنجليزي المؤلف، مثل أنطوني بارغس- غير أن هذا كان يعتبر على الدوام الأكثر أميركية بين الكتاب الإنجليز. وحتى إذا كان كوبريك في فيلمه الأخير "عيون مغمضة على اتساعها" قد اقتبس السيناريو من قصة قصيرة لكاتب نمسوي هو آرثر شنيتزلر، فإنه اختار للأدوار الرئيسة في فيلمه الأخير هذا نجمين "أميركيين" شعبيين: توم كروز ونيكول كيدمان (التي كانت في ذلك الحين زوجة كروز وتعتبر "خطيبة أميركا المدللة" على رغم أصولها الأسترالية التي ستعود إليه بقوة بعد طلاقها من كروز). وفي هذا الأمر ما فيه من دلالة تتجاوز بالطبع رغبات الشركة المنتجة، أو ضرورات الانتشار الجماهيري. إنه اختيار فكري وجمالي واضح.

مهما يكن من أمر، يبقى أن كوبريك وفي مقابل ذلك، أي في مقابل ما نقوله هنا عن مرجعيته السينمائية التي يبدو أنها عادة لا تثير كثيراً من اهتمام الباحثين لصالح مرجعيات إبداعية وفكرية حركت دائماً سينماه، كان هو يصنع من ناحيته مرجعيات سينمائية تبدو فريدة في مضمارها هو الذي سينظر دائماً إلى أفلامه القليلة من الناحية الكمية (13 فيلماً روائياً طويلاً في تاريخ سينمائي طويل) على أنها ستحدد مرجعيات لما يساوي ذلك من أنواع سينمائية كسينما الحرب والسينما البوليسية وسينما الرعب والخيال العلمي والتاريخية و"البارودية السياسية"، بل حتى سينما العشق والوله المطلق... إلخ.

افتتاح آفاق جديدة

ولن يكون غريباً في هذا السياق أن يكون كل واحد من تلك الأفلام قد كثف حين تحقق أهم السمات السابقة للنوع الذي ينتمي إليه، مفتتحاً آفاقاً جديدة يؤسسها بدوره لمستقبل النوع نفسه، بحيث يبدو كل فيلم من أفلامه وكأنه مفتتح ذلك النوع في تاريخ السينما، بل وإلى حد ما مفتتح العلاقة السينمائية الخالصة بين الانتماء الجمالي والفكري للعناصر المكونة للنوع نفسه حتى خارج إطارها السينمائي و"ترجمتها السينمائية". ويقيناً أن هذا ما يكون فرادة ستانلي كوبريك وفرادة الدور الذي لعبه في تاريخ الفن السابع. وما سيكون موضوعاً لدراسات جديدة ستصدر عنه في المرحلة المقبلة تذكراً لمناسبة مرور ربع قرن على غيابه.

المزيد من ثقافة