Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مواجهات أم حرب دعائية؟ الحقيقة الضائعة في السودان

معارك الجنرالين تثير فوضى إعلامية بقيادة الجيوش الإلكترونية لكل طرف وتقوض المبادرات المطروحة للسلام

التحكم والسيطرة على المعلومات عنصر أساسي في الصراعات المسلحة إذ غالباً ما تؤدي إلى تأجيج النزاع (اندبندنت عربية – حسن حامد)

ملخص

بينما يحشد البرهان وحميدتي قواتهما العسكرية تقود لجانهما الإلكترونية حرباً دعائية موازية لتضليل الرأي العام وكسب الأنصار، فمن يربح الحرب؟

فوضى إعلامية في السودان تفوق الفوضى الأمنية الناتجة من الحرب بين قوات الجيش التي يقودها عبدالفتاح البرهان وقوات الدعم السريع التي يترأسها محمد حمدان دقلو "حميدتي، إذ تلعب المعلومات المتداولة دوراً كبيراً في الرأي العام باعتبارها سلاحاً قوياً وفاعلاً في استقطاب الأنصار وتوجيه الجمهور، ولما لها من قدرة على طمس الحقائق بشكل أسهل وأسرع بفضل التطور التقني، إذ أحدثت البيانات الصادرة عن طرفي النزاع جدلاً إعلامياً وارتباكاً يعتمد على الدحض والنفي من دون حقيقة كاملة، وتبدو التصريحات المتضاربة إحدى قواعد الحرب الإعلامية جزءاً أساسياً مما يدور في ميدان المعركة.

التحكم والسيطرة على المعلومات عنصر أساسي في الحروب والصراعات المسلحة، إذ إنها غالباً ما تؤدي إلى تأجيج النزاع، وخلق علاقات مضطربة بين أطراف الصراع والمواطنين، وفي ظل هذه الأوضاع لا يمتلك الإعلاميون المعلومة الحقيقية دائماً، مما يتطلب مجهوداً إضافياً بتنقية وتحليل الأخبار والمعلومات، واتباع آليات رقمية تساعدهم في تعلم كيفية تصحيح المعلومات الخاطئة وتحري دقتها.

قضية قديمة

تبدو الأخبار المزيفة وكأنها قضية جديدة يربطها بعضهم بالتطور التقني وإسهامات ثورة الاتصالات والمعلومات، وكذلك هجمة العولمة الأخيرة في تطوير طريقة استهلاك المعلومات والتفاعل معها، إلا أن التاريخ يحتفظ بكثير من الحروب والصراعات التي اشتعلت بسبب معلومات مضللة، فضلاً عن إسهامها في تأجيج حروب أخرى، وتذكر أدبيات الإعلام السياسي الحرب الأميركية - الإسبانية كأحد أبرز الأمثلة على ذلك. وهي الحرب التي خاضتها الولايات المتحدة إلى جانب ثوار كوبا ضد إسبانيا عام 1898، فقد أشعلت جذوتها برقية ملفقة لانفجار وقع في فبراير (شباط) 1898 على متن البارجة الأميركية "مين"، التي  كانت راسية في ميناء هافانا، مما أدى إلى مقتل 260 أميركياً، وتوصل التحقيق الذي أجرته البحرية الأميركية إلى أن الانفجار نتج من زناد خارجي، في حين أكد تحقيق إسباني عكس ذلك، مدعياً أن الانفجار كان نتيجة لشيء حدث على متن السفينة.

على رغم أن الأسباب الحقيقية وراء الانفجار لم تعرف حتى اليوم، لكن أسهمت المعلومات المضللة التي تناولتها صحيفتا "نيويورك وورلد" و"نيويورك جورنال" في تأجيج الحرب، وتمثلت أهم تبعاتها في تعزيز انتصار الولايات المتحدة بمعاهدة باريس عام 1899 التي منحت واشنطن السيطرة على غوام وبورتوريكو والفيليبين وتحولت إلى قوة عالمية، ويرجع عدد من المؤرخين إلى أن الحرب "كانت نقطة تحول، وكان لها آثار دائمة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة على مدى القرن التالي وما بعده، حيث بدأت فترة التدخل الخارجي مدفوعاً بتوسيع المصالح الاقتصادية والإقليمية".

حفلات شواء

أسهمت الطريقة التي يدير بها طرفا الصراع السوداني حربهما الإعلامية عبر حملتهما الدعائية الخاصة لكل منهما، في أن تشق طريقها عبر الإنترنت إلى أرض الواقع وتصبح كأنها الحقيقة الوحيدة، إذ يهدف كل طرف إلى تضخيم إنجازاته العسكرية لتحفيز قواته في التقدم ومواصلة القتال، كذلك زعزعة معنويات وقدرات الطرف الآخر، بجانب حشد الدعم بين صفوف المدنيين عن طريق كسب تأييد الرأي العام.

ولأن الحملة الدعائية تتعلق بتناول أعداد القتلى والجرحى وضرب معسكرات الطرف الآخر، وكذلك وقوع عدد كبير من الضحايا المدنيين والخسائر في البنية التحتية، أصبح الإعلام يعتمد على تقديرات جهات مستقلة في مقدمها الأمم المتحدة، كما لعبت الحملة الدعائية دوراً في تقويض مبادرات كانت مطروحة لتقود إلى عملية السلام، وذلك بالخرق المتعدد لهدن التهدئة، إذ ظل كل طرف يتهم الآخر بأنه من بدأ بخرق الهدنة وتوجيه ضربات إليه مما اضطره إلى الرد عليها دفاعاً عن النفس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يقول المستشار الإعلامي السابق لرئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك فائز السليك "يمكننا تصنيف الإعلام السوداني في هذه المرحلة بأنه إعلام دعائي بدرجة خطرة، لأنه يتسم بالتوجيه والابتعاد عن المهنية والموضوعية ودغدغة المشاعر وتغييب العقل، كما يستخدم تكتيكات مثل الإضافة، أي إضافة معلومات غير صحيحة، والحذف بإنقاص معلومات مهمة وبطريقة متعمدة، والكذب بنشر ونقل معلومات مزيفة، والإشاعات بغرض الحرب النفسية".

ويتابع السليك "نجد كل طرف ينقل الأخبار من وجهة نظره، مثلاً تجد في مواجهات القيادة العامة للقوات المسلحة أن كل طرف يزعم سيطرته الكاملة عليها وينقل صوراً من داخل القيادة لكنها تكون من اتجاه واحد في وقت يسيطر فيه الطرف الآخر على اتجاهات أخرى، وكذلك نقل صور أسرى وحديث عن دك الطرف الثاني".

وأضاف المستشار الإعلامي السابق "يستخدم الجيش الوسائل الرسمية مع وجود كثيف على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما يعتمد الدعم السريع على رواد التواصل الاجتماعي، والاتصال بالقنوات الفضائية الإقليمية أو الدولية"، مؤكداً أن أداء الاعلام حالياً يسهم في استمرار القتال عبر التضليل الذي يمارسه كل طرف، وإشاعة خطاب الكراهية وشيطنة الخصوم وإقامة حفلات الشواء للخصم.

فخ التضليل

 في بعض الحالات يسهم المدنيون في استعار حرب المعلومات فقد نشر مواطنون عاديون على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو لمواقع حيوية تعلن فيها سيطرة أحد طرفي النزاع، وأخرى تظهر عدداً من قوات الدعم السريع وقعوا أسرى في أيدي قوات الجيش، وغيرها تظهر أفراداً بزي الجيش أعلنوا انضمامهم للدعم السريع. وأمام الضخ الكثيف لمقاطع من هذا النوع لم يتم التأكد من صحتها أو نفيها بالكامل، غير أن عدداً من المختصين الرقميين شككوا في صحة بعضها، وإلى الآن لا توجد وسائل إعلام حكومية ومواقع إنترنت سودانية يمكن الاعتماد عليها في تلقي المعلومات، من قبل المدنيين أو الإعلام الخارجي.

وفي ذلك أوضح السليك "دائماً في الحروب يكون تدفق المعلومات بترتيب محدد وغرض واضح هو إظهار الجهة المتبرعة بالمعلومات بأنها المنتصرة، لكن مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي يمكن الحصول على معلومات أكثر، إلا أن ذلك يتطلب من القنوات الفضائية والمواقع الدولية التحقق من مصادر عدة حتى تنجو من فخ التضليل الذي يقع فيه كثير من مراسلي الإعلام الخارجي ببث صور أو مقاطع فيديو قديمة أو لمكان آخر  وينسبونه للمكان الذي تدور فيه المعركة".

التحقق من المعلومات

 يعد تقصي الحقائق ودعم وسائل الإعلام المستقلة أحد أبرز الوسائل لمكافحة المعلومات المضللة، ومن شأنها أن تكشف عن ثغرات كبيرة في الذرائع المقدمة من كل طرف لتبرير بداية الهجوم أو المواصلة في الصراع على رغم النداءات الدولية والإقليمية بوقف إطلاق النار، إذ يحتل التحقق من المعلومات مكانة مميزة في حروب أخرى أبرزها الحرب الأوكرانية، وفي الحرب السودانية بدأت عمليات التحقق في وضع وسائل الإعلام المستقلة التي تقوم بالتغطيات في أول الطريق، من التناول الصحيح للمعلومات ووصفها، على رغم وجود كثير من التحديات والمعوقات.

 توضح الصحافية مزدلفة عثمان أن "الأوضاع الأمنية بالغة التعقيد في مختلف أحياء العاصمة الخرطوم تحرم الصحافيين من التغطية الميدانية الحية للاشتباكات الدائرة والمتواصلة بين الجيش والدعم السريع منذ الـ15 من أبريل الماضي، ويكتفي الغالبية بنقل مشاهدات مما يجري حولهم حال كانوا قريبين من مناطق الاشتباك، كما يتم الاعتماد في غالب الأوقات على إفادات شهود عيان من المكان ذاته".

وأضافت عثمان "في ظل التضارب والاتهامات المتبادلة بين طرفي القتال اللذين يتباريان في إصدار البيانات مع نفيها من كل طرف، لا يملك الصحافيون سوى نقل وجهتي نظر الجانبين، فيما تسهم كاميرات القنوات الفضائية في كثير من الأوقات في فضح موقف الطرف الذي يحاول تمرير معلومات مضللة، وباتت بعض القنوات محل انتقاد عنيف لبثها مقاطع فيديو قديمة وأخرى من دون التحقق من صحتها بنحو خلق حال من الإرباك العام وسط المشاهد الذي يعتمد كلياً عليها في التعرف على مجريات المواقف القتالية".

وتؤكد عثمان "تمثل وسائل التواصل الاجتماعي مصدراً مهماً لنقل الوقائع، لكن استخدامها في بث الإشاعات والمعلومات المضللة جعل عدداً كبيراً من الصحافيين يقعون ضحية لما تبثه من دون إعمال وسائل التحقق من الصور والمعلومات قبل نشرها للجمهور ورواد المنصة الإعلامية المعينة، لذا فإن أغلب محترفي العمل الصحافي يعملون على صناعة القصص من دون الاعتماد على ما ينشر أو حال الاضطرار إليه، فإن التحقق من المعلومات ومصادر الصور يكون عملاً أساسياً قبل التعامل مع المعلومات المتداولة". 

وكلاء الترويج

 في هذه الحرب لا تقف منصات التواصل الاجتماعي ضد الإشاعات بشكل كلي، بل تروج لمن تدعمه، وتحول عدداً منها إلى وكلاء ترويج للمعلومات الكاذبة، وفي هذا أوردت الصحافية عثمان "تسهم وسائل التواصل الاجتماعي بقدر كبير في رفد المتلقي بجرعات كبيرة من المعلومات، لكن بعضها يروج لكثير من الأخبار والإشاعات لخدمة أجندة وأغراض معينة لمناصرة أحد طرفي النزاع، بينما تكذب الشواهد الميدانية ما يثار منها".

  وتواصل "بحكم الانتشار السريع للأخبار في تطبيقات ’واتساب‘ و’فيسبوك‘ وغيرها، ينجح الجمهور في ترويج كثير من المعلومات المضللة التي قد يستغرق تصحيحها وقتاً، وفي كثير من الأحيان لا يحدث نشر الحقيقة أثراً مقارنة بالذي أحدثته المعلومة الكاذبة، ونجد أن عديداً من مطابخ صنع القرار باتت تستثمر في الاستفادة من قطاعات الجمهور العريضة في الوسائط بتكوين غرف مخصصة لبث الإشاعات وترويجها وكذلك لجان إلكترونية، يقابلها إيقاع غاية في البطء من الجهة المناط بها بث المعلومات الصحيحة، وبذا يكون الجمهور أداة تسهم بفاعلية في حرب المعلومات من حيث يدري ولا يدري".

وتتابع "كثير من الناس يتلقفون ما يجدونه أمامهم ويسارعون لبثه من دون تحقق، ربما من واقع الثقة في المصدر أو من باب التباهي بالسبق والقدرة على الإتيان بالنبأ العاجل، وهكذا يبني كثيرون قرارات مصيرية على معلومات يتضح لاحقاً أنها كانت كاذبة".

التأثير المستمر

 لا تقتصر المعلومات المضللة على السياسيين وأطراف الصراع الذين يحتاجون إلى نشرها حتى تسهم في الترويج لمواقفهم وتبرر نزوعهم نحو العنف، ولكن الجمهور أيضاً يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي لنشر قصص مضللة قد تلعب دوراً في تأجيج الصراع، مما يصعب مهمة المحاسبة إن وجدت، وذلك يجعل المجهودات تصب في كيفية دحض الإشاعات وفضحها، ولكن الخطوة الأكثر أهمية هي ألا تعد المعلومات المضللة مشكلة بسيطة أو محلية خاصة بالصراع في السودان ويمكن تجاوزها، فضلاً عن صعوبة اكتشافها ومعرفتها في بعض الأحيان.

في ظل هذه الحرب المشتعلة بين الجنرالين لا يتوقع أن يصدر قانون لتجريم المعلومات المضللة التي أصبحت سمة مهمة تميز أطراف الصراع في ظل الوضع السياسي والأمني المتوتر، فقد وضعت فوضى المعلومات وسائل الإعلام المستقلة أمام اختبار الصدقية، وأمام تحد آخر توسع فيه علم النفس السياسي عندما بحث عن "الأصول النفسية للتضليل السياسي"، وأثبت أن تحديد المعلومات المضللة يسهم بشكل رئيس في عديد من الأحداث المعاصرة والصراعات السياسية والعسكرية، وذلك لأن الاعتقاد في المعلومات الخاطئة لا يؤدي فقط إلى الأحكام السيئة واتخاذ القرارات بشأنها، بل إنه يمارس أيضاً تأثيراً مستمراً في تفكير الناس بعد تصحيحه، وهو تأثير يعرف باسم "التأثير المستمر".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير