Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

في "أنطيغون بصيغة الجمع" الناقد يعود إلى أول امرأة إشكالية في تاريخ الفكر الإنساني

حين كان الصراع الحقيقي في الزمن الإغريقي محتدماً بين منطق الدولة والقوانين الإلهية

"أنطيغون" سوفوكليس في تقديم معاصر (موقع الأوبرا)

ملخص

لا ينطلق الناقد حقاً في كتابه إلا بعد أن يخبرنا أن ثمة "جهلاً يطاول شخصية أنطيغون"

منذ مفتتح كتابه عن أنطيغون الذي بات كلاسيكياً منذ نحو أربعين سنة، أي منذ أصدرته مطبوعات جامعة أوكسفورد في عام 1984، نبهنا الناقد جورج شتينر، الفرنسي المولد من أصول نمسوية، والذي سيضع معظم كتبه بالإنجليزية، إلى أن الشعراء والفلاسفة والباحثين الأوروبيين ظلوا بين عامي 1790 و1905 "متفقين إلى حد كبير على أن مسرحية (أنطيغون)، كما كتبها سوفوكليس، لم تكن فقط الأكبر والأقوى بين التراجيديات الإغريقية، بل إنها الأقرب إلى الكمال من بين كل الإبداعات الفنية التي أنتجها العقل البشري على مدى تاريخه". ويلفت شتينر النظر إلى أن هذه المقولة إنما تنضوي ضمن سياق مقولة أوسع منها وتقول هذه المرة بشكل أكثر عمومية، إن "أثينا القرن الخامس قبل الميلاد كانت هي من وفر للإنسان مكانته وتميزه في هذا العالم مؤمنة له أرضية خصبة لعيش ذلك التميز والتمتع بتلك المكانة"، مضيفاً أن هذا التفوق الإنساني كان في الأزمنة الأكثر حداثة، من المسلمات بالنسبة إلى كانط وشيللي كما بالنسبة إلى ماثيو أرنولد ونيتشه، مذكراً بكيف أن "تاريخ الفكر والحساسية في القرن التاسع عشر إنما نهل قوته الجوهرية من تأمل الفكر والممارسات الفنية (الهلنستية)... وهو ما ينطبق في رأيه على (المثالية الألمانية والحركات الرومانطيقية وعلم التاريخ الماركسي وعلم أساطير العقل الفرويدية، حيث إن كل ما يجد جذوره لدى روسو كما لدى كانط يمكنه أن يلتقي بنقاط قوته في النشاط التأملي حول أثينا".

حماسة مبررة

والحقيقة أن هذه التأكيدات، إذ ستبدو شديدة الحماسة وتحمل كثيراً من المغالاة في الصفحة التقديمية الأولى لكتاب لا يتجاوز موضوعه كونه دراسة تحليلية في ما يقرب من 350 صفحة، سيجد القارئ نفسه بعد أن يفرغ من قراءة الكتاب المعنون "أنطيغون بصيغة الجمع" (وهي أقرب ترجمة ممكنة في العربية للعنوان الأصلي للكتاب Antigones. والحقيقة أن صيغة الجمع هنا ليست اعطباتية، بل إن الكتاب يستقي معناه الأساسي من تلك التعددية، وذلك بكل بساطة ليس فقط لأن ما يعنيه شتينر هنا ليس فقط أن هناك، وعلى خطى سوفوكليس، عدداً لا يحصى من النتاجات الأدبية والفنية التي تحمل العنوان نفسه وتتناول تنويعات لا تحصى، عن البطلة الأسطورية الإغريقية الأصلية التي استقاها المسرحي الإغريقي العظيم من الأساطير الأيقونية، وبخاصة من أسطورة أوديب. ففي نهاية الأمر نعرف أن أنطيغون ليست سوى الابنة التي أنجبتها جوكستا سفاحاً من العلاقة الآثمة التي أقامتها مع ابنها أوديب بعد أن قتل أباه ومارس الخطيئة مع أمه دون أن يكون على علم بذلك، تماماً كما كانت قد تنبأت له العرافات في الأسطورة الشهيرة. وما يستعرضه الناقد المعاصر في الكتاب الذي نتناوله هنا، والذي يمكن اعتباره أعمق كتبه، وهو الذي أنتج عشرات الكتب والدراسات وحتى الروايات التي جعلته واحداً من أكبر العقول خلال النصف الثاني من القرن العشرين، إنما هو الكيفية التي تناول بها عشرات الكتاب المسرحيين والمؤرخين والفلاسفة، وحتى الروائيون، تلك الشخصية الأيقونية منذ الزمن الإغريقي، وصولاً إلى عصرنا هذا.


ديباجة تبريرية

والحقيقة أن الكاتب – الناقد لا ينطلق حقاً في كتابه إلا بعد أن يخبرنا، في نوع من ديباجة تبريرية، أن ثمة "جهلاً يطاول شخصية أنطيغون" يراه في الوقت نفسه "فلسفياً وفيلولوجياً ونقدياً وتاريخياً". وهذا الجهل يكاد يجعل من أنطيغون الأصلية، أي الأولى، "امرأة ثرثارة بشكل متواصل على قدر ما ثمة هناك من أنطيغونات نلتقي بهن لدى أسخيلوس، كما لدى سوفوكليس، لدى جان أنوي، كما لدى جان كوكتو، مروراً بعشرات تناولوا الشخصية مثل غارنييه وراسين وألفييري، وحتى هيغل وهولدرلن". ومن الواضح في سياق الكتاب أن ثمة تفسيرات للشخصية على عدد الكتاب الذين تناولوها، وذلك على رغم أن الحكاية الأصلية واحدة لا تتبدل ولا تتغير في جوهرها. وهي طبعاً حكاية ابنة أوديب وجوكوستا إذاً، والتي تسعى إلى التمرد على قرار كريون الملك بعد أن قتل الأخ بولينيس في المعركة وأمر كريون بعدم دفنه في عقاب له على خرقه القوانين بدوره وكثأر من الأب أوديب للمحرمات التي ارتكبها. وإذ تتمكن أنطيغون من فرض مشيئتها متجاوزة قوانين المدينة وإرادة ملكها، ها هو الملك يأمر بدفنها حية. وهو حكم من الواضح في سياقه أن القضية برمتها تصبح نوعاً من الموقف السياسي التناحري ضد القانون الذي يسنه البشر لأنفسهم، والقانون الإلهي الذي لا بد لهم من إطاعته. أو بالأحرى مرافعة تدعو إلى احترام منطق الدولة. ومن الواضح أن مجمل التفسيرات التي يستعرضها جورج شتينر هنا وكما تتجلى لدى كل متناول في الإبداع أو في البحث والدراسة لـ"أنطيغون"، إنما تستند من خلال اختيارات كل مبدع طوال الأزمنة التي شهدت تغيرات التفسير، تستند إلى الخلفيات السياسية والفلسفية لكل متناول بالترابط مع زمنه والدولة والقوانين التي يرجحها. وفي هذا المعنى بالتحديد يصبح في إمكان شتينر أن يتحدث عن "أنطيغون بصيغة الجمع". فالمسألة هنا ليست اختلافات في التفسير أو تنويعات على تلك المرأة الوحيدة العنيدة، بل مسألة استخدامها للتبسيط في بحث مشروع الدولة ومشروع صياغة القوانين التي تسيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


القانون الإلهي

فأنطيغون في إصرارها على خرق قوانين المدينة إنما تستند إلى القانون الإلهي الذي يدعو إلى دفن الموتى مهما كانت جرائمهم أو أسباب موتهم أو حتى إرادتهم الخاصة التي كانوا قد أوصوا بها. والواقع أن أنطيغون وليس فقط في ممارستها، بل كذلك في حديثها وتبريرها لإصرارها على ما تنوي فعله، لا تكتفي بذكر القانون الإلهي الذي تستند إليه وتجابه في سبيله منطق الملك والدولة – وهو منطق يتذرع كما يمكننا أن نفهم، بأرجحية قانون بشري يتطلبه منطق الدولة - بل إنها تشغل كل فصاحتها ومنطقها لتأكيد أن "القانون الإلهي" الذي تستند إليه، وتجد فيه تبريراً لسلوكها، إنما هو في حقيقته قانون بشري تماماً كما أن الدفاع عن منطق الدولة هو بدوره قانون إلهي. وفي هذا الإطار يرينا الناقد المعاصر كيف أن ما نلتقيه في المسرحية وفي معظم تنويعاتها إنما هو مجابهة عنيدة بين حبين: حب أخت لأخيها من ناحية، ومن ناحية أخرى حب رجل (كريون) لمدينته ولسلطته على تلك المدينة. ويذكرنا شتينر هنا بأمر يحدث كثيراً أن يغيب عن الأذهان ويمر مرور الكرام على رغم أن ما ينشده الكورس عادة له أهمية جوهرية في المسرح اليوناني. وما يلفت إليه شتينر هو كيف أن الكورس، وبخاصة في نص سوفوكليس "الذي يبقى حتى اليوم أقوى نص لتلك التراجيديا الكونية"، يبدي طوال تدخلاته، قدراً لافتاً من التردد في الموقف.


التباسات كثيرة ومعنى هذا أن "الكورس ليس هنا إلا لكي يؤكد ضروب عدم اليقين وجدية الالتباس والحيرة بين الشخصيتين المتناحرتين والمنطقين، أي بين الحبين المتجابهين. ويقيناً أن سوفوكليس نفسه يبدو من خلال تحليل شتينر المعمق، حائراً بين منطقين وموقفين لا يسعه إلا أن يضيع بينهما حتى ولو بدا في نهاية الأمر أكثر تعاطفاً مع الفتاة كما كان من عادة المسرح الإغريقي أن يكون في زمن كانت المرأة فيه مرجحة دائماً في المجتمع حتى حين تبدو أضعف حجة في صراعها مع الدولة والقوانين أو مع المجتمع وسيطرة الرجال عليه، كما حال "فيدرا" أو "ميديا". فهنا في هذا السياق لا يعني هذا التعاطف الاجتماعي كثيراً بالنظر إلى أن الأمر في جوهره يتناول شأناً آخر تماماً هو أعمق مما نعتقد بكثير: المنطق الإلهي وتفسيره، ومنطق الدولة وتبريره مسألة السلطة التي ما برحت منذ الإغريق، وحتى يومنا هذا، تشكل المعضلة الأساسية في العلاقة بين الفرد والمجتمع. وهي القضية الماثلة حتى لدى جورج شتينر الذي ولد في باريس عام 1929 وكتب بلغات أوروبية عدة، لكنه درس بشكل خاص في إنجلترا التي سيرحل فيها في عام 2020، دون أن يثير كثيراً من الاهتمام، إذ مات في زمن كورونا الذي قتل كثراً وسط صمت الآخرين ورعبهم. وترك شتينر عدداً كبيراً من الكتب، من أشهرها إلى "أنطيغون بصيغة الجمع"، دراسة بديعة تقارن بين تولستوي ودوستويفسكي كانت أول ما ترجم إلى العربية من نتاجه، و"موت التراجيديا" و"في قصر ذي اللحية الزرقاء" و"الثقافة ضد الإنسان"، وغيرها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة