ملخص
راجع تولستوي في رواية "البعث" عبر البطلة كاتيوشا مواقفه السياسية التي جعلته مصلحاً اجتماعياً خلال الآونة الأخيرة من حياته
هناك في المقام الأول روايتا ليو تولستوي الكبيرتان والمعترف بهما عالياً بوصفهما درتي الأدب الروسي الذي شع على العالم خلال القرن الـ19، "الحرب والسلام" و"آنا كارنينا"، ولكن هناك أيضاً عدداً لا يحصى من روايات وقصص ونصوص أخرى تستكمل صورة الكاتب مقدمة إياه لقرائه، بل للعالم أجمع، كواحد من كبار المصلحين على شاكلة مفكرين إصلاحيين كبار لم يخوضوا الأدب الخالص الذي خاضه تولستوي.
بين هاتين الروايتين اللتين أشبعتا درساً وتحليلاً، وجمهرة الأعمال الأخرى الأكثر نزوعاً إلى الفكر منها إلى الإبداع الفني، هناك عمل استثنائي لتولستوي يجمع النمطين هو بالطبع روايته "البعث" التي تعتبر دائماً روايته الكبيرة الثالثة حتى وإن كان كثر من دارسيه وقرائه ومنذ صدورها في عام 1899 ينظرون إليها بوصفها الأكبر والأقوى والأكثر إنسانية بين كل ما كتبه هذا المبدع الكبير. بل ينظرون إليها بوصفها وصيته الفنية - الأخلاقية الأخيرة. لكن "البعث" في نهاية الأمر عمل أدبي كبير حتى وإن كان بعدها الفكري يغلب عليها.
شباب ضابط
من الإنصاف في هذا السياق أن نقرب فنياً بين "البعث" وأمهات الروايات التعبيرية الألمانية التي لم تكن قد ولدت بعد لكنها ستهيمن على السنوت الأولى من القرن الـ20 الذي كان سيولد إثر ذلك، لا سيما بأجوائها وميلودراميتها التي لا شك أن البعض اعتبر مثلاً رويات ستيفن زفايغ متأثرة بها ناقصة البعد الأخلاقي لدى تولستوي.
ولنعد هنا إلى أحداث "البعث" نفسها وهي أحداث تبدأ مع الضابط الشاب ديمتري نخليودوف الذي يطالعنا عائداً من عالمه العسكري لفترة "يتذوق فيها ملذات الحياة المدنية ويستعد للزواج من فتاة من علية القوم ويرتب بعض شؤونه". وهو لما كان من عائلة كبيرة وعُرف بأخلاقه الراقية وباهتمامات اجتماعية لا غبار عليها، يتم اختياره ذات يوم ليكون عضواً في لجنة محكمين في محاكمة قضائية لفتاة متهمة بالدعارة وبارتكاب جريمة قتل لأحد زبائنها في فندقه وسرقة مبلغ من مال كان في حوزته. الفتاة تنكر تهمة القتل قائلة إنه إنما أرادت أن تعطي ضحيتها منوماً لأنه كان كثير الإزعاج لها فسعت إلى التخلص من إلحاحه بتنويمه غير عالمة أنها إنما أعطته سم الآرسنيك القاتل دون أن تدري.
تاريخ ينبعث من رقاده
والحقيقة أن الموضوع ليس هنا بل في مكان آخر تماماً. الموضوع أن ضابطنا الشاب سرعان ما يتعرف إلى المتهمة الحسناء كاتيوشا موسلوفا التي كانت قبل حين خادمة في بيت عمتيه فتمكن هو من إغوائها ذات مساء ثم تخلى عنها وعاد إلى عسكريته وقد نسيها تماماً. بل حتى لم يعلم حينها أنه تركها حاملاً ما أثار من دون علمه فضيحة وجعل العمتين تطردانها فلم تجد مأوى لها سوى الشارع ومهنة سوى الدعارة. ناهيك عن أن سوء أحوالها تسبب في ولادة طفلها ميتاً. وبذلك، كما سيعلم ديمتري في قاعة المحكمة، باتت الفتاة مومساً بصورة رسمية تحمل البطاقة الصفراء الخاصة ببنات مهنتها وتلك كان حالها حتى ارتكبت الجريمة المتهمة بها.
ويحل قدر من الحزن والندم بالضابط الشاب وهو يستذكر كل هذا من موقعه داخل المحكمة ويسعى بما له من نفوذ وسمعة إلى إنقاذ ضحيته السابقة مما آلت إليه حالها. غير أنه بعد سلسلة من المحاولات التي فرغ وقته في سبيلها لم يتمكن من أكثر من تخفيف الحكم عنها إلى أربع سنوات سجناً تمضيها في الأشغال الشاقة في إحدى مناطق سيبيريا النائية. بل إنه قرر إزاء ذلك كله أن يعيش مذاك وصاعداً من أجلها مرافقاً إياها إلى منفاها وقد قرر الزواج بها بعدما ينتهي ذلك كله.
صراع بين عقليتين
الحقيقة أن قرارات نخليودوف لم تكن اعتباطية وعفوية، بل عن تصور وتصميم لا سيما بعد أن عايش من خلال تفانيه في الاهتمام بكاتيوشا، الأوضاع البائسة للقضاء في روسيا كما الأوضاع البائسة للمحكومين وللطبقات المسحوقة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الواضح هنا أن تولستوي، ومن دون أن "يتبنى" ما كان ديمتري قد فعله في الماضي، جعله الآن لسان حاله والمعبر من خلال نظرته الأرستقراطية عن نظرة الكاتب الكبير إلى شتى الأوضاع السياسية والاجتماعية وبخاصة الأخلاقية جاعلاً من الحلول التي ارتآها نخليودوف بما في ذلك الندم على ما اقترفه في حق كاتيوشا واستعداده لدفع ثمن خطاياه مدخلاً للوصول إلى قراره توزيع أراضيه على الفلاحين وسعيه لمساعدة أكبر عدد ممكن من ضحايا الفقر والعدالة، جاعلاً من كل ذلك نوعاً من الاستجابة لقرارات الكاتب نفسه في مساعيه "الخيرية الإنسانية" خلال المرحلة الأخيرة من حياته التي جعلته، أي تولستوي، يتحول إلى نبي جديد من أنبياء الإصلاح في العالم.
ولسوف يرى بعض النقاد والكثير من محبي روايات تولستوي أنه بالغ في التوقف عند التبدلات الجذرية التي طاولت بطل رواياته خلال تلك المرحلة من الرواية فقطعت سياقها الحدثي الذي يبقى ديمتري وكاتيوشا بطليه.
الغفران المستحيل
كاتيوشا في الحقيقة، ومهما فعل ديمتري من أجلها، لن ترضى بأن تعيده إلى حياتها مهما كان بؤس تلك الحياة. وهذا ما يجعل الرواية تستعيد هنا وطوال الرحلة إلى سيبيريا التي تضم كاتيوشا إلى قافلة من نحو 600 سجين سيلقون في ذلك المنفى الرهيب نفس مصيرها حتى ولو كانوا جميعاً من المحكومين السياسيين الموزعين بين "عدميين" و"براغماتيين". بل إن كاتيوشا سرعان ما ترتبط بواحد منهم هو "البراغماتي" سيمونسون الذي سيغرم بها حقاً ويطلبها للزواج أمام عجز ديمتري عن إقناعها بالبقاء معه مدى الحياة.
والحقيقة أن رفض كاتيوشا لديمتري رغم تفانيه من أجلها إنما هو "بعثها" الخاص على الحياة الحقيقية وهو نوع من تعامل واقعي مع الحياة مبني على تجربتها مع تلك الحياة التي عاشتها وتفتحها على نمط الحياة التي ينبغي أن تعيشها منذ وصولها إلى سيبيريا.
وهي رغم حبها المضمر لديمتري واعتبارها إياه، في سرها على الأقل، رجل حياتها، وترى أنه هو الآخر يعيش بعثه الخاص إنما على طريقته "الانفعالية" التي لا ترتبط بتجربة العيش نفسها، بل بتجربته الخاصة التي أملاهما عليه شعوره بالندم لما تسبب به، ولم يملها وعي سياسي متأصل، رغم ذلك، بل بسببه فضلت "البراغماتي" على "الانفعالي العدمي" الذي "يشتط في رد فعله تبعاً لظروف فاجأته" ومن هنا "حتى ولو أن ديمتري صادق في اختياراته الجديدة وسيكون أميناً لها" لن يمكن الوثوق به طالما أن "غايته ليست سوى الحصول على الغفران الذي يريحه لينقذه من شعوره بالذنب" ومن هنا فإن كاتيوشا لن تمنحه ذلك الغفران كما هو واضح.
صراع داخلي
من الواضح أن كاتيوشا إنما تعبر في موقفها النهائي والمرتبط بعفوية شعبية لا شك أن الكاتب يحبذها. وربما على أي حال، كنوع من نقد ذاتي يراجع عبره، وعلى الأرجح في وعي باطني ينتابه، مواقفه السياسية والاجتماعية الخاصة التي كانت حركته خلال تلك الآونة الأخيرة من حياته وجعلته مصلحاً اجتماعياً. ومن هنا فمن الواضح أن النظرة التحليلية الأكثر عمقاً، وبالتالي الأكثر إنصافاً لتلك الرواية إنما هي تلك التي تنظر إليها باعتبارها تعكس عبر شخصيتي ديمتري من ناحية وكاتيوشا من ناحية أخرى، ذلك الصراع الذي عاشه ليون تولستوي (1828 – 1910) نفسه خلال سنواته الأخيرة بين جانبين من شخصيته، جانب "الفوضوي" الذي وسم به ديمتري ذا السلوك العفوي الفوضوي؛ والجانب الآخر "البراغماتي" الذي أوكل لكاتيوشا أن تعبر عنه على الضد مما كان ينبغي لها أن تفعل استجابة لحبها القديم لديمتري و"مكافأة" له على ما يفعل الآن في سبيلها؛ والحقيقة أن في ذلك "الصراع العميق داخل الكاتب" ينبغي لنا أن نبحث عن "الوصية الفكرية الختامية" التي رأى باحثون كثر أنها مضمرة في "البعث" كما هو مضمر فيها اختيار نهائي لتولستوي حتى ولو أنه جعل قارئه معجباً بعمق وحرارة سلوك بطله آخذاً على كاتيوشا عجزها عن الغفران وسلبيتها تجاه الأحداث التي تعيشها في رواية لا شك أنها لا تضاهى في عمقها وقوتها التعبيرية بل حتى "الجمالية".