ملخص
قاد ديفيد قوريش عصياناً دينياً في بلدة وايكو بتكساس انتهى بمعركة مسلحة قتل فيها أتباع مذهبه كلهم. اعتبر ذلك الحدث نقطة تحول محورية في صعود الميليشيات ونظريات المؤامرة المتطرفة في أميركا
طبقاً لاتباع ديفيد قوريش، ذلك الطالب الفقير الذي يعانى عسر القراءة "ديسلكسيا" Dyslexia، فإنه تمرس في أخذ عدد من النصوص المفككة والمبهمة أحياناً من "العهد القديم" و"العهد الجديد" من الكتاب المقدس ونسجها مع بعضها بعضاً في قصة واحدة متماسكة عن نهاية العالم وحالة الأشياء فيه.
النهاية كانت وشيكة. وكانت المعركة الأخيرة مقبلة. وفي وسطهما تماماً ستكون طائفة "الفرع الداوودي" الدينية التي قادها قوريش والمتفرعة عن كنيسة "السبتيين" التي اتخذت من مجمع بالقرب من بلدة "وايكو" بولاية تكساس مقراً لها. [يشدد "السبتيون" على ضرورة احترام السبت كيوم عطلة دينية، وتأكيد العودة الثانية للسيد المسيح].
وبحسب كيفن كوك في كتابه الجديد "قيامة وايكو، ديفيد قوريش، ومكتب التحقيقات الفيدرالي وولادة الميليشيات الأميركية الجديدة"، في حديث إلى صحيفة "اندبندنت"، فإن "محاولة فهم الكتاب المقدس في ما يتعلق بالطريقة التي ينبغي أن أعيش بها حياتي هي لغز هائل، والشخص الذي يمكنه أن يقدم إجابات مقنعة حول ذلك، وفق ما فعل [ديفيد قوريش]، في رأي أتباعه، ويكون قد فعل شيئاً يسعى إليه الناس طوال حياتهم".
إن قبضة قوريش الأسرة التي أمسك بها أتباعه، هي نفسها التي أدت بهم إلى الخراب.
وأضاف كوك "لقد أدهشني حقاً الإخلاص [الذي ينطوي عليه] المعتقد الديني لأتباع قوريش. أظن أنه كان وحشاً. أعتقد أنهم كانوا مضللين على نحو رهيب. ولقد كان من الميالين جنسياً إلى الأطفال. وأودى الإيمان بعديد من الآباء إلى تسليم بناتهم اللاتي كن في أعمار الـ12 و14 و15 عاماً إلى هذا الرجل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد أسهم هذا الإيمان، إلى جانب سلسلة من الحسابات الخاطئة بشكل كارثي والقرارات السيئة من قبل الحكومة، في تأجيج المواجهة المميتة التي استمرت 51 يوماً في عام 1993 بين "الفرع الداوودي" والعملاء الفيدراليين. وبلغ الحصار ذروته في 19 أبريل (نيسان) حينما انهارت المفاوضات واستخدم الفيدراليون الغاز المسيل للدموع والدبابات في محاولة لإجبار المجموعة على الخروج. اجتاح حريق مجمع "جبل الكرمل" ما أسفر عن مقتل 76 شخصاً، إضافة إلى ستة من أعضاء "الفرع الداوودي" وأربعة فيدراليين لقوا حتفهم خلال مرحلة سابقة من المواجهة.
وكذلك خرج تسعة من أعضاء "الفرع الداوودي" سالمين من ذلك الحريق الهائل. ومن الواضح أن "وايكو"، بعد مرور 30 عاماً تلك المواجهة سيئة الصيت، لا تزال تؤثر على الناجين، وتمارس تأثيرها أيضاً على الثقافة والسياسة الأميركيتين في شكل عام. وتستطيع "وايكو"، شأنها شأن الرسائل الدينية الخفية التي ذكر قوريش أن بوسعه التنبؤ بها، المساهمة بطريقة خارقة في تفسير مجموعة كبيرة من القوى المختلفة التي تزخر بها الحياة الأميركية.
لقد تابع تيموثي ماكفي الذي نفذ تفجير "أوكلاهوما سيتي"، فصول الحصار أثناء تكشفها أمام عينيه. وفي وقت لاحق، قتل 168 شخصاً في التفجير الذي تزامن مع الذكرى السنوية الثانية لحادثة "وايكو". واختار مسلحون مراهقون الذكرى السنوية نفسها كموعد مبدئي لارتكاب مذبحة "مدرسة كولومباين الثانوية" في عام 1999.
وفي السنوات التالية، استشهدت الميليشيات اليمينية في أنحاء البلاد جميعاً بحادثة "وايكو" باعتبارها دعوة إلى حمل السلاح. ففي بداياته، ابتدأ أليكس جونز، وهو شخصية مؤثرة في نظريات المؤامرة اليمينية، مساره السياسي عبر جمع أموال لبناء كنيسة صغيرة جديدة في موقع "مجمع جبل الكرمل" (في وايكو)، الذي هدم بعد فترة وجيزة من انتهاء الغارة [التي شنها الفيدراليون عليه]. وكذلك استخدم تلك الحادثة نفسها في صقل تكتيكاته الإعلامية الفظيعة التي استغلها لاحقاً للزعم بأن [اعتداءات] 9/11 و[حادثة إطلاق النار التي أوقعت 26 قتيلاً في مدرسة "ساندي هوك"، لم تكن سوى هجمات كاذبة، إضافة إلى حث مؤيديه على الزحف إلى مبنى الكابيتول الأميركي [في السادس من يناير 2021، بغية وقف جلسة لإقرار فوز جو بايدن بانتخابات الرئاسة 2020].
وبحسب كوك، ثمة "خط مستقيم" يربط بين الطائفة الدينية الغامضة في تكساس [الفرع الداوودي] والتيارات التآمرية والعنيفة التي ما فتئت تزعزع استقرار الحياة العامة الأميركية حتى يومنا هذا.
والآن، في موطن مجمع "الفرع الداوودي" السابق، يبشر قس جديد بنهاية العالم في مواعظ منحرفة بفعل نظرية "كيو أنون"، ويمزج هذا كله في خليط ضبابي، بينما يقوم أعضاء [الجماعة اليمينة الذكورية المتطرفة] "براود بويز" [معناها الحرفي هو فتية فخورون] وأعضاء الميليشيات بالحج إلى ذلك الموقع.
[تنتشر في أوساط اليمين الجمهوري نظرية "كيو أنون" التي تعتقد أن الدولة العميقة الأميركية فاسدة، ويقودها منحرفون أخلاقياً، ما يوجب مقاومتها. وتشير إلى وجود بعض المخلصين يطلعون على مجريات ذلك الفساد، لكنهم مقيدون ولا يستطيعون سوى إصدار تلميحات عما يعرفونه]
وفي السياق نفسه، ذكر راعي الأبرشية الحالي في مجمع "جبل الكرمل"، ضمن تصريح حديث أدلى به إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، أن "الله أسبغ القداسة على دونالد ترمب. إنه كبش الصدم الذي يستخدمه الله من أجل إسقاط دولة بابل العميقة". [إشارة إلى قصة برج بابل في التوراة الذي بني في تحد للإيمان بالله، لكنه انهدم بإرادة إلهية]
بالنتيجة، تظهر تلك المعطيات بمثابة حياة رائعة بعد الموت لحدث شاركت فيه مجموعة من الأشخاص الذين أرادوا أصلاً أن يتركهم الآخرون وشأنهم.
وتفصيلاً، لقد انتقل "الفرع الداوودي" الذي تأسس عام 1959، إلى مزرعة خارج "وايكو" عام 1962، حيث أنشأوا مجمعاً لممارسة نمط المسيحية الصارم والغامض الخاص بهم، أثناء انتظارهم نهاية العالم والمجيء الثاني للسيد المسيح.
لقد استقطبوا اهتمام المسؤولين، إذ راجت إشاعات مفادها أن مجموعة قوريش تعمل على حمل بعض الناس على تبديل دينهم وتبيع الأسلحة بشكل غير قانوني، فيما يتخذ زعيم "الفرع الداوودي" من بعض الصغيرات "زوجات روحانيات" له.
بحلول عام 1993، تولى "مكتب التحقيقات الفيدرالي" [أف بي أي] و"مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات"، التعامل مع هذه القضية، وبلغ هذا الأمر ذروته في المواجهة سيئة الذكر التي انخرط فيها نحو 900 من العملاء الفيدراليين المدججين بالسلاح.
لا يزال الناجون والطلاب في "وايكو" يناقشون عدداً من النقاط الرئيسة في ذلك الحصار، من بينها مثلاً هل كان قوريش وأتباعه ليستسلموا لو أنهم منحوا مزيداً من الوقت، أو من هم الذين أطلقوا النار أولاً خلال غارة "مكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات" التي أسفرت عن مقتل أربعة عملاء، وماذا (أو من الذي) تسبب في الحريق الذي أدى في النهاية إلى إحراق المجمع، ولكن ليس هناك شك في أن الناجين من تلك المواجهة قد أصيبوا بصدمة شديدة في عملية حكومية تعتبر على نطاق واسع من أعظم الإخفاقات الحديثة لسلطات إنفاذ القانون الفيدرالي.
في ذلك الصدد، نقلت هيزر جونز، وهي ابنة أخت زوجة قوريش الأولى راتشيل جونز، أخيراً إلى صحيفة "نيويورك بوست"، عن اعتقادها بأنه "لا يمر يوم واحد من دون أن أفكر في الحوادث التي وقعت عام 1993". وأضافت "لن أطوي تلك الصفحة".
وكذلك تحدث كيفن جونز الذي ولد وترعرع في مجمع "جبل الكرمل" حيث توفي عديد من أفراد أسرته أثناء الحصار، إلى صحيفة "صن يو أس" عن أنه تمنى في بعض الأحيان ألا يكون قد نجا [من الحصار].
وتابع "بدا من السهل تقريباً القول إنه لو أمكننا العودة بالزمن إلى الوراء وعدم المغادرة، وأن نموت هناك مع الجميع، لما اضطررنا إلى التعامل مع أي من الهراء الذي يتعين علينا التعامل معه اليوم [لذلك]، إذاً لتوجب علينا أن نفعل". وأردف، "عانت أختي من الشيء ذاته [....] قد تكون الحياة صعبة للغاية والتعامل معها مؤلم في بعض الأحيان".
قد تشكل "وايكو" ذكرى مؤلمة لمن عايشوا الحدث من قرب، لكنها أصبحت أيضاً [مادة لـ] الترفيه الجماعي، وموضوعاً لعدد من الكتب والأفلام، وكذلك تحولت إلى عمل درامي مرموق للتلفزيون بعنوان "وايكو" في عام 2018. وهناك جزء ثان مكمل [للعمل التلفزيوني] على الطريق أطلق عليه "وايكو وما تلاها" سيجري بثه على شبكة "شوتايم" التلفزيونية، إضافة إلى فيلم وثائقي سيتم عرضه على "نتفليكس" في فبراير (شباط) تحت عنوان "وايكو، يوم القيامة الأميركي".
وبعيداً من رواجها في أوساط الجمهور، لا تزال ذكرى "وايكو" حية بشكل خاص بالنسبة إلى اليمين الأميركي، وفقاً للبروفيسور روبرت تشرشل، وهو مؤرخ من جامعة هارتفورد ومؤلف كتاب "كي يهزوا أسلحتهم في وجه الطاغية، العنف السياسي التحرري وأصول حركة الميليشيات". أصبح حصار "وايكو" من المعايير الأساسية التي اعتمدها اليمين الأميركي في تسعينيات القرن الماضي والعقد الأول من الألفية الثانية.
وأوضح تشرشل أن "أصحاب التفكير الليبرالي الدستوري نظروا إلى [مواجهة] وايكو على أنها [حدث يمثل] ما يحصل حينما تبدأ حكومة يسارية الهوى في استهداف الدوائر الانتخابية اليمينية وتشرع أيضاً في التخفيف من نطاقات سيطرة قوى إنفاذ القانون".
في غضون ذلك، رأى عدد متزايد ممن يتبنون فكرة اقتراب نهاية العالم، أن حادثة "وايكو" وحشود العملاء الفيدراليين المدججين بالسلاح الذين اجتمعوا هناك، تمثل علامة على نوع من المعارك الملحمية خلال الأوقات الأخيرة [قبل القيامة] الموعودة في "سفر رؤيا يوحنا".
وأضاف البروفيسور تشرشل "نظر جيل الألفية إلى تلك الحادثة باعتبارها المستقبل [الذي ينتظرنا] جميعاً".
وعلى رغم أن اليمينيين اليوم لا يذكرون دائماً "وايكو" بشكل صريح، فإن الموضوعات المحفزة [التي كانت] وراء المواجهة وما تلاها، أي سهولة الوصول إلى الأسلحة، وانعدام الثقة العميق في الحكومة، والتفكير التآمري والتفكير بنهاية العالم، ما زالت كلها حية ونشطة.
في ذلك السياق، يبرز أن دونالد ترمب أطلق حملته الرئاسية من "وايكو" في مارس (آذار) الماضي، واعداً بحرب عالمية ثالثة، و"معركة نهائية" ضد "القوى الشيطانية" التي تسيطر على الولايات المتحدة، أمام حشد يضم عديداً من الواقعين في حبائل نظرية المؤامرة "كيو أنون". واستهلت انطلاقة تلك الحملة بأغنية سجلها متهمون سجناء ممن شاركوا في هجوم السادس من يناير (كانون الثاني) على مبنى الكابيتول الأميركي.
ويفيد كتاب "قيامة وايكو" بأن الناجين الفعليين من حصار "وايكو"، تنتابهم مشاعر مختلطة حول الكيفية التي تحولت بها تجربتهم إلى صرخة استنفار وطنية. وعلى رغم أنهم يشاطرون بعض أتباعهم اليمينيين في نهاية المطاف، الشغف بالبنادق [أي ممارسة الحق في حمل السلاح] وانعدام للثقة بالحكومة، إلا أن أعضاء "الفرع الداوودي" كانوا متنوعين عرقياً وسياسياً.
ومع ذلك، باتت مثل هذه الفوارق غير متمايزة مع مرور الوقت، بالتالي تحولت "وايكو" مجدداً من مكان إلى صدمة وطنية لم تلتئم بعد.
وفي أوقات سابقة، تآمرت الجماعات اليمينية مع بعضها البعض تحت ظلال "وايكو" واستخدمتها وقوداً لها. والآن، خرجت تلك الجماعات إلى العلن، وبات من الصعب التمييز بين أفكارها التي تأتي من الهوامش [بمعنى أنها اعتراضية بشكل جذري]، وبين تلك التي تأتي من السائد في التيارات الرئيسة في تلك الجماعات.
وبحسب البروفيسور تشرشل "كان هناك دائماً يمين متطرف. وقبل تسعينيات القرن الماضي، فصل بجدار عن المجال العام. لقد أدت ثورة تكنولوجيا الاتصالات إلى تفكيك ذلك الجدار. ونتيجة لذلك، اختلطت مع اليمين التقليدي وتحدثت معه، بل إنها إلى حد سيطرت على ذلك اليمين منذ ذلك الحين".
مع بروز ذلك الميكروفون الوطني [تكنولوجيا الاتصالات]، انتشرت هذه الأفكار على نطاق واسع.
أوضح داريل جولي الذي حضر بين جمهور ترمب المتجمع في "وايكو"، لصحيفة "اندبندنت"، أن حركة ترمب تستعد ليوم السادس من يناير آخر، لكنها تخشى بطش سلطات إنفاذ القانون.
وفي ذلك الصدد، يشير جولي إلى "أن ترمب يدعم حركة "ماغا" MAGA [الاسم يتشكل من الأحرف الأولى لعبارة اجعلو أميركا عظيمة من جديد، بالإنجليزية]"، وقد ارتدى قميصاً كتب عليه قرب صورة كومة من الجماجم "ليس هناك سوى حزبين الآن، الخونة والوطنيون". وتابع جولي "سوف يحتج اليمينيون. بعض الناس خائفون قليلاً من الاحتجاج أو الإتيان بشيء يشبه ذلك، بسبب الوطنيين في السادس من يناير".
ولكن، بحسب ما يتبدى من [مواجهة] وايكو وحياتها الطويلة بعد موتها، فمن غير الممكن احتواء الاستياء المحتدم كل هذا الوقت قبل أن ينفجر فيتحول إلى شيء جديد.
© The Independent