Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل عمقت حرب أوكرانيا جرح شركاء الأطلسي؟

تصريحات ماكرون وتحركاته تعكس ما يؤمن به من حاجة أوروبا لفك الارتباط مع أميركا

أطلقت قاذفة صواريخ متعددة باتجاه المواقع الروسية على خط المواجهة بالقرب من باخموت (أ ف ب)

ملخص

ثمة جرح كامن في العلاقات الأوروبية - الأميركية يدفع الرئيس الفرنسي للاستقلال بسياسات القارة بعيداً من واشنطن لكنه يواجه تحفظاً عميقاً في شأن فكرة الاستقلال الاستراتيجي

أفادت شبكة "بلومبيرغ" الأميركية، الأربعاء الماضي، بأن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعمل على إعداد خطة سرية بالتعاون مع الصين، تهدف لإنهاء الحرب في أوكرانيا من خلال جمع موسكو وكييف على مائدة المفاوضات خلال الأشهر القليلة المقبلة.

ووفق "أشخاص مطلعين على الخطط"، أوضح التقرير أن ماكرون كلف مستشاره للسياسة الخارجية إيمانويل بون بالتعاون مع كبير دبلوماسيي الصين وانغ يي لوضع "إطار عمل" يمثل نقطة بداية للمفاوضات المستقبلية بين موسكو وكييف.

جاء تقرير "بلومبيرغ" بعد أيام قليلة من عودة ماكرون من رحلة مثيرة للجدل إلى الصين، قال خلالها لنظيره شي جينبينغ إنه "يعول" على بكين "لإعادة روسيا إلى رشدها" وإنهاء الحرب في أوكرانيا.

وخلال الرحلة نفسها، أثار ماكرون الانتقادات بعد إدلائه بتصريحات لصحيفة "ليز إيكو" الفرنسية، قائلاً إن أوروبا لن تستفيد من تصاعد الصراع في تايوان، وإن عليها أن تصبح "قطباً ثالثاً" مستقلاً عن واشنطن وبكين، ما اعتبره الساسة في أوروبا والولايات المتحدة مهادنة تتجاوز اللازم نحو الصين التي تجري مناورات عسكرية حول تايوان.

عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب الألماني نوربرت روتغين وصف تصريحات ماكرون بأنها "انقلاب في العلاقات العامة لمصلحة شي، وكارثة في السياسة الخارجية بالنسبة لأوروبا".

وقال السيناتور في مجلس الشيوخ الأميركي ماركو روبيو إنه إذا كانت أوروبا لن "تنحاز إلى صف الولايات المتحدة أو الصين بشأن الوضع في تايوان، إذاً ربما لا تنحاز إلى أي جانب (في ما يخص أوكرانيا)"، وهو ما دعا السفارة الفرنسية في الولايات المتحدة إلى الرد سريعاً بالقول إن تعليقات ماكرون فسرت بشكل مبالغ فيه.

وكتب باسكال كونفافرو المتحدث باسم السفارة على "تويتر" إن "الولايات المتحدة حليفتنا التي نتشارك معها قيمنا".

جرح كامن

تصريحات ماكرون وتحركاته تعكس ما يؤمن به من حاجة أوروبا لتقليص اعتمادها على الولايات المتحدة أو لفك الارتباط مع السياسة الخارجية الأميركية. هناك عوامل عدة تتعلق بتلك المساعي الفرنسية التي يختلف عليها الأعضاء الآخرون في الكتلة الأوروبية.

ثمة جرح كامن في العلاقات الأوروبية - الأميركية أو بالأحرى الفرنسية - الأميركية يعود لسبتمبر (أيلول) 2021، يتعلق بما وصفه قادة الاتحاد الأوروبي "بعدم الولاء للتحالف عبر الأطلسي"، بعد أن تخلت أستراليا عن صفقة بقيمة 66 مليار دولار لشراء غواصات فرنسية تعمل بالديزل لمصلحة أخرى أميركية في إطار شراكة أمنية ثلاثية تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا تعرف بتحالف "أوكوس"، وهي شراكة استراتيجية ودفاعية تتعلق بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ تهدف إلى التصدي للنفوذ الصيني المتصاعد وتهديدات بكين لتايوان.

في هذه الأثناء شعر الأوروبيون بازدراء أميركي لهم وتجاهل للشراكة العابرة للأطلسي، فتعليقاً على عدم التشاور مع دول الاتحاد الأوروبي بشأن الاستراتيجية الجديدة لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، آنذاك، قال تشارلز ميشيل رئيس المجلس الأوروبي للصحافيين في نيويورك، حيث كان قادة العالم يجتمعون في الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، إن الرئيس الأميركي جو بايدن تجاهل اتفاقاً توصل إليه القادة بعد ساعات عدة من المحادثات بقمة مجموعة السبع في بريطانيا في يونيو (حزيران) 2021 للبقاء متحدين في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، لا سيما الصين، مضيفاً أن "المبدأين الأساسيين للتحالف هما الولاء والشفافية، نحن نلاحظ نقصاً واضحاً في الشفافية والولاء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التوبيخ العلني الاستثنائي للرئيس الأميركي، الذي جرى الاحتفاء بانتخابه في جميع أنحاء أوروبا، كفرصة لتجديد العلاقات بعد أربع سنوات من الخلاف مع سلفه دونالد ترمب، أثار احتمال حدوث خرق خطر تمتد عواقبه طويلاً بين القوى الغربية.

وأشار مراقبون وقتها إلى أن الأزمة الدبلوماسية بين باريس وواشنطن لا تقف عند الحدود التجارية، لكنها تبعث بتساؤل حول الكيفية التي تنظر بها الولايات المتحدة إلى حلفائها التاريخيين عبر الأطلسي، وتساؤل أبرز بشأن سبب استبعاد الحلفاء الأوروبيين من الاتفاق الأمني الثلاثي.

وعلى رغم ما نشهده من ترابط أوروبي - أميركي في دعم أوكرانيا منذ الاجتياح العسكري الروسي، لكن ثمة توترات قابعة وراء الكواليس، والتي ظهرت على السطح في بعض الاستياء من الاستغلال الأميركي لأزمة الطاقة في أوروبا.

في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، شكا الرئيس الفرنسي علناً من أسعار الغاز الأميركي، وخلال مؤتمر بباريس لرجال الأعمال، قال ماكرون إن الدول الأوروبية بحاجة إلى مطالبة الولايات المتحدة والنرويج بقدر أكبر من "الصداقة" ببيع الغاز بأسعار معقولة.

وأفادت وسائل إعلام غربية بأن كبار المسؤولين الأوروبيين "غاضبون" من واشنطن، ويتهمون الأميركيين الآن بالاستفادة من الحرب الروسية ضد أوكرانيا وجني ثروة، بينما تعاني دول الاتحاد الأوروبي كثيراً من العواقب.

ونقلت صحيفة "بوليتكو" الأميركية عن مسؤول أوروبي رفيع لم تسمه، قوله "الحقيقة إذا نظرت إليها بواقعية، فإن الدولة الأكثر استفادة من هذه الحرب هي الولايات المتحدة، لأنها تبيع مزيداً من الغاز وبأسعار أعلى، ولأنها تبيع مزيداً من الأسلحة".

لكن الجرح غير الملتئم بين حلفاء الأطلسي، أقدم قليلاً من تصرفات بايدن، فالرئيس السابق دونالد ترمب أصاب الأوروبيين بكثير من القلق، بداية من مطالبته حلفاء الناتو بدفع مزيد في ميزانية الإنفاق الدفاعي للحلف العسكري وصولاً إلى انسحابه من "معاهدة الأسلحة النووية المتوسطة المدى" الموقعة مع الاتحاد السوفياتي السابق (روسيا حالياً) منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي تمثل أهمية خاصة للأمن الأوروبي.

زادت حدة التوتر بين الطرفين عندما فرضت الإدارة الأميركية السابقة رسوماً جمركية على الفولاذ والألمنيوم المستوردين من الاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبرته باريس "قراراً عدائياً إزاء أوروبا".

الاستقلال الاستراتيجي

التوتر الذي أصاب العلاقات عبر الأطلسي خلال السنوات الأخيرة عزز ما يعرف بـ"الاستقلال الاستراتيجي"، ذلك التوجه الذي يهدف لجعل الاتحاد الأوروبي مستقلاً عن الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية في تحركاته وتصرفاته عسكرياً وسياسياً واقتصادياً، بما يخدم مصلحة الكتلة أولاً.

يقول مراقبون إن إحدى النقاط الأساسية في زيارة ماكرون للصين ومقابلاته الصحافية اللاحقة هو الترويج للاستقلال الاستراتيجي، ففي لقائه مع مجلة "بوليتكو" الأميركية، قال إنه قد "ربح المعركة الأيديولوجية بشأن الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا".

ويقول معهد "بروفيدينس" للأبحاث في واشنطن إن مفهوم "الاستقلال الاستراتيجي" هو الشعار الجيوسياسي للرئيس الفرنسي، فلقد عمل لسنوات على دفع الفكرة جنباً إلى جنب مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. باختصار يأمل ماكرون في الارتقاء بالاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا، العضو الوحيد المسلح نووياً بعد خروج بريطانيا من الكتلة، إلى قوة جيواستراتيجية يمكنها العمل بشكل مستقل في الساحة الدولية من دون تأثير خارجي لا داعي له، بل إنه يرى فرنسا باعتبارها الدولة التي لا غنى عنها لضمان أن الاتحاد الأوروبي ليس "تابعاً" للولايات المتحدة، وبدلاً من ذلك ينبغي أن تصبح كتلة ثالثة في منافسة القوى العظمى بين الولايات المتحدة والصين.

في حين لم يخترع ماكرون تعبير "الاستقلال الاستراتيجي"، الذي ظهر للمرة الأولى في بروكسل عام 2013 في ما يتعلق بصناعة الدفاع، ثم تم دمجه بوثيقة "الاستراتيجية العالمية" للاتحاد الأوروبي عام 2016.

تقول الكاتبة الفرنسية سيلفيا كوفمان إن ماكرون هو الذي سعى، منذ أول خطاب رئيس له حول أوروبا في جامعة السوربون عام 2017 لجعل مفهوم الاستقلال الاستراتيجي سمة مميزة للتكامل الأوروبي بحجة أنه في عالم يزداد تعقيداً وتهديداً يجب على أوروبا أن تمنح نفسها الوسائل لتأكيد نفسها كقوة.

وفي حين كان ماكرون عام 2017 يتمتع بفترة من شهر عسل مع شركائه الأوروبيين باعتبار أن ذلك الوافد الجديد يحمل رؤية وقادر على ضخ حياة جديدة في مشروع اهتز جراء الموجة الشعبوية في أوروبا، لكنه سرعان ما واجه تحفظاً عميقاً بشأن فكرة الاستقلال الاستراتيجي.

تقول كوفمان إن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل لم تعره أي اهتمام واعتبرته دول وسط وشرق أوروبا بمثابة استفزاز خطير يهدف إلى إبعاد الولايات المتحدة، فيما كان السويديون والهولنديون وعديد من الآخرين يشكون في أنها استراتيجية فرنسية أخرى لتحويل أوروبا إلى إقطاعية فرنسية تدار سراً من باريس.

وتضيف أن ماكرون وجد حليفين غير متوقعين في معركته من أجل الاستقلال الاستراتيجي، الذي أعيدت تسميته بالسيادة الأوروبية لجعلها أكثر تقبلاً، وهما دونالد ترمب و"كوفيد-19"، فمن خلال التهديد بإلغاء المادة 5 من معاهدة حلف شمال الأطلسي، التي تضمن الدفاع الجماعي، جعل ترمب القارة العجوز تدرك ضعفها العسكري إذا تعثرت حليفتها الولايات المتحدة، وكشف الوباء بقسوة اعتماد الأوروبيين على الصين عندما احتاجوا لحماية أنفسهم من الفيروس.

البحث عن الحكم الذاتي الاستراتيجي، بحسب مراقبين، ليس حديثاً في الجغرافيا السياسية الفرنسية، لكنه موجود منذ القرنين الماضيين.

يقول معهد "بروفيدينس" إن هذا البحث يعود جزئياً إلى كونه رد فعل على تدمير فرنسا باعتبارها القوة الأوروبية الأساسية بعد معركة واترلو، التي وضعت النهاية لحقبة الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت عام 1815، لكن له أيضاً جذوراً أعمق في الرؤية الفرنسية لنفسها كدولة فريدة منذ القرون السابقة.

ومع ذلك يشير المعهد الأميركي إلى أنه منذ عام 1815 فشلت فرنسا مراراً وتكراراً في تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الذي تريده، لذا يجب على ماكرون أن يختار ما إذا كانت فرنسا ستكون لاعباً قوياً في الكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة أو ما إذا كانت ستواصل محاولتها الفاشلة للعب الأدوار كقوة عظمى، أحد هذه الخيارات يعزز المصالح الفرنسية، لكنه قد يكون حبة مريرة يبتلعها من أجل الكبرياء الوطني الفرنسي.

المزيد من تقارير