Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوم كان شعار الحياة الثقافية الفرنسية "خذوا الحكمة من فم الموسيقي إيريك ساتيه"

صاحب "العرض" و"سقراط" وأعمال كبيرة أخرى كان يوزع حكمه ويحلم بمكانة لا تضاهى

من "العرض" لإيريك ساتيه وكبار آخرين (موقع الأوبرا)

ملخص

نشط داخل تلك الجماعة الثيوصوفية المتفرعة عن طائفة "الزهرة الصليب" غير أن تلك الجمعية لم تلبث أن طردت ساتيه من صفوفها

"ربما يكون الموسيقي أكثر الحيوانات تواضعاً، لكنه أيضاً الأكثر فخراً، التجربة هي شكل من أشكال الشلل الفكري، الأوبرا ليست أكثر من مشهد موسيقي، جو موسيقي تتحرك فيه الشخصيات وتتحدث حيث لا يهم كثيرين. وأنا حلمي أن ألعب في كل مكان، ليس فقط في الأوبرا، ألقيت العام الماضي محاضرات عدة حول الذكاء والموسيقى بين الحيوانات، سأتحدث إليكم اليوم عن الذكاء والموسيقى بين النقاد، الموضوع مشابه إلى حد كبير، مع بعض التعديلات بالطبع، أخذت إلى غرفتي كل ما يمكنني أخذه وتركت الأشياء الصغيرة تتطور ببطء، أنا آكل فقط الأطعمة البيضاء: البيض والسكر والعظام المبشورة ودهن الحيوانات النافقة ولحم العجل والملح وجوز الهند والدجاج المطبوخ في الماء الأبيض وعفن الفاكهة والأرز واللفت والسجق بالكافور والعجين والجبن (الأبيض وسلطة القطن) وبعض الأسماك (منزوعة الجلد)، لقد جئت إلى العالم في سن مبكرة جداً، في عصر كان كبيراً جداً، لقد سئمت من الموت دائماً بقلب مكسور، أنا رئيسك إلى حد بعيد، لكن تواضعي السيئ السمعة يمنعني من قول ذلك".

 

قائل هذه العبارات ليس فريدريك نيتشه حين كان شاباً في بداياته، ولا هو كاتب تال لصاحب "هكذا تكلم زرادشت" يحاول أن يقلد الفيلسوف الكبير أو يسخر من كتاباته، بل هو واحد من كبار موسيقيي فرنسا خلال بدايات القرن الـ20، إيريك ساتيه الذي اشتهر خلال حياته وبقدر ما اشتهر كموسيقي بأعماله الطليعية والمشاكسة.

رفقة طيبة

ولقد وصل ساتيه إلى ذروة شهرته تحديداً يوم انضم في عمل كبير واحد إلى ثلاثة آخرين من عمالقة الفنون في باريس في ذلك الحين في عمل واحد هو "العرض"، الذي حمل أربعة تواقيع لأسماء كبيرة يعتبر أصحابها من كبار الكبار في القرن الـ20، وكل في مجاله: جان كوكتو وباولو بيكاسو والروسي دياغيليف مؤسس تلك "الباليهات الروسية" في فرنسا وأوروبا والتي أحدثت ثورة في عالم الاستعراض، يومها تولى كوكتو الإخراج ودياغيليف تصميم الرقصات وبيكاسو بناء ورسم الديكورات، فيما كانت الموسيقى مهمة ساتيه الذي ربما يصح أن نقول إنه الأشهر بين أولئك الأقران الكبار، غير أنه لم يتعامل معهم إلا بكل تواضع ومحبة تاركاً دائماً موسيقاه جانباً يهتم بها على حدة وموزعاً حكمته وعباراته التي تجمع بين السخرية والعمق في نزعة فوضوية طليعية، إنما عفوية كانت "على الموضة" في زمن الحرب ذاك، يقيناً أن كثراً يومها اهتموا بأقواله وجمعوها وكادوا يعتبرونه فيلسوفاً بأكثر مما هو موسيقي أو بقدر ما هو موسيقي في الأقل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إعادة اعتبار

في ذلك الحين إذا كان إيريك ساتيه وجان كوكتو وبيكاسو ودياغيليف أسماء كبيرة شعراً ورسماً وموسيقى ورقص باليه، حسبنا اليوم أن نذكر أي اسم من هذه الأسماء، حتى يحس المرء نفسه وسط العصر الذهبي للحداثة الأدبية والفنية، والأمر نفسه كان على هذه الشاكلة تقريباً عند بدايات القرن الـ20: كان جميع أصحاب هذه الأسماء كباراً في مجالاتهم وفي عوالمهم، وكانت باريس كلها تفخر بأنهم يعملون فيها، ويقدمون فيها أفضل أعمالهم. فهل كان في وسع هذا كله أن يؤمن لعمل يوقعه واحد منهم نجاحاً حقيقياً؟ من ناحية مبدئية: أجل. واليوم، إن كان قد نسيت أسماء جميع الذين شاركوا فيه، فإن "العرض" يظل مرتبطاً باسم ساتيه واضع موسيقاه، الذي كان من كبار المجددين في الموسيقى في باريس في ذلك الحين، وإذا كان ثمة من بين مؤرخي الموسيقى اليوم من يعتبر العمل، موسيقياً في الأقل، عملاً كبيراً، فإن النقاد الموسيقيين لم يفتهم في ذلك الحين أن يعملوا فيه تحطيماً حتى وإن اعتبرت رسوم بيكاسو خطوة أساسية في تطوره، ونظر إلى إنجازات دياغيليف على أنها من أرفع المستويات التي قدمتها "الباليهات الروسية"، لكن الأهم من ذلك كله أنها كانت مناسبة كبيرة لإعادة الاعتبار إلى موسيقى ساتيه.

"مجموعة الستة"

ففي ذلك الحين، كان إيريك ساتيه بلغ الـ51 من عمره، فكان الأكبر سناً بين المجموعة، لكنه أبداً لم يكن قد دنا بموسيقاه من المسرح، ومع هذا لم ينفصل ما قدمه من أداء موسيقي هنا، عن تلك الموسيقى الخالصة الجوهرية التي كان قد سبق له أن أرهص بها في كل واحدة من القطع التي كان كتبها في السنوات السابقة، وصارت معاً تحمل عنواناً واحداً تعرف به هو "مقطوعات للبيانو". ونعرف اليوم أن الأسلوب الخاص الذي تميزت به تلك القطع، وتميز به أسلوب ساتيه ككل، كان هو الأسلوب المنمق والمصفى تماماً الذي سيصبح خلال المرحلة التالية علامة على الثورة الموسيقية التي أحدثها في الحياة الفنية الفرنسية ساتيه وعدد من رفاقه الموسيقيين "الشبان" في ذلك الحين، من الذين يحملون اسماً جماعياً هو "مجموعة الستة"، وسيحدثون ثورة عارمة في موسيقى فرنسية كانت قد صارت شديدة الكلاسيكية، بالمعنى الرجعي للكلام، وشديدة الرتابة قبل انطلاقتها الجديدة على أياديهم، غير أن إيريك ساتيه لم يتوقف عند زعامته تلك المجموعة، فهو كان أكثر فردية من أن يخوض في نشاط جماعي بقدرة أكثر على المشاكسة والتجديد من أن يكتفي بمديح من هنا أو محاكاة له من هناك، كان يتوخى ليس فقط أن يكون موسيقياً حتى ولو شغل الصف الأول بل يتوق إلى أن يكون أكثر من ذلك من دون أن يعرف بالتحديد إلامَ يتوق.

فضائح

ومن هنا لم يتوقف عن التجديد بل إثارة الفضائح، مثلاً حين قدم عملاً موسيقياً "دادائياً" قاده إلى القضاء، غير أنه لم يكتف حتى بذلك، فالاستفزاز طريقة ما لإثارة الآخرين من موقع يستهدف الندية وفي الموقع الأول، ومن هنا، فإنه سيكون من الواضح لمؤرخي حياته أنه يريد أن يقف "على القمة وحيداً"، صحيح أنه لم يتمكن من ذلك لكنه اقترب كثيراً في أعمال كبيرة راح يشتغل عليها في "جنون ثقافي" خلاق، حيناً في الاشتغال على عرض تال لـ"العرض" صاغه وكتبه وصمم ديكوراته مع الرسام بيكابيا، ثم لاحقاً في "مغناة" سماها "سقراط" (1918) أوصلت الغناء الثقافي الذي سعى إلى "اختراعه" إلى ذروة غير مسبوقة، وهو سيعود إلى التعاون مع بيكاسو في استعراض "زئبق" الذي أعلن أنه يريد منه أن يوصل "شاعريته الموسيقية" إلى ذروة "لم يصل أحد إليها من قبله ولن يتمكن أحد من الوصول إليها من بعده"، وطبعاً يمكننا أن نقول إن ذلك لم يتحقق ولكن لا شك أن إيريك ساتيه (1866 – 1925) توصل على أية حال لأن يحقق ما حلم به طوال حياته ومنذ طفولته كما يروي كاتبو سيرته: أي أن يكون طوال حياته شخصاً مختلفاً، وموسيقياً يتجاوز كونه موسيقياً وإن من دون أن يعرف كيف.

رغبة مدمرة

والجدير بالذكر أخيراً أن الفتى ساتيه، وكان اسمه لا يزال ألفريد - إيريك لسلي - ساتيه، كان لا يزال مراهقاً حين انضم إلى جمعية دينية هرطوقية يتزعمها أب كانت الكنيسة الكاثوليكية قد طردته، وهو نشط داخل تلك الجماعة الثيوصوفية المتفرعة عن طائفة "الزهرة – الصليب"، غير أن تلك الجمعية لم تلبث أن طردت ساتيه من صفوفها، لماذا؟ بكل بساطة لأنها باغتته وهو يسر لرفاق له فيها أن الوقت سيحين يوماً وتقرر الجمعية أن تعلنه معبوداً وتقيم له النصب والمعابد وما إلى ذلك، ويقيناً أن معظم مساعيه التي طاولت ابتكاراته الموسيقية إنما دارت، وطوال حياته، من حول تلك الرغبة المجنونة، وفشله في تحقيقها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة