Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أنهى كيركغارد حب حياته في بضع كلمات ونهر من الدموع؟

عاش بقية عمره يأكله الندم وتدمره سوداويته التي تسببت في القطيعة مع حبيبته ريجينا أولسن

سورين كيركغارد (1813 – 1855) وحبيبته ريجينا أولسن (اندبندنت عربية)

ملخص

ببضع كلمات وبنهر من الدموع أنهى الفيسلوف الدنماركي #سورين_كيركغارد حب حياته وعاش بقية عمره يأكله الندم وتدمره سوداويته

من المؤكد أن الفيلسوف الدنماركي سورين كيركغارد – وتلفظ عادة من دون حرف الدال – لم يكن مدركاً وهو يقول لحبيبته ريجينا في شهر سبتمبر (أيلول) 1849 ومن دون أية مقدمات "إنني أحبك يا عزيزتي كما لم يحب رجل امرأة من قبل ولن يحب من بعد، ولهذا سأتركك مفطور القلب غارقاً في أحزاني"، لم يكن مدركاً أنه إنما يفتتح بالعبارة والموقف بعض أروع وأقسى حوارات المسرح الوجودي الذي سيكون ذا حظوة في القرن العشرين ولا سيما على يد الفرنسي ألبير كامو، بل إن كيركغارد لن يتبادر إلى ذهنه أنه هو الذي سيعتبر المؤسس الحقيقي للفلسفة الوجودية حتى بصرف النظر عن ذلك القرار الذي يكاد يكون عبثياً: قرار ترك ريجينا أولسن خطيبته وحبيبته من دون أن يفكر مسبقاً بما يفعل ولماذا يفعل. كان كل فعله محصوراً في تتبع رد فعلها وهي التي أذهلها إعلانه قرار الترك في وقت لم يكن فيه ولو أدنى إشارة إلى إمكانية حدوث ذلك، بل في وقت كان كل ما في قصة غرامهما وردياً وواعداً بمعرفة الأصدقاء ومباركة "المستشار أولسن" الذي كان قد تحمل ما لا يحتمل في سبيل سعادة ابنته ريجينا لمعرفته بصدق حبها للمفكر الشاب وتعلقها به. مهما يكن من أمر، لن يحاول سورين في تلك اللحظة أن يخفي دموعه المنهمرة بغزارة فيما ظلت هي غائبة عن الوعي بالكاد تدرك ما يحدث وعاجزة عن فهمه.

عشية العرس

والأدهى من ذلك أن المشهد حدث عشية الموعد المحدد للعرس ومن هنا ما سيكتبه كيركغارد عن ذلك في يومياته لاحقاً "... أما إلى أي حد كنت أحبها فهذا ما تكشف عنه واقعة أنني حاولت باستمرار أن أخفي عن نفسي مدى تأثيرها على هذه النفس، وهو موضوع لم يكن يرتبط بالانفعالات الجياشة. لم أكن سأندم وأتوب لو لم تكن لي حياة ماضية، لو لم أكن سوداوياً لكان ارتباطي بها قد جعلني سعيداً أكثر مما كنت أحلم في أي يوم من الأيام. ولكني لما كنت، ويا للأسف، على نحو ما أنا عليه فإن عليَّ أن أكون سعيداً في شقائي من دونها أكثر مما لو كانت معي. لقد أثرت فيَّ وحركت مشاعري فكنت أحب أن أفعل لها كل شيء"، ولكن ما فعله كان أن أرسل إليها في اليوم التالي رسالة وأعاد لها خاتم الخطوبة. وسيذكر دائماً أن "الرسالة موجودة بكلماتها الحرفية" تحت عنوان "تجربة سيكولوجية" في كتابه "مراحل على طريق الحياة". وسيعيش كيركغارد سنوات حياته المتبقية بعد تلك القطيعة وهو نادم على ما فعل حتى وإن حاول بكل قوة أن يجعل "من علاقتي بها مجرد تاريخ لا أكثر لا أذكره أمام أحد ولا حتى لشخص واحد وبقيت صامتاً كالقبر...". وطبعاً لم يرتبط المفكر الشاب من بعد قطيعته مع ريجينا بأية امرأة. بقي مقيماً على ذكرها تلهمه وتدمره. أما هي فما لبثت أن أصبحت "السيدة شليغل" إذ عادت بعد حين واقترنت بذاك الذي كانت على علاقة معه قبل تعرفها إلى كيركغارد وتركته يومها من أجل هذا الأخير.

هكذا أحبها

ولكن كيف تعرف كيركغارد إلى ريجينا وتحت أية ظروف ارتبط بها تلك الفترة السعيدة التي خيل إليه معها أنه عثر أخيراً على حب حياته وشقيقة روحه "تلك التي سأعيش معها سعيداً، كما خيل إليَّ، بقية حياتي"؟ هذا ما لم يحتج إلى من يرويه عنه، إذ نجد الحكاية ماثلة في يومياته (هنا بترجمة عربية لإمام عبدالفتاح إمام في كتابه الشيق عن حياة كيركغارد وفكره الصادر عام 1983 عن دار التنوير في بيروت) حيث يكتب يوم 24 أغسطس (آب) 1849 "ريجينا أولسن، رأيتها لأول مرة في منزل آل روردام. حقاً كنت رأيتها هناك من قبل، لكني لم أكن أعرف شيئاً عن أسرتها (فقد كنت بمعنى ما منشغلاً بشعور معين نحو بوليت روردام ابنة تلك الأسرة والتي كان لها في وقت مبكر تأثير ما فيَّ. وربما كان لي عليها التأثير نفسه لكن ذلك كله كان بريئاً وعلى شكل علاقة عقلية)...". ويخبرنا المفكر هنا أنه منذ التقى ريجينا فتنته و"حتى قبل وفاة والدي (الذي رحل يوم 9 أغسطس 1838) كنت قد اتخذت قراري نحوها. ولكني انشغلت في الدراسة استعداداً للامتحانات. وخلال تلك الفترة كلها تركتها تنفذ إلى أعماق كياني، ثم دعيت إلى زيارة أسرتها وذهبت بعد ذلك إلى جوتلاند. وربما أستطيع أن أقول إنني خلال ذلك كنت أغازلها بأن أعيرها كتباً أو أشير عليها بأن تقرأ فقرات معينة". ويخبرنا كيركغارد هنا أنه عاد في أغسطس نفسه إلى المدينة حيث راح يستغل الفترة حتى بداية شهر سبتمبر في "الدنو منها بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نحو نهاية سعيدة

ويضيف كيركغارد هنا أنه في سبتمبر قرر يوماً أن يضع نهاية سعيدة للعلاقة. فغادر منزله والتقاها في الشارع أمام منزلها، حيث أخبرته أن ليس هناك أحد في البيت "فاعتبرت ذلك دعوة لي للدخول وغامرت بانتهاز الفرصة التي كنت أسعى إليها". وذهبا معاً إلى البيت حيث جلسا في غرفة المعيشة. "وعندما شعرت باضطرابها لوجودنا بمفردنا، رجوتها أن تعزف على البيانو كما كانت تفعل من قبل في المرات السابقة. وبدأت تعزف، لكن ذلك لم يغير من الأمر شيئاً ومن هنا وقفت فجأة وتناولت أوراق النوتة الموسيقية وأغلقتها وألقيت بها على البيانو بعنف وأنا أقول: آه لم تعد الموسيقى تعنيني في شيء. إنما أنت من أبحث عنها، أنت من كنت أبحث عنها منذ عامين!". وظلت صامتة بينما لم أفعل أنا أي شيء لأحركها، لكني سارعت بتحذيرها من نفسي ومن مزاجي السوداوي. ولقد حدث في تلك اللحظة أن راحت تحدثني عن شليغل الشاب الذي كان سبقني إلى حياتها فعلقت قائلاً "فلنضع هذه العلاقة التي تتحدثين عنها جانباً. فقبل أي شيء الأولوية لي أنا". وهنا بقيت ريجينا صامتة تماماً كما يضيف كيركغارد الذي ما لبث أن ترك البيت إذ خشي أن يدخل أحد ويراهما على تلك الحال من الاضطراب. فما الذي فعله هو عندذاك؟

لقاء مع الأب

بكل بساطة توجه إلى مكان عمل المستشار أولسن وتبادل معه حديثاً أدرك من خلاله أنه في الواقع قد أثر في ريجينا تأثيراً شديداً، لكن الوالد لم يقل شيئاً لا بالسلب ولا بالإيجاب، لكنه لم يبد أية ممانعة لمواصلة الشاب علاقته بابنته فما كان من كيركغارد إلا أن طلب لقاءها بصورة رسمية هذه المرة. فكان لقاء جديد يوم 10 سبتمبر، وخلال ذلك اللقاء لم يقل سورين أية كلمة حول الارتباط الرسمي بها "لكنها هي فهمت كل شيء وكانت إجابتها الوحيدة كلمة: نعم!". وهكذا ومن فوره راح العاشق الشاب يوسع علاقاته مع أسرة أولسن كلها مركزاً بشكل خاص على الأب أولسن "الرجل الذي أحببته باستمرار". وأعلنت الخطوبة وراح سورين يلتقيها بصورة منتظمة وغرق في الوقت نفسه في أعماله الكتابية وشؤونه الفكرية "التي كانت دائمة التجاوب معها وغالباً بصورة مدهشة ومفاجئة... يا إلهي لقد بدت وكأنها تعبدني!". وهكذا راح يستخدم كل طاقته لكي يتغلب على تلك السوداوية المتجذرة في أعماقه فيما راحت هي تبذل كل ما وسعها من قوة ومحبة وتفانٍ كي تساعده، ولكن في تلك اللحظات بالذات وإذ بدا له كل شيء غارقاً في السعادة والدعة والحب، ها هو ذا مزاجه السوداوي يتغلب عليه ويستيقظ من جديد ولكن ذلك حدث تماماً في وقت كان إصلاح ريجينا له "قد راح يلقي بعبء المسؤولية كلها على كاهلي، في حين أن شيئاً من الغرور كان يستبد بها سابقاً يعفيني من تلك المسؤولية" كما سيفسر لاحقاً، مضيفاً أن أسوأ ما في الأمر أنه أعتقد أن ذلك كله إنما كان عقاباً من الله. فانتهت الحكاية لتبقى ملهمة لأعمال تحليلية فيما كان هو يغوص في فكره لسنوات تالية تميزت بسوداويته المطلقة التي سيعرف بها حتى رحيله عن عالمنا عام 1856 تاركاً لريجينا في عهدة أخيه كل ما يملك ميراثاً لها!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة