Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السودان الضحية والخراب: أصوات الغربان لا تطرب

جراء التطورات الأخيرة التي ألهبت الأوضاع وعقدتها في ما يشبه الحرب الأخيرة فإن السودانيين لا سيما النخبة يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى بناء سردية جديدة لأحلامهم

مستقبل السودان كدولة قادرة على النماء والتطور والدخول في صلب المشروع الإنساني، يتطلب بناء جديداً للوعي، يأخذ الإرث في إطاره الروحي البعيد من صور التقديس (أ ف ب)

ملخص

أمام السيناريوهات العديدة، فسيبقى هناك جرح غائر في عصب وأوتار #اللحمة_السودانية، يشير إما إلى القفز على كل الوجود القديم لبناء مستقبل مبشر، أو الانتهاء بالتشرذم وهو #السيناريو_المرعب.

عندما قاد السودانيون ثورتهم ضد نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم البلاد لثلاثة عقود، حيث قِيد إلى السجن وانتهت الحقبة المظلمة، التي سادها النظام الشمولي بالقمع والفساد والتسلط، كانت الغالبية تظن أن الأفق سوف يكون مرسوماً بالورد، وأن مرحلة جديدة مقبلة سوف تتحقق فيها كل الأحلام، بيد أن التاريخ يثبت دائماً أن مفهوم "الثورة" معقد ويحتاج إلى مثابرة ووقت طويل.

وقتذاك في لحظات الانتصار، كان بالنسبة لأي شخص يطرح هذه الفرضية أن يُواجه بالمقاومة اللفظية والتهميش باعتباره جاحداً أو أنه غير مؤمن بقدرة هذا الشعب على أن يصنع أمله، بيد أن الأخذ بالمعطيات الواقعية ومنطق الحراك السياسي والمماحكات على أرض الواقع، يقود كل ذلك إلى الرؤية الصحيحة للأمور، أن هناك ما هو مستتر وراء الأفق، وأن ذلك الغائب مأخوذ من صلب نسيج التاريخ والقراءة غير الكرونولوجية له، وفق المناهج الأكثر حداثة التي تعيد تعريف سيسولوجيا الأحداث وإدراكها بتشبيك ووعي اللامرئي والبعيد والمسكوت عنه في البنى العميقة لتجربة الناس وصراعاتهم وسردياتهم في أي مكان ما، ينطبق ذلك على السودان والسودانيين.

في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2022 كانت أربع سنوات قد مضت على شرارة التغيير الأولى، ضمن حلقات من المقاومة المستمرة كان أبرزها في عام 2013، في هذه المرة تهاوت أركان النظام بيد أن المتخفي كان يقول بأن الأعمدة ما زالت باقية لم تُهدم بعد، وهذا ما يشير إلى عمق المسألة المتعلقة بإدراك فكر "التثوير"، بالعمل على الأساس والمتخفيات في بنية النظام، وليس مجرد الهيكل الشكلي الذي في نهاية الأمر لا يحمل سوى مجرد غطاء يشبه الهرم الزجاجي الذي يغلف متحف اللوفر في باريس.

 

استطاع السودانيون تهشيم الزجاج في حين أن البُنى الواقعية للنظام لم تنتهِ، بحيث بات يعيد إنتاج وتدوير نفسه بأشكال عدة وفي مسارات متغيرة وملتوية، ليس من الصعب القول بأن اكتشافها ممكن، غير أن الممارسات الواقعية سواء من جانب السياسيين الذي تطبعوا بفعل الناشطين أكثر من الإدراك الفلسفي لمضامين السياسة، أو من جانب حركة الشارع والمقاومة الشبابية، كانت كلها تشير إلى أن الطبقات المتخفية كانت تتقوى من خلال عدم القدرة على تطوير أدوات التغيير وفاعلية القدرة على بناء منصات جديدة للحراك الاجتماعي، حيث يكمن جوهر الأزمة السودانية في الخلل المجتمعي والنظام الأبوي والإرث المثقل لقرابة خمسة قرون من "الدولة السنارية" التي نشأت في عام 1505 بتحالف بين وافدين وسكان من أهل البلاد.

حتى الجانب الفوقي من الصورة الذي يرتبط بالمؤسسة العسكرية، نظامية كانت أم غير ذلك، فهو الآخر لا ينفك بذات التعقيد ولا يمكن فهمه من خلال الرؤية المباشرة، أو القراءة اللحظية، في بلد كانت دورات حكمه الأطول قائمة على الأنظمة العسكرية، وشهد الحروب الأطول في أفريقيا، فقد استمرت حرب الجنوب قرابة نصف قرن كامل، انتهت بتقسيم البلاد، في حين بقيت ثمة مراكز ملتهبة لم تخمد، تشير إلى الأخطار المستمرة في ظل صراع ما يسمى بـ "السلطة والثروة" أو النفوذ، أو "الكعكعة" كما سبق أن وصفها أحد سياسي جنوب السودان.

واقعياً فإن نظام "الإنقاذ" وهو الاسم الذي بدأ به البشير والإسلاميون – الإخوان - "ثورتهم" التي انتهت إلى نظام قمعي يهيمن على مفاصل الاقتصاد الوطني ودولاب "الدولة"، كان عبارة عن حركة تغيير تأخذ مرتكزها من جوهر ما يعتمل في إرث المجتمع، على رغم أن هناك من حاول أن ينسب هذا النظام إلى ما هو خارج عن مألوف السودانيين، وهذا ليس صحيحاً، وقد تعزز ذلك القول بعد أن أطلق الأديب السوداني الراحل الطيب صالح قولته الشهيرة في التسعينيات "من أين جاء هؤلاء؟". وقد كانت مغالطة أكثر من كونها تساؤلاً حقيقياً، فالنسيج الاجتماعي المتقادم والمتكلس، هو الذي أفرز هذا الشكل الجديد من البناء السياسي، الذي استفاد من متغيرات على الصعيدين المحلي والخارجي، وهو يحاول إنتاج نموذج يُشابه ما حدث في إيران مثلاً، بل أن مصادر بناء النظم الاجتماعية والاقتصاد كانت مُستلّة من تراث مفكرين كعلي شريعتي ومحمد باقر الصدر وغيرهما.

هناك أنساق أخرى يجب أن تُؤخذ في الاعتبار في رؤية الواقع السياسي والاجتماعي في السودان طوال العقود الماضية منذ فجر الاستقلال في يناير (كانون الثاني) 1956، وهي أن مجمل تجربة الاتجاه نحو الحداثة التي بدأها الإنجليز مطلع القرن العشرين، قد انتهت إلى الفراغ أو مصير مُربك، لأن المشروع كان قد بُتّر في مرحلة وسطى، بحيث لم يتح للإنسان السوداني أن يتقدم فيه أو يتملك الأدوات الكافية للاندماج في "الإنسانوية العالمية" أو حركة التحديث التي دخلتها عدد من دول العالم الثالث ما بعد انتهاء مرحلة الاستعمار والمشروع الكولونيالي.

ظل السودان حقلاً للتجريب السياسي، في حين كانت المؤسسة العسكرية هي الأكثر إدراكاً للواقع ليس بوعي يحمل القدرة على التغيير، بل بالرهان إلى المؤسس له سلفاً في إحكام السيطرة والتسلط، بهذا فإن التيارات الحزبية المدنية كانت لا تنفك تلجأ إلى العسكر في بناء سطوتها وتمديدها، حدث ذلك في مجمل فترات الحكم السودانية الطويلة منذ الستينيات وإلى الراهن، بحيث كان تطور النسق السياسي الخارجي بطيئاً، حتى أن "الإنقاذ" التي كانت من المفترض أن تصبح مساراً لبناء مجتمع التغيير وفق أنساق "التثوير الإسلاموي" المزعومة، وأحلام الدكتور حسن الترابي وتنظيراته، انتهت إلى نظام له طابع التسلط العسكري، وفي آخر أيام البشير كان قد لبس البزة العسكرية وعيّن حُكّاماً عسكريين على الولايات، ليعيد الوضع إلى الصفرية التي بدأ بها في عام 1989.

 

هذا الشكل الكُلي أو البراني لحركة السياسة والمجتمع في السودان في متلازمة يصعب فصل جناحيها، يعيد الدارس لحركة "التأريخ" السوداني الحديث، أو فلسفته – إن وجدت – إلى أن هناك عدداً من المفاتيح المركزية في هذا البناء، للأسف لا يُنظر إليها العاملون في حقل الاشتغال سواء التاريخي أو السياسي أو علم الاجتماع، فهم يفكرون في الغالب داخل شعلة الأزمات، أو ينظرون بعين المؤقت للأشياء؛ ليكون ما يكتشفون به الواقع مائعاً لا يمس صلب الهيكل الكبير لبنية العقود والحقب المتراكمة، أي العمل على فهم طبيعة السردية التي يقوم عليها المجتمع، نظم إنتاجه، نسق القبائل، وغيرها من المفردات التي تشير بوضوح إلى تحليل وفهم بنيوي حقيقي وجاد لمعنى أن يحدث التغيير المنشود.

في مقابل ذلك وجراء التطورات الأخيرة التي ألهبت الأوضاع وعقدتها في ما يشبه الفرصة الأخيرة، أو الحرب الأخيرة إن كان للتاريخ أن يتحرك بطريقة غير كلاسيكية، فإن السودانيين لا سيما النخبة يحتاجون اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى بناء سردية جديدة لأحلامهم، تقوم على تشييد هيكل متناسق ورشيق يعمل على إعادة إنتاج هذا المكان المسمى بالسودان، حتى بعد أن أصبح جزءين شمالي وجنوبي، حيث يتم التعامل الآن مع المعطى الجغرافي والسياسي الراهن في السودان القائم فعلياً.

 

هذه السردية الجديدة تدور حول أسئلة طالما كانت تستعمر الأذهان من دون أية إجابات واضحة، وهي فعلياً لا تحتاج للإجابة بقدر ما تتطلب الاستفهام الأكثر إثارة للوعي، وهو ما لم يحدث، لأن دافعية التغيير العميقة لم تتحقق بعد، في ظل هذا الإلحاح المستمر بالارتهان للحظة وتدوير المعارك والاستفهامات. أي أن السرد الجديد للواقع المطلوب للتحريك والابتكار وبناء الجديد، هو عبارة عن مجاز كبير بقدر ما يضع التاريخ في الاعتبار، إلا إنه يعمل على نفيه وإزاحته بخلخلة كبيرة، لها القدرة على إبقاء ما هو جدير بأن يحمل بنية الغد.

 

يبدو الآن سؤال المستقبل مربكاً، في حين تفتت قيم الثورة والتثوير المنتظر أن تؤتي ثمارها، أصبحت مهمة التغيير متعلقة بلهيب السيف والنار وجدل البقاء، إذ لم يكن سكان الخرطوم التي تعبر عن سطوة المركز وقوته في السودان منذ مئتي سنة، يعتقدون بحدوث مثل هذه اللحظة، لكنها للأسف حصلت، وبأبشع ما يمكن تصوره، فنحن نتكلم عن حرب تدور في المدينة، وليس في أحراش الغابات كما جرى في الجنوب، أو مناطق "التهميش" التاريخية كما في دارفور، حيث ولدت قوات "الجنجويد" هناك لتصبح اليوم تلك القوة الضاربة التي تنازع القوة المركزية للجيش السوداني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأمام السيناريوهات العديدة للوضع الراهن، من العودة إلى طاولة التفاوض، التي سبق أن خرقت أكثر من مرة، في تاريخ السياسة السودانية، وخلال "الفترة الانتقالية" الحالية، أو إنهاء القوات النزاع بالهيمنة للطرف الأقوى "تجييشاً"، أو اللجوء إلى البعد الأممي وغيرها من الاحتمالات، فسيبقى هناك جرح غائر في عصب وأوتار اللحمة السودانية، ليس من السهل تضميده، يخفي وراءه ثقل وميراث الأمس، ويشير إما إلى القفز على كل الوجود القديم لبناء مستقبل مبشر ناضر، أو الانتهاء بالتشرذم ومزيد من التقسيمات على المكان وهو السيناريو المرعب.

من ناحية نظرية يبدو الحل سهلاً، لكن التجربة هي المحك، فمستقبل السودان كدولة قادرة على النماء والتطور والدخول في صلب المشروع الإنساني، يتطلب بناء جديداً للوعي، يأخذ الإرث في إطاره الروحي البعيد من صور التقديس والاحتفاء الشكلاني والروتيني، كذلك التخلص من التأليه للحقائق المزيفة، أي ما يعتقد العقل بأنه معرفة سواء بالتاريخ أو الراهن، فالكثير مما يحدث ويدور حول الإنسان قد لا يكون له معنى إلا في حدود ما يحمل من إشراقات باتجاه تفسير الذات ودفعها لتكون أفضل في مجال جديد، هذا يتطلب ذلك الفعل الوثاب والعقل الوقاد الذي يؤمن بالمجموع قبل الفرد.

شكّلت بنية الثورة السودانية ضد النظام السابق، هذه المرجعية من البناء الجمعي، وغرست لها الجذور، لكن ربما هي اقتلعت كما يتجلى في الوضع الحالي، أو في طريقها إلى الاقتلاع  النهائي؛ إذا لم يثابر المتنورون - على الأقل – من مجموع المجتمع، لإعادة تشييد الأفكار ورسم الرؤى لقراءة مبتكرة للذات، عمادها ذلك السرد غير المضلل، التخلص من أسطرة الواقع وإعطاؤه الطابع الجمالي من دون التمسك بالحقائق والملموسات.

 

إن فلسفة التاريخ "التأريخ" تشير إلى أنه من الممكن التقدم بناء على المعرفة و"مناطحة الأوشاب" في إشارة إلى قصيدة للشاعر السوداني يوسف مصطفى التني (1907 - 1969):

لـو طُهِّر السـودانُ مـــــــــــــن دخلائهِ

لـتَطهّرَ السـودانُ مـن أوشـابـه (أي الأوباش)

هذه القدرة على خلق الجدل الفاعل للتغيير، ظلت مدار سؤال منذ الأربعينيات من القرن العشرين ولا تزال، في حين أن الزمن يمضي والسؤال يستعصي ما لم تكن من إرادة كبيرة للتغيير بحق، وهو ما أشار له ذات الشاعر مبكراً، وهو ينشد:

وطنـي شَقـيـتَ بشِيبـه وشبـابِهِ

زمـنـاً سقـاكَ السُمَّ مـن أكــوابِهِ

قـد أسلـمـوكَ إلى الخراب ضحــيّةً

والـيـومَ هل طربـوا لصـوت غُرابــه؟

وطنـي تَنـازعَه الـتحـزُّبُ والهـوى

هـذا يكـيـدُ له وذاك طغى بــه

ولقـد يُعـانـي مِن جَفـا أبنائهِ

فـوق الـذي عـانـاه مـن أَغْرابـه

سيظل السؤال قائماً حول إمكانية بناء السردية الجديدة، بناء على إعمال فكر التغيير، قبلها ربما سيكون المخاض الصعب، كيف يتم اجتياز اللحظة العصيبة والمؤلمة.

 

هل يمكن القول إن المسألة تجاوزت الإجابة على فشل أو موت الثورة السودانية "الانتفاضة" أو القيامة ضد النظام الشمولي وسلطة الديكتاتور والنسق الأحادي؟ أم أن الوقت لا يزال مبكراً.

لا شك أن الحرب الراهنة سوف تكون لها انعكاسات قاسية على السودانيين كذلك على علاقة السودان مع العالم الخارجي، على الأصعدة السياسية والاقتصادية في بلد يكاد اقتصاده في الحضيض، هذا لحجم ما سيورثه القتال من ضحايا ومصابين وأوجاع يطول أمدها، غير أنه من باب الظن والأمل أن الحلول ممكنة، إذا تحركت القوى الاجتماعية خاصة بالاستناد إلى المصادر الروحية داخل نسق البناء المجتمعي، فعبر التاريخ السوداني كان صوت الحكمة ينتفض في التوقيت الذي يظن فيه أن المسألة قد انتهت بلا رجعة.
 

Listen to "السودان... الضحية والخراب" on Spreaker.

المزيد من تحلیل