Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رؤية رفعت الجادري الهندسية ما زالت تشغل العصر

في ذكرى رحيله الثالثة تستعاد افكاره التي بدلت الكثير من المفاهيم

المهندس العراقي رفعت الجادرجي (مؤسسة جادرجي)

ملخص

كيف يمكن للإنسانية في مراحل تطورها أن تواجه الطبيعة الخام؟ الإجابة عن هذا السؤال يقدمها المهندس والمعماري العراقي #رفعت_الجادرجي

في الذكرى الثالثة على رحيل المهندس والمعماري العراقي العالمي رفعت الجادرجي ديسمبر (كانون الأول) 1926 –أبريل (نيسان) 2020، لا بد من عرض مجموعة من أهم أفكار هذا المهندس الذي شغلت أفكاره عالم الهندسة وبدلت في الكثير من التوجهات الهندسية التي كادت تسود في القرن العشرين. ونعرض لأطروحته التي ألقاها في نقابة المهندسين في لبنان عند إعلان إطلاق جائزة رفعت الجادرجي لطلاب الهندسة في عام 1999. وقد ضمت هذه الأطروحة خلاصة ما كان رفعت الجادرجي قد توصل إليه بعد حياة مديدة في العمل الهندسي والمعماري أفكاراً وتنفيذاً.

يرى رفعت الجادرجي أن الإنسانية في مرحلة من مراحل تطورها كان عليها أن تواجه الطبيعة الخام، عن طريق فكر يبتدع التعامل في كل خطوة يقدم عليها، وقتذاك ظهر للوجود تاريخ الإنتاج الإنساني عند الإنسان العاقل الذي نحن من سلالته. فورث الإنسان العاقل منذ ظهوره قبل حوالى ستين ألف سنة قدرات الإنتاج اليدوي المدعم بمرجعية ثقافية هي ذاتها في حالة تطور. ومع ظهور الإنتاج الزراعي ظهر تباعاً الفائض ومع ظهوره ظهر التخصص الممتهن، ومن هنا تم تأسيس الإنتاج الحرفي. وما إن ظهرت المكننة في مطلع القرن التاسع عشر ظهرت علاقات إنتاجية جديدة تختلف جذرياً عما كانت عليه في تاريخ الإنتاج في السابق. فأخذ الإنتاج يتحول من التعامل الحرفي إلى التعامل الممكنن. ومع ظهور المكننة، ظهرت عمارة الحداثة، وظهر معها خلل في الإنتاج فأخذ يسبب هذا الخلل إفراغ شكليات العمارة من إنسانيتها، فتلوثت البيئة المعمارية في مختلف أرجاء العالم، وأصبحت عنصراً فعالاً في تبليد الفكر ولم ينج من هذا التلوث لا المدينة ولا القرية.

فكر الجادرجي 

كان المهندسون اللبنانيون من بين أوائل المهندسين العرب الذين عملوا على تكريس سيرة الجادرجي معمارياً، أولاً عبر إنشاء نقابة المهندسين في لبنان في عام 1999 جائزة باسم المهندس العراقي يتم منحها سنوياً لطلاب متفوقين في الهندسة وكذلك لمهندسين أصحاب مشاريع تعتبر ذات قيمة ثقافية واجتماعية وحضارية خاصة. ثم قام عدد من المهندسين اللبنانيين بتأسيس جمعية "الجادرجي من أجل العمارة والمجتمع" ويترأسها اليوم المهندس اللبناني حبيب صادق الذي يجيب عن الهدف من هذه الجمعية بالقول إنها "زبدة قناعتنا بحاجة المجتمع إلى حركة فكرية وعملانية تعتني بقضايا البيئة المعمّرة، بحيث تشمل العمارة وتداخلها مع المجتمع وأفراده".

أما ما يربط الجمعية بفكر الجادرجي الهندسي فهو نظرة هذا المهندس الفذّ إلى معنى العمارة وأهدافها وتأثيرها في المجتمعات على كل الصعد. فالعمارة في غايتها الاجتماعية هي ظاهرة مرتبطة بنشوء المجتمع الإنساني عبر ابتكارها فضاء مضافاً إلى البيئة الطبيعية، بحسب نظرة الجادرجي والتي تبنتها الهندسة المعمارية المعاصرة بعدما كان قد أطلقها منذ أواسط القرن العشرين وكانت في حينها تعتبر نظرة "كمالية" أو "مرفهة" للهندسة حيث انتشرت فكرة الأبنية الضخمة التي تستوعب أكبر عدد من السكان في شقق صغيرة تحت تأثير دعايات ونظريات الزيادة السكانية في العالم. ويرى الجادرجي أن الهندسة المعمارية في واحدة من أهم وظائفها تعمل لإرضاء الحاجة المركَّبة والمتأصّلة في تكوين الإنسان لتحقيق الفعاليات الاجتماعية كالعمل والتعليم والتثقيف والمتعة وتنظيم المجتمع.

رئيس جمعية الجادرجي صادق يكمل في المنحى الثقافي الجادرجي لتوكيد أهمية جمعية باسمه في لبنان وفي كل بلد عربي وبأسماء مهندسين عرب كثر، كانوا ذوي تأثير كبير في العمارة العالية وفي تغيير النظرة العالمية للعمران ومنهم المصري حسن فتحي واللبناني رهيف فياض والعراقية زها حديد وغيرهم ممن يجب أن يتم الاحتفاء بأسمائهم في العالم العربي كلّه. لذا كانت الجمعية التي تحمل اسم الجادرجي والجائزة التي أطلقتها نقابة المهندسين باسمه أيضاً كمحاولة لنقل العدوى إلى سائر نقابات المهندسين لأننا "نعتقد أن البيئة المعمرة قد أخذت منحى انحطاطياً منذ بداية القرن العشرين ويمكن للمشاهدة فقط أن ترشدنا إلى ما آلت إليه هذه البيئة من تلوث ذوقي وحسي، فالعمارة ظاهرة حية مرتبطة بأيديولوجية عصرها ومجتمعها وتحافظ على قيمها بقدر استمرارها بأن تكون صالحة وذات قيمة اجتماعية وثقافية وجمالية واقتصادية لما تمثّله من استثمار أساسي ورئيسي منذ ولادتها حتى هرمها".

 المعمارية الإنسانية

لحسن الحظ كان رفعت الجادرجي قد ألقى مداخلة طويلة في حفل إعلان «جائزة الجادرجي لطلبة العمارة في لبنان» في نقابة المهندسين في عام 1999. وقد دعي الجادرجي لإلقاء أطروحته كي يحدد نوع الطلاب المحتملين للفوز في هذه الجائزة. وقال حينها في مقدمة أطروحته أنه يريد وضع تعريف محدد للعمارة بأنها كبقية المُصنَّعات، متأصلة في تكوين فكر الإنسان وفي المجتمع لذا فإن ترقيتها أو إفسادها، هو ترقية وإفساد للبيئة النفسية التي يعيشها الفرد والمجتمع. لذا "القصد من أطروحتي حول جائزة تحمل اسمي في لبنان أن تؤلف مرجعية للمحكّمين في اختيار الفائز إذ إن الهدف الأساس هو الوعي بإشكالية العمارة الحديثة وطرح هذه الإشكالية لحوار نقدي جدي".

وفي العناوين العريضة لأفكار رفعت الجادرجي التي حملها معه منذ إنطلاقه مهندساً في سماء بغداد ومنها إلى أنحاء العالم، فإن العمارة تؤلف مقوماً متأصلاً في سلوكيات الفرد مع البيئة الاجتماعية، المتمثلة بالدار والمعبد والمخزن والشارع ومحيطه والحديقة والمساحات الفارغة، أي أن العمارة أساس في إثارة التكوين البصري والحسي والوجداني للفرد في معيشه اليومي لذا فإنها أداة فعالة في الحوار العاطفي والوئامي في تكوين العاطفة الجمعية وفي صياغة همومه عامة. وبقدر ما يُسخِر المجتمع العمارة كأداة فعالة في تحقيق تماسك جمعي فإنها تؤدي إلى تماسك المجتمع عبر الألفة والالتزام والتضامن الاجتماعي، وتحقق الحاجة النفعية من بقاء الجسد وراحته وحمايته من العدو الإنسان الآخر أو غيره من الأعداء كالحيوان والجوائح الطبيعية كما أنها تؤمن التنظيم الحيزي للتعامل مع متطلبات العيش اليومي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويحدد العمران بحسب المهندس الراحل صاحب نصب الحرية الشهير في وسط العاصمة العراقية والذي طلبه الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم ونفّذه بإشراف المهندس الراحل جواد سليم، يؤمن العمران الحاجات الرمزية كمتطلبات الهوية الفردية والجماعية. بل ويمكن للهندسة المعمارية أن تؤمن للفرد مقومات نفسية تدعم الذات في الوجود الواقعي وفي الوجود المتخيل.

أما الحاجة الثالثة والتي تأخذ حيزاً مهماً من تفكير الجادرجي وهي الحاجة الاستطيقية أي تحقيق المتعة الوجودية الذاتية للفكر الإنساني الفردي، وراحة بال هذا الفكر أي أنها تؤمن صوراً منظمة لواقعية الوجود بحيث يصبح التعامل معها سهل المنال ومتكونة من رؤيات مريحة.  

 تطوير فكر المجتمع

على المعماري بحسب الجادري أن يقدم نفسه كمفكر تجريبي عملي وعلمي، بحيث يقف على مكتشفات جديدة لخصائص المادة وعلى طرائق جديدة للتعامل معها لذا يمكن أن يقدم المعمار ويكتشف حاجات جديدة ويتجاوز بها تلك البالية، ويعرض للمجتمع صوراً مبدعة، تعبر عن وجدانه وعاطفة وفطرة واستيهامات مجتمعية. وهي صور لا تُكتشَف، لأن لا وجود لها سابقاً، وإنما تُبتدع من قبل مخيلة الفرد المعماري. وأفضل زمن لمثل هذا التفكير الهندسي هو الزمن المعاصر في العمارة التي بدأت في عصر النهضة وذلك في مطلع القرن الخامس عشر وامتدت حتى يومنا هذا حين أصبح الموقف الفكري من العمارة للفرد وللمنظمات والمؤسسات الاجتماعية، هو موقف المتلقي السلبي، من دون أن يكون له دور فعال في تصورها ورؤيتها، وهكذا أصبح المعمار المعاصر بحسب الجادرجي يفكر ويتعامل مع الحاجة المجتمعية والتقنية المتوافرة. فأدى تفاقم حالة التلقي السلبي إلى جعل أغلب أفراد المجتمع أميّين، نسبة إلى تعقيدات رؤية العمارة وتصنيعها، كما جعل المعمار أمياً نسبة إلى المتطلبات الحقيقية لأفراد المجتمع وهمومهم. كما أدى إلى تغير جذري في صيغة التماسك الذي يعتمده المجتمع في تنظيم علاقاته. فبينما كانت مقومات التماسك في المجتمع التقليدي طقوم موروثةً ثقافياً ومستقرة نسبياً، وهي التي كانت تتأسس على الولاء والالتزام، أصبحت صيغتها، في عالم الحداثة، تتأسس على طقوم متعددة، متغيرة، ينتقي الفرد منها ما يشاء، ويستحدث منها ما تشتهي مركبات هويته.

مما تقدم، يتضح أنّ العمارة المعاصرة، وامتدادها في الحداثة قد ظهر معها خلل متأصل في تكونها، أو أن المقومات التي كانت السبب الحقيقي لظهورها إيجابية وسلبية وارتبك الفكر في مختلف مراحل الإنتاج وأصبح عاجزاً عن الأداء المجدي. كان ذلك على رغم أن هذه المقومات ذاتها هي السبب في ابتداع عمارة متميزة جداً، إلا أنها تمثل حالات نادرة وخاصة، فمنذ منتصف القرن التاسع عشر ظهرت بيوت العمال والمعامل التي تفتقد أي عاطفة إنسانية أو سمة رمزية أو استطيقية. وحققت الحداثة في المقابل روائع متعددة من جسور ومحطات قطار وبيوت زجاجية.

أما في زمن العولمة بحسب الجادرجي، فقد تم فصل الشكلية عن واقعية الإنتاج وهموم المجتمع، وأصبح التعامل معها لا يهدف إلى أكثر من اللعب والتلاعب على شكليات كانت جردت أصلاً من مضمونها الاجتماعي والتصنيعي، وبذلك منحت معان جديدة. وهذه المعاني غالباً لا صدى أو دلالات لها سوى في مخيلة هؤلاء وهي مقصورة عليهم.

اقرأ المزيد

المزيد من فنون