"عزاء اليوم من دار المناسبات يحييه أستاذ التلاوات القرآنية المباركة القارئ فلان والمعروف في العزاءات الدولية والعربية والإسلامية، أستاذ النغم والمقامات وفخر محافظة الغربية وكروان مدينة طنطا. وخدمة التصوير فيديو وفوتوغرافيا للجنازات والعزاءات متوفرة إن شاء الله. رجاء الاتصال على الرقم التالي".
تدوينة المصور الذي يقوم بمهمة التسويق لنفسه كمصور عزاءات وجنازات والمقرئ صديقه لاقت استحساناً من عدد لا بأس به من مستخدمي "فيسبوك" الذين مروا على صفحة "تصوير المناسبات".
"تصوير المناسبات" ليس بدعة أو عجبة، لكنه بكل تأكيد صرعة ابتدعها مشهورون وميسورون ومهووسون بتوثيق الاجتماعيات لأسباب عدة، حتى وإن كانت عزاءات وجنازات.
جنازات خاصة
جنازات الرؤساء والملوك وكبار المسؤولين (شرط أن يكونوا وقت وفاتهم حاليين وليسوا سابقين)، بالإضافة إلى جنازات الفنانين والسياسيين والشخصيات العامة هي التعارف الأول بين المصريين والجنازات والعزاءات المصورة.
يقول شفيق عواد، 80 عاماً، "إنه يحتفظ بشرائط فيديو عليها جنازات رئيسي مصر الراحلين جمال عبد الناصر وأنور السادات. كما أن لديه مقاطع من تشييع الفنانين الراحلين فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وأم كلثوم". يضيف "هذه أشهر الجنازات لأشهر الشخصيات. وطبيعي أن يتم تصوير مثل هذ المناسبات، على الرغم من أنها مناسبات حزينة، لأنها وقائع تهم الملايين وينبغي أن تبقى مكتوبة ومصورة من أجل التاريخ. لكن غير الطبيعي أن يتحول تصوير الجنازات إلى باب دائم في المواقع الخبرية وصفحات الجرائد والمجلات".
جنازة عزت أبو عوف
صفحات الجرائد والمجلات والمواقع الخبرية بالفعل عامرة بكم هائل من تفاصيل جنازات وعزاءات المشاهير. "شاهد من حضر جنازة الفنان الراحل عزت أبو عوف". "اقرأ تفاصيل عزاء عزت أبو عوف". "صور حصرية من عزاء عزت أبو عوف". "تعرف على أسباب عدم حضور هؤلاء الفنانين عزاء عزت أبو عوف". "شاهد أبرز الفنانات اللاتي حضرن لتعزية شقيقات عزت أبو عوف". "شاهد أقارب عزت أبو عوف الذين لا تعرفهم". "بالفيديو بكاء الفنانة لبنى عبد العزيز في عزاء عزت أبو عوف". "بالفيديو شاهد لحظة انهيار مها أبو عوف". "شاهد دموع الفنانة يسرا اللوزي". "شاهد نظرات أرملة عزت أبو عوف لشقيقات زوجها". صفحات البحث العنكبوتي عن جنازة عزت أبو عوف متخمة بكل صغيرة وكبيرة مصورة وموثقة، بل ومزودة برؤية حامل كاميرا الفيديو والصحافي والمصور الذين حضروا.
تصوير الجنازات... الأكثر مشاهدة
يقول "ب.م"، فضل عدم ذكر اسمه، أحد الصحافيين المتخصصين في تغطية الجنازات والعزاءات، وهو تخصص حديث نسبياً ولد من رحم صرعة توثيق جنازات وعزاءات المشاهير لا سيما الفنانين، "إنه يشعر بحزن وأسى عميقين كلما طلب منه رئيسه تغطية جنازة أو عزاء. المطلوب مني ومن مصوري الفيديو والفوتوغرافيا اختراق خصوصية أهل المتوفى ومحبيه، وتوجيه أسخف أنواع الأسئلة لهم. كيف تشعرون؟ هل أنتم غاضبون لأن الفنان فلان المشهور صديق المرحوم لم يأت الجنازة؟ كيف كانت الأيام الأخيرة للمرحوم؟ هل صحيح أن المرحوم كان يشعر بدنو الأجل؟ هل تعتقد أن المرحوم راض عن كم الحضور في جنازته؟".
يضيف: "أشعر بضيق وتوتر شديدين كلما توفي أحد المشاهير في القاهرة، لأن ذلك يعني بالضرورة أنني سأقوم بعمل أكرهه، لكن ما باليد حيلة".
لكن بحسابات المشاهدة ونسب القراءة وعداد الـ"لايك" والـ"شير" تصوير الجنازات وتغطية العزاءات حيلة رائعة لضمان الشعبية وتحقيق الانتشار.
نظرة سريعة إلى قوائم "الأعلى قراءة" و"الأكثر مشاركة" و"الأكثر تفضيلاً" تشير إلى ترجيح كفة العزاءات والجنازات لا سيما تلك التي تحوي كثيراً من النميمة والقيل والقال وملابس الفنانات ودموع الفنانين وحضور السياسيين وغيرها من توابل الجنازات ومحسنات العزاءات.
محرمات مشروعة
يقول أستاذ علم النفس الدكتور أحمد سعيد "إن هوس البعض بمتابعة صور وتفاصيل عزاءات المشاهير تضخم عبر السوشيال ميديا. فهذه الأخبار والصور والتفاصيل الدقيقة أشبه بمن ينظر من ثقب الباب ليطلع على ما يفعله الآخرون. تتوافر فيها صفات التلصص واختراق الخصوصية وانتهاك المشاعر. وعلى الرغم من أن الغالبية المطلقة من الناس تعرف جيداً أن كل ما سبق عيب أو حرام، لكن الغالبية أيضاً تستسلم لحب الاستطلاع وتنقر على المشاهدة وتتصفح التفاصيل. والحقيقة إن تبني الإعلام لهذه الأخبار والصور والأفلام المصورة باعتبارها أخباراً تهم القارئ جعلها أخباراً مشروعة ونفى عنها صفة العيب أو شبهة اختراق الخصوصية أو حتى المتاجرة بمشاعر الحزن والأسى لفقدان الأعزاء".
الأعزاء الذين يرحلون عن دنيانا من عالم الفن والسياسة يجدون من يحلل اختراق جنازاتهم وعزاءاتهم تحت راية "نقل الأخبار"، أو "تغطية الفعاليات". وبتحول هذا النوع من النقل والتغطية إلى أبواب ثابتة في وسائل الإعلام المختلفة، بات قطاع عريض من المشيعين والمعزين يهيئ نفسه مسبقاً لتجسيد مشاعر الحزن والإمعان في إظهار الأسى.
يقول سعيد: "بالطبع هناك من لا يدعي أو يمثل، بل يتصرف بطبيعته ويكون حزنه حقيقياً لا رياء فيه. لكن توجه المشاهير إلى جنازات وعزاءات زملائهم وزميلاتهم بات يعني ضمناً خضوعهم للتصوير أو التصريح. لذلك بتنا نجد فناناً مشهوراً يرسم ملامح أسى على وجهه رغم أن المرحوم كان من ألد أعدائه، أو فنانة تجفف دموعاً سيالة لم تؤثر على كحل العينين وحمرة الخدين". ويضيف: "بصراحة شديدة، تصوير جنازات وعزاءات المشاهير يسلب الموتى حق ذويهم في الحزن الحقيقي عليهم وخصوصية إجراءات الدفن والعزاء".
لكن يبدو أن خصوصية إجراءات الدفن والعزاء، واحترام مشاعر المشيعين والمعزين دون ادعاء أو تمثيل لم تعد أولوية قصوى أو غاية تنشد للبعض من المواطنين العاديين. فقد تنامت ظاهرة تصوير جنازات وعزاءات الأهل بطريقة غريبة في السنوات الأخيرة.
يقول سعيد: "على الرغم من أن الثقافة المصرية تميل إلى الإشهار في حالات الأفراح والأحزان، فإن حمى كاميرات المحمول ألحقت الكثير من الضرر لهذه الثقافة. وكما بتنا نعتاد رؤية مواطنين يقفون لتصوير حادث مميت أو معركة في الشارع أو حادث تحرش بكاميرات هواتفهم المحمولة، فقد أصبح كثيرون يتعاملون مع تصوير العزاء وكأنه أمر عادي".
تقول لمياء الفار، 42 عاماً، مهندسة، توفى والدها قبل نحو عام "إنها فوجئت بأبناء أشقائها يصورون جنازة جدهم بهواتفهم المحمولة، فما كان منها إلا أن انتزعت هواتفهم وأمرتهم بمسح ما صوروه واحترام حرمة المناسبة والتركيز في مشاعرهم وترك أهل المتوفى لمشاعرهم الحقيقية دون ممارسة ضغط الكاميرا عليهم".
تقول: "سمعت كثيراً عن أشخاص يصورون مناسبات كتلك وكنت أتعجب من الفكرة. إلى أن وجدت نفسي ومن أحبهم قيد التصوير، حقيقةً الفكرة سخيفة ومرفوضة تماماً".
لكن ما هو سخيف ومرفوض للبعض هو عين المطلوب وغاية المنى للبعض الآخر. ينفي "الفنان" أمجد السيد، مصور فيديو مناسبات، عن تصوير العزاءات صفة السخافة. يقول: "كما نحب تصوير أعياد الميلاد والأفراح لماذا لا نصور العزاءات؟! أحياناً يحب الأهل الاحتفاظ بفيلم وصور الراحل على سبيل الذكرى. كما أن البعض يستخدم التوثيق بالتصوير ليرصد من جاء لتقديم واجب العزاء ومن لم يحضر، للعتاب أو رد المجاملات".
وبالإضافة إلى توثيق الذكرى والرصد للعتاب ورد المجاملات، ما لم يذكره فنان الجنازات هو العائد المادي الكبير الذي ينجم عن دخول العزاءات على خط المناسبات الخاضعة للتصوير. يقول: "يعتقد البعض أن تصوير عزاء مهمة سهلة، لكنه فن مثل بقية الفنون. الانتقال من المقرئ إلى أهل المتوفى ثم وجوه المعزين وأجواء العزاء وجميعها يحتاج نظرة فنان وعدسة محترف".
الاحتراف لا حدود له، وكم من عزاء ينقل الحاضرين من كونهم معزين إلى راسمين للمشاعر ومجسدين للأحاسيس، ولسان حال البعض الموجه لأهل الفقيد "شوفتني وأنا بعيط؟!" (هل رأيتني بينما أبكي؟) أما أهل الفقيد فيردون "شكر الله سعيكم، وصوّر المصور حضوركم".