Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حوار فرنسي - بريطاني بين فرانسيس بيكون ومرغريت دورا

"إنه أكثر من فنان بل أعمق من مفكر ولا سيما حين أوصلته أزمته التعبيرية إلى التدمير"

فرنسيس بيكون (1909 – 1992): حوار الكبار (غاليري بارتو)

ملخص

"إنه أكثر من فنان بل أعمق من مفكر ولا سيما حين أوصلته أزمته التعبيرية إلى التدمير" هذا ما توصلت إليه الأديبة الفرنسية #مرغريت_دورا خلال حوارها مع الرسام البريطاني #فرانسيس_بيكون

خلال السنوات الأخيرة من حياتها، وبعد وصولها إلى ذروة الشهرة والمكانة ككاتبة روائية ثم ككاتبة ومخرجة سينمائية وفي خضم ذلك، كسيدة مجتمع كبيرة وأيقونة ثقافية ونجمة إعلامية في فرنسا، ارتأت مرغريت دورا – وربما في انتظار حصولها على جائزة نوبل الأدبية التي كانت كما يبدو حلم أحلامها لكنها سترحل عن عالمنا من دون أن تحصل عليها كما نعرف -، ارتأت أن تخوض معتركاً إبداعياً كانت تحلم بخوضه منذ زمن بعيد لكنها لم تفعل ذلك. هذه المرة قررت أن تفعلها ولكن ضمن شروطها هي وعلى طريقتها. لقد أرادت أن تخوض عالم الحوارات الطويلة ولكن دائماً مع "نجوم كبار" في مجالاتهم تعتبر نفسها نداً لهم وترى أنهم بدورهم ينظرون إليها على هذا الأساس. وطبعاً من الواضح أنها كانت محقة تماماً في ذلك. فهي بعد كل شيء كانت نجمة النجمات في مجالها ولا سيما منذ النجاح الأسطوري الذي حققته روايتها "العاشق" التي ترجمت إلى عشرات اللغات وراحت توزع وتقرأ بمئات ألوف النسخ ثم بملايينها، وتتحول إلى فيلم نال من النجاح ما تجاوز كل التوقعات.

حوار مع الرئيس

إذاً في مجال اختيارها "المهني" الجديد لم يكن صدفة أن تختار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران كأول اختبار لها في هذا المجال. وكان الرجل في ذروة سلطته ومعروفاً بذكائه الخارق ولؤمه التهكمي وقدرته على السيطرة على أي محاور له. كان باختصار رجلاً أسطورياً، ومن هنا حين حاورته دورا ونشرت الحوار على صفحات مجلة جديدة – ستصبح أيقونية بدورها قبل أن تختفي مأسوفاً عليها – هي "المجلة الأخرى" l'autre journal  التي نشرت الحوار على أربع حلقات طويلة معتبرة إياه أهم إنجازاتها كمجلة للأذكياء فقط، كان الأمر بالنسبة إلى دورا خبطة "بداية" على حجم طموحاتها فتابعت المسيرة مختارة لكل حوار من تتوخى فيه أن يكون نجم النجوم في مجاله. ومن هنا كان من الطبيعي أن تتجه بناظريها ناحية ذلك الرسام البريطاني المعتبر من كبار رسامي النصف الثاني من القرن العشرين، فرانسيس بيكون، لتحاوره هو الذي كانت تعرف على أية حال أن كبار الكتّاب والشعراء في القرن العشرين لم يولعوا برسام حي بقدر ما أولعوا به. مدركين منذ وقت مبكر، وعلى حد تعبير صديقه الفرنسي الشاعر ميشال ليريس، ما في لوحاته من بعد معاصر، ومن شاعرية تلوح من خلال شفافية الأشكال المشوهة التي سكنت تلك اللوحات من بداياتها، مدركين أيضاً ما يريد ذلك الرسام الذي يختلط لديه المرح بالمأساة، أن يقوله، من خلال شخصيات تملأ فضاء اللوحات وتحيل المكان الذي ترسمه اللوحة إلى قضبان تحيط بالشخصية وتأسرها من كافة الجهات.

أكثر من لغة فنية

ومن هنا ومن منطلق أن فن بيكون يتجاوز كونه فناً تشكيلياً ليتبدى في جوهره تعبيراً عن فكر إنساني عميق، توجهت مرغريت دورا إلى بيكون وحاورته ليأتي الحوار وبحسب الرسام نفسه، أعمق ما أُجري معه من حوارات طوال حياته. والحقيقة أن الحوار شكل في حد ذاته حين ظهر أول الأمر بالفرنسية، حدثاً فكرياً وفنياً وصحافياً كبيراً وراح يترجم ليتخذ بالتدريج طابعاً أيقونياً.

منذ بداية الحوار وفي أول "مداخلة" لها فيه وهي تواجه الرسام معتبرة إياه مفكراً بقدر ما هو فنان، سعت دورا إلى تحديد، ليس فقط نوعية الحوار ومستواه، بل خاصة موقعها هي نفسها من الحوار ودورها فيه. إذ سرعان ما كشفت لبيكون أنها ليست هنا لكي تطرح عليه أسئلة محددة كما يفعل "الصحافيون" بمن فيهم أكثرهم موهبة ونجاحاً، بل لكي تحاوره من موقع الندّ، وهو ما سوف تنجح فيه إلى درجة مدهشة وينجح بالتالي محاورها في تقبله بكل رحابة. وهكذا دار نوع من "حوار الكبار" بينهما بحيث تحول المشروع إلى ما يكاد يكون "مونولوغين" حول الحياة والفن ودور الفكر فيهما بأسلوب بدا فيه بيكون مبهوراً بأكثر حتى مما كانت دورا تتوقع.

قضايا متنوعة

وبشكل خاص سيطاول الحوار مجموعة كبيرة من المسائل ربما في مقدمتها التفاعل الثقافي بين البلدين الجارين والتكامل الثقافي بينهما انطلاقاً في كون بيكون ذا ثقافة مزدوجة في هذا المجال وشديد التأثر بالثقافة الفرنسية فنياً وفكرياً. بل ستقول دورا لاحقاً في تعليقها على الحوار أن بيكون بدا لها من أكثر الإنجليز إلماماً بما يحدث طوال القرن العشرين في فرنسا وليس على الصعد الفنية والثقافية فقط "بل كاد يبدو لي أكثر مني فرنسية ويفوقني أوروبية بكثير". وهي ستذكر دائماً تعبيره عن اهتمامه بمصير الغرب ولكن أيضاً بمفاهيم كالسعادة التي استفاض متحدثاً عنها في ذكر فلسفة سبينوزا كما عبر عن كون الكتابة والرسم جزءاً عضوياً من كينونته مركزاً من الناحية الفنية على دوشام وغويا باعتبارهما معاً مرجعيين بالنسبة إليه ثم خاصة على السريالية والفن التجريدي. وكان ممتعاً لدورا – كما سوف تقول في ظهور تلفزيوني لها تواكب مع إقامة معرض تراجعي باريسي لأعمال بيكون – أن تستمع إلى الرسام "الذي بات صديقاً لي منذ ذلك الحين" وهو يخبرها بلغة "تبدو وكأنها لغتي أنا نفسي" كيف أنه لا يبادر إلى رسم أي لوحة "مهما تزاحمت الأفكار في ذهني، بل أشغل نفسي بشتى الأعمال العادية وغير المهمة في انتظار "الحادث" الذي سيطرأ وحين يطرأ انغمس في إنجاز لوحتي تماماً بسرعة قياسية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مسيرة حياة

فرانسيس بيكون الذي رحل عن عالمنا في أبريل (نيسان) 1992 بفعل أزمة قلبية نتجت من نوبة ربو ألمت به، بشكل مفاجئ، كان، حين وفاته لا يزال في قمة عطائه، على رغم أنه كان يومها في الثالثة والثمانين من عمره. فهو ولد عام 1909 في دبلن بإيرلندا، من والدين إنجليزيين. وكان في الخامسة من عمره حين انتقلت الأسرة لتقيم في لندن، غير أن ذلك لم يمنعه من التنقل منذ ذلك الحين بين لندن ودبلن، ما جعل وعي الفتى يتفتح على عالمين ثقافيين سوف يتكاملان لديه لاحقاً في 1925 حين ترك الأسرة متخذاً قراره بأن يصنع مستقبله بنفسه وبأن يكون مستقبله فنياً، وكان قد اكتشف الأدب والرسم قبل حين واطلع بشكل جيد على أعمال الرسامين الألمان والهولنديين. ولقد تلت ذلك ثلاث سنوات (1926 - 1928) تنقل فرانسيس خلالها بين برلين وباريس، حيث اكتشف، إلى جانب الرسم، فن السينما وبخاصة لدى بونيال وايزنشتاين ثم اكتشف السورياليين وأعمال المصور ساندر الفوتوغرافية، ولكن بخاصة لوحة "مجزرة الأبرياء" للفرنسي بوسان التي لن تبرح خياله بعد ذلك أبداً، وستكون واحداً من الأسس التي بنى عليها فن الرسم لديه.

اكتشاف قارة جديدة

هذا كله أخبر به بيكون محاورته التي ستعترف لاحقاً أن ما من محاور لها ترك لديها انطباعات تماثل ما تركه ولا سيما حين راح يحدثها عن المرحلة التي بدأ يرسم فيها وأدهشه أن يرسم لوحات بدأت تلقى ترحيباً من لدن السورياليين الفرنسيين بخاصة "من دون أن أكون قد فهمت شيئاً من نظرياتهم"!. وهو راح يرسم بكثرة ويشارك في معارض جماعية ولا يتوقف عن التردد على فرنسا حيث راح يرتبط بصداقات مع شعراء رسمهم مثل فيليب سوبو وميشال ليريس، كما مع فلاسفة من أمثال جورج باتاي اكتشفوا الأبعاد الفلسفية للوحاته، ويمكننا هنا أن نتصور مقدار انبهار دورا وهي تصغي إليه "بكل جوارحي يحدثني عن تلك الأسماء الأسطورية والفرنسية الخالصة". كما يمكننا أن نتصور افتتانها الخاص حين راح يروي لها أنه وعلى رغم إعجاب المثقفين بأعماله، كان لا يفتأ يعبر أزمات خلق مرعبة. "ولقد قادتني واحدة من تلك الأزمات لأن أدمر كل لوحاتي، ما عدا عشر لوحات آثرت استبقاءها". وكان ذلك في عام 1941. بعد ذلك بقي بيكون منكباً طوال عشرة أعوام على محاولة العثور على مفتاح جديد لإبداعه، "وهكذا توصلت في نهاية سنوات الأربعين إلى اكتشاف قارة تعبيرية جديدة هي وجه الإنسان وجسده".

المزيد من ثقافة