Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جول فيرن يعكس العقلية الإنجليزية من خلال مغامرة عائلية

"أطفال القبطان غرانت": دراسة سيكولوجية معمقة لشخصيات الرواية تستبق فرويد

من رسوم وضعت لطبعة مبكرة من "أطفال القبطان غرانت" (أمازون)

ملخص

استبق الكاتب الفرنسي #جول_فيرن #فرويد بكتابة دراسة سيكولوجية معمقة لشخصيات روايته "أطفال القبطان غرانت"

لم يكن الكاتب الفرنسي جول فيرن مولعاً بالسفر، ولا أثر عنه أنه قام بسفرات طويلة وجدية خلال حياته التي امتدت حتى التسعين تقريباً وعاشها بين 1828 و1905، ومع ذلك تشعبت أماكن أحداث رواياته لتشمل مجمل أنحاء الكرة الأرضية واصلة إلى أعمق أعماق البحار كما إلى سطح القمر بل حتى داخل الأرض وعبر فوهات البراكين. فليس ثمة مكان في العالم يعصى على ذلك الكاتب المدهش الذي لم يقم في حياته بأكثر من جولات بحرية لا تبتعد كثيراً من البر. وهو كان لا يكف عن القول أمام أصدقائه بأنه لا يحب الكتابة ومع ذلك خلف أكثر من 80 رواية كتبها خلال 43 عاماً ونشر قسمها الأكبر على نطاق واسع في الفرنسية كما ترجمت إلى لغات أوروبية أول الأمر ثم إلى شتى لغات العالم بعد ذلك، فكان يقول حين يسأل عن ذلك إن السبب إنما هو ناشره الذي سيشتهر بفضله "هتزل"، الذي كان يربطه بعقود تلزمه العمل بصورة يومية طوال سنوات خصوبته الكتابية.

لا مبالاة!

ثم إن فيرن حتى وإن شهد ولادة الفن السابع خلال سنوات حياته الأخيرة لم يفته أن يعلن أنه غير مبالٍ بهذا الفن الجديد "الذي سيندثر حتماً ولن يلقى أية شعبية مهما تطور"، غير أنه وبعد رحيله إثر احتفال الفن السابع بمرور عشر سنوات على بداياته سرعان ما تحول فيرن دون أن يعي ذلك إلى أول "سيناريست" لسينما الخيال العلمي، التي ستستلهم معظم إنتاجه الروائي طوال القرن التالي بأكمله، بدءاً طبعاً بما فعله جورج ميلياس، المعتبر المؤسس الحقيقي للخيال – العلمي بفيلمه المبكر "الرحلة إلى القمر" (1902) المقتبس عن واحدة من أجمل روايات فيرن وأكثرها طموحاً. ولا شك أن "نفور" فيرن من السينما لم يكن سوى تعبيره عن عدم "توقعه" وجودها، وهو الذي يمكن القول إنه توقع كل تلك التجديدات التي عرفتها البشرية في العلم والجغرافيا وما إلى ذلك. ويقيناً أنه لو عاش فيرن أطول من ذلك لأضحت السينما جزءاً من موضوعاته الأثيرة، لكن الزمن تكفل بذلك حين جعل مئات الأفلام في الإنتاجات السينمائية في العالم أجمع تنبني على مواضيعه.

مفاضلة مستحيلة

والحقيقة أنه يصعب على أي باحث أو حتى على أي قارئ عادي من الملايين التي تقرأ فيرن وتعيد قراءته، المفاضلة بين تلك الروايات غير أن ثمة من بينها ما حقق شهرة أكبر، بل ثمة روايات ظلت في الواقع محتفظة بحس المغامرة والتوسع المكاني واللجوء إلى خيال غير محدود، لكنها تميزت، في رأي النقاد والباحثين الأكثر جدية، بأبعاد أدبية جديرة بالدراسة في حد ذاتها، لتعمق الكاتب في بناء شخصياتها، وتجديده في المواقف التي تتواءم مع سيكولوجياتها ودوافعها، في استباق للفرويدية أو للأسلوب السينمائي في تحليل الشخصيات. وفي هذا الإطار يبرز عدد لا بأس به من النصوص الفيرنية مثل "أطفال القبطان غرانت" التي تشغل مركزاً متوسطاً في بيبليوغرافيا الكاتب وستكون طوال القرن العشرين محط اهتمام أهل السينما والتلفزة ومبدعي الشرائط المصورة، بل إن من خصائصها الكاتب نفسه قد تعلق بها إلى درجة أن قام بتحويلها إلى عمل مسرحي قدم للمرة الأولى على الخشبة الباريسية عام 1878، أي بعد عشرة أعوام من صدورها فنالت نجاحاً استثنائياً.

مغامرات ولكن...

ومع ذلك لم تكن "أطفال القبطان غرانت" في نهاية الأمر سوى رواية مغامرات واكتشافات أخرى من إبداعات فيرن تدور أحداثها الرئيسة من حول الشواطئ الأسترالية الجنوبية التي كان وجودها والقراءة عنها منشطاً لمخيلة قارئي تلك الحقبة. وتبدأ أحداث الرواية التي صدرت عام 1867 من خلال اليخت العائد للثري البريطاني لورد غلينافان الذي يحدث له وهو يصطاد في البحر القريب من دياره أن يلتقط زجاجة مع الأسماك تم فيها اكتشاف رسالة من قبطان بحري يدعى هاري غرانت كتبت بالإنجليزية والفرنسية والألمانية تخبر أن سفينته "بريطانيا" قد غرقت بفعل عاصفة فيما كان متوجهاً إلى حيث أسس جالية اسكتلندية في أوقيانيا، فوجد نفسه في جزيرة لا يعرف شيئاً عنها، وها هو ذا يطلب النجدة ممن يعثر على الرسالة، بيد أن السيئ كان إمحاء أية معلومات أخرى يوردها غرانت حول الجزيرة عدا عن أنها تقع عند خط العرض 37 درجة إلى الجنوب. ومهما يكن من أمر فإن اللورد غلينافان يتخذ قراره بالسعي إلى إنقاذ القبطان فيجهز يخته ويصطحب معه مساعديه وعالماً لا بأس بظرفه هو العالم باغانيل، ناهيك بولدي القبطان الضائع، روبرت (12 سنة) وماري (16 سنة)، إضافة طبعاً إلى الليدي هيلينا زوجة غلينافان. ومن هنا تبدو الرحلة عائلية تنطلق في جو هادئ يتولى خلاله باغانيل شؤون التنقيب العلمي وقراءة الخرائط ويبدو أن كل واحد من أعضاء الفريق يقوم بوظيفته على خير ما يرام.

تشويق وتجديد

ولكن بين المنطلق والنهاية السعيدة التي كان من غير الممكن عدم توقعها ستعيش السفينة الباحثة سلسلة مغامرات وأخطار وعقبات وضروب يأس و"تقلبات" تحمل من التشويق بقدر ما تحمل من عناصر يمكن القول إن من أهم ما فيها كونها تكشف عن موهبة مبكرة لدى الكاتب في مجال التحليل النفسي المعمق للسلوك الاجتماعي البريطاني الذي يتميز بخصوصية لا تضاهى. وهو ما يتكشف ويشتغل عليه فيرن بطرق مبتكرة ولا سيما خلال المواقف المفاجئة التي تطرأ خلال الإبحار أو على اليابسة ولا سيما على سبيل المثال عندما ينضم إلى المجموعة سجين فار هو آريون، يصبح بسطوته وشره مصدر خطر مهيمن منذ وصوله وحتى القبض عليه من قبل الشرطة المطاردة له في نزلة تالية إلى اليابسة. والحقيقة أن وجود آريون هو ما يتيح للكاتب الإمعان في تحويل جزء كبير من روحية النص إلى تلك الدراسة السيكولوجية التي كان من الصعب على أدب الخيال – العلمي أو حتى على الأدب الروائي عموماً أن يدنو منها. ومع ذلك، حقق فيرن ذلك الدنو وبمهارة قد يحسده عليها كتاب من القرن العشرين سيكون التحليل النفسي لشخصيات رواياتهم من عاداتهم المفضلة. المهم أن هذا كان جديداً لدى فيرن وميز عمله الروائي عن عمل غيره من كتاب روايات المغامرات. مهما يكن فإن فيرن يبقى ذلك المبتدع النشيط لعشرات المواضيع التي فتحت خيالات قرائه على عوالم بالغة الاتساع والتنوع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

جزء من ثلاثية

أما بالنسبة إلى "أطفال القبطان غرانت" فإنها سرعان ما أضحت القسم الأول من "ثلاثية رواية" إذ ضمت إليها روايتين تاليتين للكاتب قد لا تكونان استكمالاً لهذه الرواية نفسها، غير أنهما تتواصلان معها من ناحية بعض الشخصيات وترابط الأحداث. ونعرف على أية حال أن ثمة عادة كان يتبعها فيرن في بعض رواياته تجعل شخصيات معينة من رواية ما تعود للظهور ولو عرضاً في روايات أخرى، بل إن ثمة في "أطفال القبطان غرانت" نفسها ما يفاجئ القارئ مدمن روايات الكاتب بالتالي يعرف شخصياته معرفة وثيقة، إذ يحدث في بداية الرواية وفيما كان اللورد غلينافان يسعى إلى جمع ما يلزم لرحلة البحث عن القبطان المفقود، يتطوع عدد من "أبطال" روايات سابقة للكاتب بالتبرع بما يساعد على القيام بالرحلة وفي الأقل "كرمى لعيون" ابنة القبطان وابنه (!) ومن بينهم على سبيل المثال، فيلياس فوغ (من "حول العالم في 80 يوماً") و"الكابتن نيمو" و"ماثياس ساندروف"... وهو أمر لا شك أن القراء وجدوه بالغ الطرافة واستساغوه، مما جعل فيرن يعود إليه مراراً وتكراراً في مناسبات ونصوص أخر.

وبقي أن نذكر أن جول فيرن ولد عام 1828 ولوحظ عليه تفتح مواهبه كحكواتي ومبتكر للمواضيع وراوٍ للخرافات حتى قبل أن يصبح ذلك الكاتب المحترف الذي جعل من ضمن همومه استخدام خياله الذي لا ينضب لتعريف قرائه بشعوب العالم وقاراته بشكل روائي لا شك أنه سيكون ذا أثر كبير في وعي أولئك القراء. وهو كان يحلم منذ صباه بأن يكون بحاراً فأبحر على الورق مكبلاً دائماً بعقوده مع ناشره الذي كان وراء نشاطه. وهو إضافة إلى ذلك كان منذ صباه مولعاً بالآلات يمتدحها حيناً لكنه في أحيان أخرى يجد فيها ما يقلقه، لكنه في الأحوال كافة كان واقعياً يعرف أن لغة الآلات هي لغة العصر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة