Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جاسيندا أرديرن "أنسنت السياسة" وغادرتها

بات ينظر إلى نيوزيلندا عموماً على أنها دولة تتمتع بمستوى عال من التماسك الاجتماعي والتسامح نتيجة التشجيع للإدماج والتنوع

ألقت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن من برلمان بلادها خطاب وداع مؤثر لشعبها على أثر الاستقالة من منصبها (غيتي)

ملخص

أحدثت #جاسيندا_أرديرن انقلاباً حول تعقيدات مفهوم القائد السياسي خصوصاً في منصب رئيس الوزراء كمفهوم سياسي تبرز معه الصفات الذكورية التقليدية

بدموع مترقرقة وصوت تموجت طبقاته متقافزة إلى أفئدة منصتة، ألقت رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن من برلمان بلادها خطاب وداع مؤثر لشعبها في الخامس من أبريل (نيسان)، بعد إعلانها في 19 يناير (كانون الثاني) أنها ستستقيل من منصبها، ليخلفها كريس هبكينز رسمياً في منصب رئيس وزراء نيوزيلندا في 25 يناير. وبعد مغالبة دموعها أخيراً، أظهرت أرديرن، التي أصبحت رئيسة للوزراء في 26 أكتوبر (تشرين الأول) 2017 في الـ37 من عمرها، وكانت ثالث زعيمة لنيوزيلندا وواحدة من أصغر القادة في العالم، أن استنزاف الطاقة والإرهاق أشياء طبيعية "ولا شيء يدعو للخجل"، وأعربت عن أن "أحاسيس شتى تقاطعت بداخلها ما بين الإحساس بالواجب والمسؤولية وتوجيه قطار العمل العام بالدولة".

وقالت أرديرن إنها وجدت نفسها "في حياة الناس خلال أكثر اللحظات حزناً أو صدمة" وإن "قصصهم ووجوههم ستظل محفورة في ذهني ومن المرجح أن تستمر إلى الأبد".

ربما ستذكر أرديرن، لزمن طويل، أنها صاحبة نهج لطيف والأكثر حرصاً على إظهار التعاطف في كل الظروف، واستطاعت بفضل ذلك أن تحدث فرقاً واضحاً بينها وبين سمات القادة المعروفة بالصرامة والقوة والحزم.

وأعيد انتخابها رئيسة لوزراء نيوزيلندا في فوز تاريخي في 17 أكتوبر 2020 في أوكلاند، وأيضاً انتخاب البرلمان الـ53 لنيوزيلندا، وكان حزبها، العمال اليساري المعتدل، قد فاز بأعلى نسبة من الأصوات منذ أكثر من خمسة عقود حيث حصل على 64 مقعداً في البرلمان.

وبالنظر إلى السنوات الخمس التي قضتها في المنصب، أشارت أرديرن إلى أن القضايا التي جعلتها تدخل عالم السياسة هي "تغير المناخ وفقر الأطفال وعدم المساواة"، كما كان لنشأتها في منطقة وايكاتو الريفية دور في تبني هذه القضايا، وانضمت إلى حزب العمال النيوزيلندي في سن الـ18، وعملت بعد تخرجها في الجامعة في وظائف عدة منها مستشارة رئيسة الوزراء السابقة هيلين كلارك، كما انتخبت لعضوية البرلمان عام 2008 وأصبحت نائبة عن ناخبي جبل ألبرت، في الأول من أغسطس (آب) 2017، ثم توليها بعد ذلك بشهرين، رئاسة الحكومة الائتلافية المكونة من ثلاثة أحزاب تضم حزب نيوزيلندا أولاً، وحزب الخضر، والعمال، كما شغلت مناصب وزيرة الأمن القومي والاستخبارات، ووزيرة الفنون والثقافة والتراث، ووزيرة الحد من فقر الأطفال.

أنسنة السياسة

وأحدثت أرديرن انقلاباً حول تعقيدات مفهوم القائد السياسي خصوصاً في منصب رئيس الوزراء كمفهوم سياسي تبرز معه، بل تتقدمه الصفات الذكورية التقليدية، مثل السيطرة والاعتداد الشديد بالرأي، حتى بات معبراً عن بعد جنساني واحد. ولم تنج سيدات تولين قيادة بلادهن من إكسابهن هذه الصفات عنوة، بل لم يترك لهن مجال لتغيير المفهوم، فعوملت مارغريت تاتشر "المرأة الحديدية"، ومثلها بينظير بوتو وأنغيلا ميركل، وغيرهن حتى يوازين تفوق القادة في القوة ولا يدانن بالضعف، ونجحت أرديرن في مزج قوة المنصب باللين الإنساني، وكان لديها أسلوب قيادة مختلف فريد وشامل يجمع بين العاطفة واللطف والإنسانية والحسم، فكانت "المتعاطفة الجريئة"، تتخذ القرارات الجدية وتحتضن الأطفال والضحايا ولا تحبس دموعها في المواقف الإنسانية.

وعلى رغم مما يفتقده معظم القادة في العالم من أسلوب القيادة الذي انتهجته، فإنه يبدو أن هناك ديناميات سياسية محلية أسهمت في ذلك، ولكن الأساس فيه أيضاً لا يبتعد عما تتسم به أجواء القيادة العالمية وبحر السياسة المتلاطم من تعقيدات متزايدة، وشكوك متزايدة، بل فقدان للثقة في أي أسلوب جديد، خصوصاً لو نحى القائد الصرامة والواقعية وأحياناً البراغماتية، وبدا قريباً من أنسنة السياسة والتأثر بحقيقة التهديدات المستمرة على السلام والأمن الإنساني.

وفي الجانب الذي يبدو وكأنه أسلوب سياسي جديد جاذب لشابات وسيدات يمكن أن يترشحن لمناصب سياسية مختلفة، فقد ظهر عملياً وبشكل مشابه عند قائدات أخريات مثل كاترين ياكوبسدوتير رئيسة وزراء آيسلندا، وسانا مارين رئيسة وزراء فنلندا.

ولم يمر وقت طويل حتى أصبحت أرديرن أيقونة عالمية، لرئيسة وزراء تؤمن بـ"اللطف" كقوة سياسية، وتشرك النيوزيلنديين بكثير من الشفافية في طقوسها الاجتماعية، وقد أعلنت عن حملها وترحيبها وشريكها كلارك جيفورد بقرب قدوم طفلهما الأول على وسائل التواصل الاجتماعي. وأصبحت أول رئيسة حكومة تنجب وهي في المنصب منذ بينظير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة، وأول قائدة في العالم تذهب في إجازة أمومة أثناء وجودها في المنصب، وتعود إلى العمل بعد ستة أسابيع، كما كانت أول زعيمة عالمية تجلب طفلاً رضيعاً إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة. وحول رد الفعل العالمي، قالت آنذاك "أحب مشاركة الناس معنا في هذه الفرحة، وذلك لأن لدي دوراً عاماً حقاً، ولذا فأنا أتقبل أن هذا يعني أن حياتنا الأسرية ستكون عامة تماماً".

مستوى التسامح

ونال تفاعل أرديرن الإيجابي وتعاملها السريع مع أحداث الهجوم على مسجدي كرايست تشيرش، في مارس (آذار) 2019، التي راح ضحيتها 51 مسلماً على يد مسلح، إشادات واسعة، وبعد الحادثة التي شهدتها نيوزيلندا، لأول مرة في تاريخها الحديث، عقدت مؤتمراً صحافياً نادت فيه بالتوحد ضد الكراهية، وأن الضحايا "اختاروا نيوزيلندا لأنها كانت آمنة، لأنها لم تكن مكاناً للكراهية أو العنصرية، لأننا نمثل التنوع، واللطف، والرحمة، موطن أولئك الذين يشاركوننا قيمنا. ملجأ لمن يحتاجون إلينا". وبعد أيام على مرور الحادث نفذت قوانين أكثر صرامة في شأن الأسلحة في جميع أنحاء البلاد، بإعلانها عن تدابير مراقبة الأسلحة لحظر جميع أنواع الأسلحة شبه الآلية.

وما يجدر ذكره أنه على مدى العقود الثلاثة الماضية، زاد تنوع سكان نيوزيلندا بشكل كبير من حيث العرق والثقافة والهويات الجنسية والدين والقيم واللغات المنطوقة والأعمار والتوجه الجنسي، وعادة ما توصف نيوزيلندا بأنها بلد "شديد التنوع"، ما يعني زيادة كبيرة في تنوع المجموعات الإثنية والأقليات والمهاجرين، وأحد مؤشرات التنوع الفائق هو أن ربع سكان نيوزيلندا ولدوا في الخارج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يأت هذا التنوع والتسامح إلا بمرور البلاد بمراحل تاريخية اختبرت فيها التسامح الذي لم يكن موجوداً عندما استقر الأوروبيون في نيوزيلندا في القرن الـ19، إذ عانى السكان الأصليون "الماوري" من العنصرية والتمييز، وبدأ التغيير بعد ذلك وصولاً إلى ستينيات القرن الماضي حيث أدى نشاط "الماوري" إلى حصولهم على معاملة أفضل من الحكومة، وعوضت معاهدة مستوطنات "وايتانغي إيوي" عن بعض الخسائر، وعادت ثقافة "الماوري" وهويتهم إلى الظهور.

وبات ينظر إلى نيوزيلندا عموماً على أنها دولة تتمتع بمستوى عال من التماسك الاجتماعي والتسامح، نتيجة التشجيع للإدماج والتنوع، ففي المدارس مثلاً يكاد يكون إلزامياً على كل طفل أن يتعلم لغة ثانية، مثل (لغة الماوري) في مستوى المدرسة الابتدائية ولغة أخرى في المدرسة الثانوية، ما يؤدي إلى فهم ثقافة جديدة، وكذلك تدريب المعلمين على استراتيجيات للحد من تصعيد العنف وتضمين التفاعلات الاجتماعية.

دعم بلا استثناء

ومع عمل جاسيندا أرديرن في مجال تغير المناخ وحقوق اللاجئين، وزيادة التمويل للإسكان العام، وزيادة الحد الأدنى للأجور، ومع إقرار قانون تعديل المساواة في الأجور، في يوليو (تموز) 2020، أوفت بوعد حملة حزب العمال من خلال تسهيل قيام الموظفين برفع مطالبة في شأن المساواة في الأجور. علاوة على ذلك، أقرت حكومتها مشروع قانون لتمديد سياسات الإجازة الوالدية المدفوعة من 18 إلى 22 أسبوعاً في نيوزيلندا، وعملت مع وزير المالية غرانت روبرتسون على تقديم أول ميزانية رفاهية لنيوزيلندا والعالم في عام 2019، كما نفذت سياسات مثل الرعاية الصحية المجانية للأطفال دون سن الـ14 عاماً، وأعلنت عام 2018، عن هدف يتمثل في خفض فقر الأطفال في نيوزيلندا إلى النصف خلال السنوات الـ10 المقبلة، وحددت أهدافاً للقيام بذلك، وأعلنت عزمها على "جعل نيوزيلندا أفضل مكان في العالم للطفل"، والتزمت علناً بإنهاء ما سمته "فقر الدورة الشهرية" من خلال منح جميع الفتيات في سن المدرسة منتجات صحية مجانية.

وأصبحت أرديرن أول رئيسة وزراء نيوزيلندية تسير في مسيرة مجتمع "الميم" إلى جانب وزير المالية روبرتسون، فيما سميت "مسيرة فخر"، وذلك في فبراير (شباط) 2018، مكونة من حشد يضم نحو 25000 شخص في أوكلاند طالبوا بمزيد من الدعم للمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسانية والمصابين بمرض عقلي.

وفي مجال تغير المناخ، اتخذت جاسيندا مبادرات ووضعت سياسات تمهد الطريق نحو مستقبل خال من الكربون بإنشاء قانون صفر كربون، تضمن حظر التنقيب عن النفط والغاز في الخارج، ووضعت خطتها لحظر الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد في جميع أنحاء البلاد، ودعم الشركات والمدارس والمستشفيات للتحول إلى طاقة أنظف.

مواجهة خاصة

وقطعت أرديرن خطوات واسعة من أجل القضاء على فقر الأطفال وزيادة دخل الأسرة، ولكن جابهت تلك الإنجازات الاستجابة لمكافحة فيروس كورونا التي قلبت السياسات المالية لكل الحكومات رأساً على عقب وليس لحكومتها فحسب، ولكن من جانب آخر، بفضل قيادتها للبلاد خلال الجائحة، حصلت على تأييد كبير للإجراءات على الرغم من الإغلاق لأنها كانت تنقل الإجراءات مباشرة إلى المواطنين وتتفاعل معهم طوال فترة تفشي الجائحة، ونفذت بادرة تضامن مع من فقدوا وظائفهم نتيجة لذلك، وحصل حزب العمال بالتالي على دعم قياسي إذ ارتفع الدعم الانتخابي للحزب إلى 50 في المئة عام 2020، وكان قبلها قد صعد من 25 في المئة عام 2014، إلى 37 في المئة عام 2017. ولفتت مواجهتها لتبعات ثوران بركان جزيرة وايت آيلاند الذي تسبب بمقتل 16 شخصاً في ديسمبر (كانون الأول) 2019، وأشادت بتعاطف كبير بأولئك الذين حاولوا إنقاذ غيرهم ففقدوا أرواحهم.

وبعد إنجازات كثيرة حققتها على المستوى السياسي والإنساني، ربما يحمل خيار الاستمرار كثيراً من المفاجآت التي كان من المحتمل أن تتعرض لها جاسيندا أرديرن، لذلك كان خيار الاستقالة حصيفاً لعوامل عدة، الأول أنه بعد أن بدأت تفقد بعض الحماس والشغف و"الطاقة"، بعد أن اكتسبته طوال السنوات الخمس الماضية، بل ما قبلها خلال عملها في البرلمان نحو 15 عاماً وفي العمل العام، وربما تكون أرديرن قد بدأت تفقد شعبيتها مع الآثار بعيدة المدى لجائحة كورونا والأزمة العالمية التي انعكست على ارتفاع كلفة المعيشة ونقص السكن، لكن قرارها الأخير جعل التعليق السائد من مؤيديها هو أن "القائد الحقيقي يعرف متى يحين وقت رحيله"، خصوصاً مع انخفاض طفيف على شعبية حزبها، والعامل الثاني هو أنها على الرغم من انفتاحها فإنها خضعت لحكومة الائتلاف المكونة من حزبها وحزب نيوزيلندا أولاً وحزب الخضر، وتأثير الحزبين عمل على تهميش الحكومة الديمقراطية الاجتماعية الجيدة من خلال التغييرات البيروقراطية في الرعاية الصحية والتعليم، أما العامل الثالث، فهو انخراط أرديرن في الأشهر الأخيرة، بشكل متزايد في مواجهة انتقادات المعارضة، والرد على هجومها بدلاً من الترويج لبرامج حكومتها، فقد واجهتها تهديدات، وروج معارضوها على أنها "رئيسة وزراء الصدفة".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير