Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صبيحة غزو الكويت أطل مقداد مراد بدلا من رسوم الكرتون

الصدمة كانت تخيم على وجوه العراقيين مع صبيحة الثاني من أغسطس

صدام حسين في الكويت بعد الغزو مع بعض مساعديه (مواقع التواصل الاجتماعي)

لن أنسى صبيحة ذلك اليوم ما حييت، كان والداي في السوق كالمعتاد، وكنت وأشقائي في انتظار فترة برامج الأطفال التي تبث بعد الافتتاح لتلفزيون "الجمهورية العراقية" وقتها، لكننا فوجئنا بعد الافتتاح بظهور المذيع الأشهر آنذاك مقداد مراد يلقي "البيان رقم واحد" بدلاً من المذيعة التي اعتادت ان تخاطبنا بالقول "احبتي الصغار، والآن مع فترتكم الصباحية وافلام الكارتون".

كان خطاباً حماسياً مليئاً بالكلمات الرنانة استمر لأكثر من نصف ساعة، وهو يتحدث عن "عودة الفرع الى الأصل" وإعادة الكويت إلى الوطن الأم، إذ أصبحت محافظات العراق اليوم 19 محافظة بدلاً من 18 محافظة مساء أمس! محاولاً اقناع الناس بأن ما حدث كان بطلب من جهة قامت بانقلاب في الكويت واستنجدت بالعراق للمساعدة.

أشقائي الصغار لم يفهموا شيئاً وكانوا يسألون بإلحاح "اين أفلام الكارتون"؟ أما أنا ابنة الخامسة عشر التي اعتادت متابعة الاخبار مع والدها فالأمر كان مختلفاً بالنسبة إليّ، فالحدث نزل كالصاعقة على أذهان الناس، وبعد دقائق من انتهاء البيان بدأوا يتحدثون عن القصة من دون أن يفهموا شيئاً، ومن دون أن يجدوا سبباً أو ذريعة. كان معظم الجيران والأقارب عادوا قبل عام واحد أو أكثر بقليل من الجبهة، بعد شهور من اعلان وقف اطلاق النار بين العراق وايران، ولم يتوقع الناس حرباً جديدة بعد أقل من عامين على توقف الحرب الطويلة التي دامت ثمان سنوات، والمشكلة الكبرى هي ان صدام توجه هذه المرة الى بلد عربي ولا يملك مبرراً ليُقنع الناس بفعلته.

انقلاب مفتعل

وبعد يومين أو أكثر عرض التلفزيون العراقي استقبال صدام حسين لشاب مع عدد من مرافقيه. قالوا انه قائد الانقلاب لكنه اختفى لاحقاً. وعرض التلفزيون صوراً من الكويت العاصمة، ومدن كويتية أخرى تُظهر وكان الأوضاع على ما يرام، وان الحياة عادت إلى طبيعتها هناك، لكن الارتجاف الذي بدا واضحاً آنذاك في أصوات الناس الذين التقتهم الكاميرا كشفت انهم كانوا يتحدثون بدافع الخوف وليس الرضا.

العراق في ذلك الوقت لا يملك سوى قناتين تلفزيونيتين وإذاعتين سُخرت كلها للترويج، والتمجيد بما فعله "القائد الضرورة". وكان معظم الناس يلجأون إلى الإذاعات الأجنبية مثل إذاعة "بي بي سي" و "مونت كارلو" ويصعدون بالهوائي الى سطوح المنازل لالتقاط الإشارة بشكل أفضل. كانت تلك الإذاعات تنقل إلينا النقيض تماماً، فالفرع لم يعد الى الأصل، ولا كان هناك انقلاب بل أن صدام حسين قرر بين ليلة وضحاها أن يغزو الكويت.

رفض الوساطات

 ومرت أيام قبل ان يستوعب الناس الصدمة وانا منهم، إذ كنت اتابع الاخبار مع والدي وكنت اشعر بالخوف، كأي فتاة من عمري، من التطبيل للحرب لا سيما بعد رفض صدام حسين مبادرات الانسحاب والوساطات التي حضرت الى بغداد للتفاوض سواء كانوا من الزعماء العرب أو المشاهير.

كان "تلفزيون الجمهورية العراقية" هو القناة الوحيدة المتاحة للمتابعة لمن لا يملك جهاز الراديو، لذا لم يتعرف الناس سوى على رأي القائد ووجهة نظره التي ملأت الشاشات، ولم يكن سائداً آنذاك مناقشة الأمور السياسية أمام الصغار، فالناس كانت تخشى ان ينقل الأطفال أحاديثهم الى أطفال آخرين، او الى المعلمات في المدرسة من دون قصد، حينها سيعدمون بلا نقاش أو تحقيق. وكانوا يتناقلون قصصاً كثيرة من هذا النوع لذا كانوا يتبادلون المعلومات في جلسات مسائية للرجال.

أما انا فكنت محظوظة للغاية لان والدي اشترى لي جهاز راديو صغيراً كي اتابع عليه البرامج المحلية أثناء العطلة الصيفية، وكنت أتابع عليه اخبار الإذاعات الأجنبية حول الموضوع، فكنا نتحدث عن تطورات القضية طوال اليوم طبقاً للأخبار.

ام المهالك

مرت أسابيع قبل ان يتحدث صدام ان المعركة التي سيخوضها العراق ضد قوات التحالف الدولية ستكون معركة حاسمة لصالح البلاد، وأطلق عليها تسمية "أم المعارك"، لم اشاهد والدي من قبل وهو يستهزئ بشيء مثلما فعل حينما سمع تلك العبارة. كان يقول بل ستكون "ام المهالك" وستجر على العراق والعراقيين ويلات ومصائب لم تمر على أحد من قبل. واذكرها للتاريخ ان العراقيين لم يعارضوا صدام حسين في حياتهم قدر معارضتهم دخوله الكويت وكنا نسمع بين الحين والآخر اخباراً حول اعدام بعض من وصفوهم في الاعلام آنذاك بـ"القادة الخونة" بسبب معارضتهم لقراره ورفضهم تحريك قطعات الجيش باتجاه بلد شقيق.

كان الجيران يجتمعون في حدائق منازلهم ويتحدثون عن مشاهدات نقلها لهم أولادهم الذين ارسلهم صدام الى الكويت بشكل مفاجئ من دون أن يفهموا ما حدث واسبابه، فيما قضى الكثيرون منهم شهراً كاملاً أو أكثر قبل أن يسمح لهم بالحصول على إجازة لا تتجاوز الخمسة أيام، لذا فإن الحقائق حول ما حدث بالفعل وصلت متأخرة جداً لهم.

وكانوا يتناقلون تلك القصص بناء على مشاهدات أولادهم بحماسة وكأنهم شاهدوها بأعينهم، أحد الجيران قال ان كويتياً خاطب ابنه الذي التحق بالجيش في الكويت بالقول "ارحلوا لا نريدكم على أرضنا"، ثم بدأت الحقيقة تتضح شيئاً فشيئاً للناس الذين أدركوا ان صدام حسين زج بهم في مأزق جديد لن يخرجوا منه دون خسائر فادحة.

المزيد من العالم العربي