Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائية الأردنية سميحة خريس تتأمل في مظاهر القهر

أوس البيرق بطل "كايميرا 19" يعاني آثار التشوه المرضي والنفسي

مشهد من مدينة عمان حيث تدور بعض أحداث الرواية (صفحة عمان - فيسبوك)

ملخص

بطل #رواية "كايميرا 19" يعاني آثار التشوه المرضي والنفسي ويحيل العمل إلى عالم #الأوبئة والأمراض المُستعصية

تحمل رواية الكاتبة الأردنية سميحة خريس عنوان "كايميرا 19" (دار الآن)، كأنما لتحيل القارئ إلى عالم الأوبئة والأمراض المُستعصية، وتختار الروائية واحداً من أغرب الأمراض، ويشتبك اسمه مع "كورونا 19". وربما هو ليس مرَضاً، بل- كما يدعي طبيب متخصص- هو "حالة" تُدعى في الطب "كايميرا"، وتعني أن المصاب بها يمتلك تنوعاً في الـDNA". وهو ناجم عن انفصال توأمين بصورة غير طبيعية، ويتسبب في العُقم وغياب القدرة على الإخصاب، وقد ورد هذا الاسم في إلياذة هوميروس، وكان يبدو مثل وحش مفترس.

شخصية أوس البيرق، وهو "البطل" في رواية خريس هذه، شخصية تحمل الكثير من التشوهات والمتناقضات، بدءاً من "اختلاف اللون في حدقتي عيني؛ البني المحروق في عين واسعة، والأزرق المشوب ببياض لامع في حدقة ضيقة". ثم طفولته، وبيئته الريفية/ البدوية في مدينة مأدبا، حين كان يراقب سلوك والده "صباب القهوة" في خدمة "الشيخ"، خدمة تنطوي على قدر من التذلل، ثم المنافسة والتحدي بينه وبين كايد ابن الشيخ، ومروراً بدراسته في لندن، من ثمن أرض باعها والده... وانتقالاً إلى عمله في عصابة لبيع المخدرات والأسلحة، وصولاً إلى صعوده في الثراء الفاحش، وإنشائه مصنعاً للشوكولاته يغطي به أعماله "القذرة" كما في اعترافه عن "رزمَ الهيروين التي خرج بها عبر مطار بيروت"، و"لم يكن بين أوراقي الاتفاقيات التي وقعتُها في زوايا خافتة الأضواء في إسطنبول لتوريد أسلحة لجماعة متمردة". ثم زواجه من رجاء التي يكتشف بعد عشر سنوات من العلاقة الزوجية أنه "عقيم"، وانتهاء بوقوفه ليصرخ "رفعت رأسي عالياً وعَوَيت: أووووووووو... أي "عوووو"، وكأنما قد اكتملت فيه حالة الذئبية/ الوحشية التي عاش فصولاً منها في محطات حياته المأسوية، ضمن شخصية قائمة على صور الفساد الفردي، ولكن المُمَأسَس بوعي تام، أو بقدْر من القهر.

أوس منصور البيرق، غريب الأطوار، يعيش بتركيبة غرائبية إلى أقصى حد، وهو في الرواية حقل لتأملات الكاتبة في دواخل الإنسان وتحولاته. رجل ثعلب، ويتخفى تحت أسماء عدة هروباً من العيون والمطاردات الواقعية والمحتملة: "أكره الأجهزة الذكية التي تتعقب تحركاتي: أتفادى متابعة الذكاء الجديد لتحركاتي، فليست هناك شيفرة مزروعة في ساعة يدي، ولا شريحة تخترق جسدي". أو يصف نفسه: "إذا ما أردتُ الاختفاء فإني أختفي كأني لم أوجد قَط، حتى إن العامة لا يعرفون علاقتي بمصنعي الذي أملكه". هكذا تُصوره الروائية على نحو شديد السخرية، يجعل منه شيطاناً، كتلة متحركة من الشر.

بين مضارب البدو ولندن

 

تبدأ الرواية بوصول أوس إلى "مطار الملكة علياء الدولي المحصن بعوازل إسمنتية نفذها الفرنسيون في كثير من مطارات العالم على الشاكلة نفسها"، في طريقه إلى لندن لإجراء فحوص تتعلق بعدم الإنجاب. وفي لندن تنثال ذكريات حياته أثناء دراسته الجامعية في مدينة الضباب، وتتكشف ملامحُ شخصيته المركبة من عناصر "العظَمة الكاذبة" وهي نتاج شعور تاريخي بالقهر والاضطهاد، كما هي نتاج شهيته لـ"الأجساد البضة الرخيصة العابرة، جوع مكبوت. لم أعرف جسد امرأة حتى طِرتُ طالباً العلم، وكلما توسعت أعمالي قلتْ رغبتي في النساء، وربما انتقاماً من سنوات الحرمان".

يستعيد أوس ملامح طفل في سن مبكر؛ معالم طفولته الشقية حيث يعبث بكل شيء، ولذا فهو يسمع: "يَهمر الوحش فيّ ليلاً في سكون الخيمة، وأستوي طفلاً سَكوتاً متأملاً إذا طلع النهار. تتربع جدتي على قماش مهترئ في قلب الخيمة، صامتة وحيدة، وعند طرف سبخة الطين تُقرفص أمي وتنتف ريش الدجاجة... لا يعوز المرء سنوات طويلة ليتدرب كيف يصير حقيراً". ويستعيد وجهَ أبيه، والهزيمة التي يخاتلها باسم "منصور"، ويتساءل بقدر من القهر والسخرية المرة حين يرى والده يتذلل للشيخ وابنه كايد: "منذ متى يُسمي أبي الولدَ الصغيرَ عمي الشيخ؟ والدي أكثر شبهاً بتيس عجوز هزيل، يضحك كالمعتوه، بينما تنحني أمي بمقدار وهي تجتاز باب بيت الشيخ الخلفي، حيث القُدور والأفران وحجارة اللبَن المجفف (الجميد) ينتظر كفيها الخشنتين لتَمْرُسَه قبل طبخه ليكون منسفاً".  

تبرز في الرواية، وعبر مشاهدَ وحوارات وسرد وصفي ممتع وشائق، جوانب عدة تنطوي عليها شخصية "البطل" أوس، بدءاً من رؤيته إلى الجانب الطبقي، والنظرة الاستعلائية من قِبل الشيخ لمن حولَه. يخاطب منصور والد أوس: "إحنا الشيوخ لو ما تعلموا أولادنا، بنِنْداس من أولاد الرعيان والفلاحين اللي بِحمِلوا شهادات، كيف أنتَ يا مسخم؟". أو من خلال المقارنة مع غريمه كايد "يُحسَب الأولاد في مثل عمري على الطفولة، ولكن الشمس شوَت وجهي، والدروب الوعرة على ضفاف الهضاب المحيطة بالأرض الممتدة صقلت عراقيب قدمي وعضلات ساعدي... وجهُ كايد، ابن الشيخ، أسمر منمنم بعينين مكحولتين ضاحكتين، وجهُ طفلٍ سعيد موحد اللون كأنه لم يعرف الشمس".

وإلى هذا البُعد الشخصي في رؤية أوس، يبرز في الرواية تقدير الكاتبة لأهمية البعد العشائري في المجتمع، وتعميق هذا البعد وتأثيره. فبينما "كان ابن الشيخ يتدرب على أبجديات العشائرية وزهوها وغطرستها"، يظل أوس، متروكاً لدروس في الوحدة والعزلة، مردداً: "لن أستند إلى جدار قبيلة أُكن لها عداءً خفياً يليق بتهميشها لي في طفولتي. لكني أستغل الاسم بنجاعة وتدبير، أستحضره عند الضرورة كإقامة علاقة منفعة سريعة".

بين السياسة والمجتمع

وتذهب الرواية في طرق السياسة والمال، في لندن، بريطانيا وفي العالم، وفي الزمن الراهن تماماً، ما بين رؤية وصفية وساخرة: "خرجت إنجلترا من الاتحاد الأوروبي منذ يومين فقط، ومضت عشرون عاماً على لقائي الأول بالدولة الغامضة والمدينة المبهمة... لعل الإنجليز كعادتهم ربطوا أحصنتهم بعربات الأميركان، وما دام دونالد ترامب نفى خطورة المرض، فإن إليزابيث هزت رأسها: "جسر لندن يسقط/ لندن تسقط/ دااااووون". هذا وحيث لندن التي كانت "عاصمةً لإمبراطورية كانت عظيمة. هي الآن فُتات من معالم رومانية وجدران قوطية". وتنتقل الرواية إلى وصف حال أميركا، في الراهن القريب جداً حيث يصف "صفقة القرن التي أعلنها ترامب ونتنياهو قبل أيام"، بأنها "مؤامرة ستقلب الطاولة على رؤوس الناس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الرواية في مجملها جردة حساب مع الماضي، وانتماءٌ إلى مستقبل مفتوح على المغامرة، بل المقامرة بهُوية البطل- الكائن الذي لا يتورع عن القول: "أعمل بجد على كشط جلدي. لم أعد الحافيَ الأشعثَ ابنَ الشمس والأبواب المفتوحة للريح، فقدتُ حرية ابن الخيمة مذعوراً؛ تلك التي لم أحسبْها حريةً قبل اليوم، واحتميتُ بكهفٍ قاتمٍ يخصني وحدي". فهو الآن صار رجلاً ثرياً يغتسل في مكان مترف. لكنه يتذكر- مجرد ذكرى- صابونة أمه "تتزحلق من بين أناملها فأقفز من صحن الغسيل هارباً مصطحباً أوساخي التي لم أمنحها الفرصةَ لكَحْتها عن جسدي النحيل".

وفي السياسة أيضاً، يبدو في أعماقه ذا مواقفَ ذاتية للغاية، تسخر من كل الأفكار السياسية اليمينية واليسارية على حد السواء. وقد انعكس هذا في استهتاره بقيَم الإنسانية وأخلاقياتها، متحولاً إلى تاجر بلا أخلاق سوى أخلاق السوق، ففي عمان يقوم بتهريب كل شيء.

عمان المفتوحة

وفيما تلتفت الرواية/ المؤلفة إلى "الرجل الذي باع أرضاً ليتمكن من اقتناء شقة في ضاحية الرابية"، فهي تشير أيضاً إلى طبيعة تركيبة حي من أحياء عمان "حيث بقايا الطبقة البرجوازية، ومتقاعدون كبار من موظفي الدولة، ولاجئون عراقيون ذابوا في المجتمع وصاروا بعض لحمه الوافر الثراء". ومن موقعه هذا، الطبقي الاستغلالي والانتهازي، يختار بعنايةٍ حاشية من المهمشين المنسيين؛ الذين هم "أعلى غضباً وأكثر قدرة على الدخول في نفق الموت بصلافة، لا يأبهون للخسائر البشرية، ولا تلك التي تطاول العمران وتترك ندوباً في ذاكرة الناس".

وفي إحدى فقرات الرواية نستمع إليه يتحدث عن لعبة الأمم، فيجمع أميركا وروسيا، تركيا وإيران، ومجاعات السودان، والثوار والخونة والأحرار وحزب الله والطوائف والدواعش والماركسيين الجدد، الموالين والمعارضين، الرؤساء المقيمين والمخلوعين، ثم يدخل في الربيع العربي الذي جُن وأطاح الحكومات واحدة تلو أختها، ورقصت الشعوب في الميادين والساحات ودُبجت القصائد، فيما هو ينتظر فرصته ليمر بين أفراحهم.

ورداً على سؤال حول ابتعاده عن العمل في السياسة، يقول: "مخدراتي تفيد في حال الفرح، وأسلحتي تفيد إذا ما انقشع الغمام، وتكالب الطامعون على ما تبقى من جثامين الدول المتعبة المستنزفة". أو ينتقد العمل السياسي بسذاجة: "لست معجباً بما تتيحه الحديقة (هايدبارك) من إلقاء الخطابات، إنه استعراض مبتذل للحريات، وهو خدعة كبيرة كي ينفس العالم عن احتقانه ويسترخي".

ونختم مع رؤيته إلى طبيعة مرَضه، ونظرته إلى الزوجة والزواج والأبناء، عبر تساؤله: "لماذا الطفل؟"، وعن زوجته: "هل تختبرني لتسجل عجزي؟ أم تشك بي فتبتاع لها سنداً في مستقبلها؟". وعن إصابته يقول معلناً: "إنني كايميرا، وحش خرافي لا أصول له. إنني حيوان أكثر من كوني إنساناً". ولذا يُطلق عُواءه الذئبي الموحش "أووووووووو".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة