Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مذكرة توقيف بوتين أبعد من حلقة في الصراع

الخطوة تشكل جزءاً من سيناريوهات مستقبل الحرب والرئيس الروسي شخصياً والمحكمة ذاتها وطبيعة العالم الذي قد يعاد تشكيله

يمكن وصف مذكرة الجنائية الدولية بأنها قمة التعبير عن مصير الحرب الجارية ومعها الترتيبات الدولية ذات المعايير المزدوجة (أ ف ب)

ملخص

تمثل هذه #المحكمة_الجنائية أحد تناقضات #النظام_الدولي، حيث تسيطر عليه القوى الغربية وتتصدره #الولايات_المتحدة التي تتراجع هيمنتها وتميل لتوظيف القيم الليبرالية من دون التزام بها

لم يعط كثيرون، وبخاصة خارج العالم الغربي، اهتماماً كافياً بالمذكرة التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية باستدعاء الرئيس بوتين على خلفية ما سمته جريمة ترحيل الأطفال الأوكرانيين، على رغم أنها حدث كبير وتشكل تصعيداً خطراً في الصراع، وخطوة كبرى في المشهد الدرامي المحيط بإعادة تشكيل العالم.

المرحبون، وبخاصة أنها مجرد حلقة في الصراع، سيركزون بطبيعة الحال على كونها مجرد خطوة أخرى ناجحة من الدبلوماسية الغربية لمعاقبة موسكو والتصعيد ضدها في ما وصفناه من قبل بالمباراة الصفرية وحرب الاستنزاف الشرسة الدائرة بين الجانبين، وقد تلقت الأطراف الغربية، وبخاصة واشنطن التي سنعود لطبيعة علاقاتها الملتبسة مع هذه المحكمة لاحقاً، بالتهليل والترحيب، خصوصاً من جانب إدارة بايدن، في وقت كان رد الفعل الروسي غاضباً حيالها، ومذكراً بأن موسكو ليست طرفاً في هذه المحكمة ولا تعترف بها، وهي ليست الوحيدة التي تتمسك بهذا الموقف، وفي العموم لم تكن ردود الفعل الروسية الغاضبة غير متوقعة، ولا مستوى الانتقاد الذي شارك فيه الرئيس الروسي السابق ميدفيديف بغضب عارم.

المحكمة.. التباسات وتساؤلات

كي نعرض لماذا نرى قرار المحكمة أبعد من كونه حلقة في الصراع والحرب نحتاج لعرض بعض الخلفيات الضرورية، فقد تأسست المحكمة كما هو معروف عام 2002 كأول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء، ويفترض أنها لا تبدأ عملها إلا في حال إبداء المحاكم الجنائية الوطنية رغبتها في ذلك أو تكون غير قادرة على الادعاء أو التحقيق في هذه الجرائم، وهي محكمة دائمة خلافاً لحالات المحاكم الجنائية الموقتة السابقة على هذا تاريخياً، ومن أشهرها محاكمات مجرمي الحرب النازيين وتلك التي عقدت مثلاً في حال البوسنة.

ومنذ البداية أثارت هذه المحكمة خلافاً دولياً، واعترض عليها عدد ممن القوى الكبرى تتقدمها الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والصين والهند، كما عارضتها دول أخرى كالعراق وإسرائيل واليمن، لكن صدرت إرادة الأغلبية الدولية ممثلة في 121 دولة ضمت أغلب الدول الأوروبية التي يتحمل بعضها، وبخاصة بريطانيا وألمانيا وهولندا فضلاً عن اليابان، أغلب ميزانيتها، علماً أن العدد الكبير من الدول الذي وافق على إنشاء المحكمة لم يصدق قرابة نصفها على ولاية المحكمة، ومنها كل الدول العربية في ما عدا المملكة الأردنية.

وقد ترأس الأرجنتيني لويس أوكامبو المحكمة لدى إنشائها، ثم خلفته السيدة فاتى بنسودا من غامبيا، وتولى رئاستها حالياً المحامي البريطاني كريم خان منذ منتصف عام 2021.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الملاحظ أن الانتقادات والجدل حول هذه المحكمة لم يتوقف منذ ذلك الوقت، فضلاً عن الخلل الجوهري برفضها من قبل عدد من القوى الكبرى، على رأسها الولايات المتحدة، كما سبق القول.

والملابسات عديدة، أبرزها أن عمل المحكمة الأساسي تركز في معظمه حتى الآن على الساحة الأفريقية في أوغندا والكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى ودارفور.

وثمة ساحات للجدل التي لا يمكن تجاهلها، ربما كان من أبرزها المفارقة الخاصة بتهديد الولايات المتحدة بسحب قواتها من قوة الأمم المتحدة بالبوسنة ما لم يتم منح جنودها حصانة من قبل المحكمة، وأجبرت مجلس الأمن على إصدار قرار بهذا في يوليو (تموز) 2002 لمدة 12 شهراً تجدد سنوياً كحل وسط، وكي تكتمل المفارقة رفض مجلس الأمن التجديد في 2004 بعد انتشار صور الممارسات الأميركية في سجن أبو غريب بالعراق.

ساحة الجدل الثانية التي استغرقت عدة سنوات وأثارت كثيراً من التعقيدات الدولية كانت مذكرة توقيف الرئيس عمر البشير على خلفية أحداث دارفور، لتكون الأولى من نوعها لرئيس ما زال في موقعه الرفيع، وهو الأمر الذي نواجه الآن في حال الرئيس الروسي.

وقد تسببت مسألة البشير في تجنب الرجل السفر لأغلبية الدول الغربية، كما أثارت مشكلات عدة في جنوب أفريقيا إحدى الدول المصدقة على الاتفاقية، أشهرها ما حدث عام 2015 حينما أمرت محكمة في جنوب أفريقيا بمنعه من مغادرة البلاد خلال مشاركته في قمة الاتحاد الأفريقي، وهو ما لم يكن ممكناً لحكومة جنوب أفريقيا فكان سماحها بمغادرته سبباً في توجيه أحد القضاة اتهامات غاضبة ضدها بتجاهل الدستور، وتصاعدت الأزمة الداخلية إلى حد تهديد الحكومة الجنوب أفريقية بالانسحاب من اتفاقية المحكمة.

أما الانتقاد الذي يصاحب المحكمة فهو تركيزها على أفريقيا وتجاهلها لقضيتين كبيرتين هما القضية الفلسطينية والغزو الأميركي للعراق، وما صحب الأخير من اتهامات كثيرة في شأن جرائم الحرب، وحتى الآن لم تحرك المحكمة ساكناً في التحقيقات الأولية التي بدأتها عام 2015، بعد أن قدمت الحكومة الفلسطينية في يونيو (حزيران) من العام نفسه أدلة على جرائم حرب ارتكبها الجيش الإسرائيلي خلال حرب غزة 2014.

أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة وما تأكد من تجاوزات ارتكبتها في العراق وفى كثير من حروبها السابقة فلم تجرؤ المحكمة أبداً على الاقتراب من هذا الأمر الذي يكمل مع القضية الفلسطينية تأكيد الشبهات حول نزاهتها وفاعليتها ومن ثم حول إمكانية قيامها بدورها من دون التورط في المعايير المزدوجة.

أبعد من حلقة في الصراع

تمثل هذه المحكمة إحدى سمات النظام الدولي الراهن الذي يتسم بتناقضات عديدة، حيث تسيطر عليه القوى الغربية وتتصدره الولايات المتحدة التي تتراجع هيمنتها منذ سنوات عدة بشكل تدريجي وبطيء وتميل لتوظيف العولمة والقيم الليبرالية من دون أن تقبل التزامها بها، وهذا التراجع عن القيم الليبرالية السياسية والاقتصادية يتمثل في بعدين، أولهما المعايير المزدوجة التي يعد من أبرز نماذجها رفض القوى المهيمنة وبخاصة واشنطن المتواصل تاريخياً إدانة إسرائيل ومعارضتها لمحاولة الأغلبية الدولية إلزامها بالتسوية والقرارات الدولية التي اتخذت في هذا الشأن، وكذلك رفضها تحمل التزاماتها الأخلاقية عن التجاوزات والحروب العدوانية التي شنتها وبخاصة في العراق، ومن الناحية الاقتصادية تخليها عن العولمة الاقتصادية التي كانت واشنطن نفسها أكبر مروجيها بعد أن رأت استغلال الصين لها. ويشكل ما سبق نماذج مما يطلق عليه المعايير المزدوجة الغربية والأميركية التي تعد أحد مظاهر القصور الرئيسة في هذا النظام، التي طرحناها من قبل في تفسير مقدمات الحرب الأوكرانية وصعوبة استمرار هذا الخلل المزمن في النظام الدولي.

من ثم فإن مصير مذكرة إيقاف بوتين يمكن وصفها بأنها قمة التعبير عن مصير الحرب الجارية ومعها الترتيبات الدولية ذات المعايير المزدوجة، فإما هزيمة روسيا وفق ما تسعى إليه واشنطن وحلفاؤها وحصار روسيا بعد ذلك وإجبارها على تغيير قيادتها بأي شكل ومواصلة الترتيبات الدولية الراهنة، بعد تثبيت واشنطن لمكانتها، أو الخروج بتسويات تضمن إخراج ترتيبات دولية جديدة يترتب عليها مراجعات ضرورية لطريقة عمل المحكمة قد تصل إلى إلغائها أو إطلاقها وفقاً لأسس جديدة لا تتضمن المعايير المزدوجة.

وهنا ما زال من السابق لأوانه تخيل أي من المسارات سيترسخ وما مآلات الأمور المعقدة التي سيشهدها هذا المسار، وكذا الوقت الذي سيحتاج إليه هذا، وفي النهاية فإن هذه الخطوة تشكل جزءاً من مشهد سيناريوهات مستقبل الحرب، وكذلك أيضاً مستقبل الرئيس الروسي ومستقبل المحكمة ذاتها وطبيعة العالم الذي قد يعاد أو قد لا يعاد تشكيله.

المزيد من تحلیل