Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية الروسية عنوانها: أميركا

تنص على تكريس مبدأ التعامل بالمثل وتعزيز العلاقات مع الصين والهند وأن الجيش السبيل الوحيد لصد أي هجوم مسلح

تعتبر الوثيقة الجديدة التي اعتمدها بوتين أن روسيا مهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي (أ ف ب)

ملخص

ملامح السياسة الخارجية الروسية الجديدة: #الولايات_المتحدة التهديد الرئيس لاستقرار البشرية، و#العالم_الإسلامي وأفريقيا يقفزان إلى صدارة اهتمامات موسكو

نظرية السياسة الخارجية الروسية في صياغتها الجديدة ليست الأولى في تاريخ ما سبق وأقرته روسيا الاتحادية من صياغات تعددت وتغيرت بقدر تغير وتباين توجهات القيادة السياسية للدولة على مدى ما يزيد على 30 عاماً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق في ديسمبر (كانون الأول) 1991.

ولعل العالم كله يذكر ما بدأ به الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين عهده بقصف البرلمان الروسي بالدبابات في أكتوبر (تشرين الأول) 1993 وتغيير الدستور، وما تلا ذلك من استخدام للقوة العسكرية بمنطقة الشيشان في الوقت الذي فرطت وزارة الخارجية الروسية تحت قيادة أندريه كوزيريف في كثير من المصالح الوطنية، إلى جانب ارتمائها في أحضان الغرب والانصياع لكل إملاءاته وما مارسه من ضغوط مهينة، ثم مهادنة القيادة الأوكرانية بعقد معاهدة الصداقة والتعاون التي نصت ضمناً على عدم وجود مشكلة أراضٍ مع أوكرانيا، مما يقف في صدارة أسباب كثير من المشكلات الإقليمية والعالمية الراهنة.

ويذكر المراقبون أيضاً ما استهل به يلتسين ووزير خارجيته كوزيريف علاقات روسيا من شراكة مع الولايات المتحدة والبلدان الغربية، وما انتهت إليه بما يشبه القطيعة بسبب تورط الولايات المتحدة والناتو في قصف البلقان عام 1999، حتى جاء الرئيس فلاديمير بوتين مع أولى سنوات ولايته الأولى لمحاولة التقارب مع نظيريه الأميركيين بيل كلينتون ثم جورج بوش، لينتهي إلى ما انتهى إليه بإعلانه في ميونيخ، فبراير (شباط)، ما يشبه "الطلاق" مع شركاء الأمس، وذلك في خطابه الشهير بمؤتمر الأمن الأوروبي، بما تضمنه من إعلان رفضه عالم القطب الواحد، والكشف عن توجهات جديدة في مواجهة تصاعد موجات زحف الناتو ومخططات توسعه شرقاً، وما شهدته هذه الفترة من "ثورات ملونة" في عدد من جمهوريات الفضاء السوفياتي السابق، استهدفت في جوهرها محاصرة روسيا وما جرى الإعلان عنه لاحقاً من "أحلام" إطاحة الرئيس بوتين وتقسيم روسيا، وذلك ما كان وراء تغيير كثير من ركائز وتوجهات السياسة الخارجية الروسية، وما أعقبها من تصاعد للمواجهة مع "شركاء الأمس"، بما أسفر عملياً عما انتهت إليه روسيا والعالم اليوم من "فرقة" تكاد تقذف بالعالم إلى أتون حرب عالمية ثالثة.

استراتيجية جديدة

من هنا كان الاجتماع الأخير مع مجلس الأمن القومي الروسي الذي استهله الرئيس بوتين بإعلان أن "التغييرات الجذرية في الحياة الدولية تستوجب تعديلات جدية لوثائق التخطيط الاستراتيجي الرئيسة، ومن بينها الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي تحدد مبادئ ومهام وأولويات نشاط الدبلوماسية الروسية"، بما يفرض ضرورة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية تطويراً للتعديل الأخير لهذه الاستراتيجية الذي صدر عام 2016، بما شمله من تغييرات للصياغة السابقة التي كان بوتين أقرها في 12 فبراير 2013.

وها هي ذي الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية التي وقعها بوتين في 31 مارس (آذار) 2023، تبدو بمثابة خريطة طريق لوزارة الخارجية الروسية والمؤسسات المعنية الأخرى في السنوات المقبلة، بما تتضمنه من سبل لتعزيز سيادة روسيا، ورفع مستوى مساهماتها في تشكيل نظام عالمي أكثر عدلاً، وتوفير إمكانية إدخال إجراءات رد متماثلة أو غير متماثلة، إذ يطلق على الولايات المتحدة في المفهوم الجديد "صاحبة المبادرة والمحرك الرئيس للخط المناهض لروسيا في العالم"، على حد تعبير سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن اللافت أن ما جرى إقراره في هذا الشأن ظل لفترة طويلة مثار جدل ونقاش احتدما على نحو أكثر حدة مع تصاعد التهديدات الخارجية واشتعال الخلافات مع أوكرانيا وحلفائها الغربيين، بما انتهى إليه ذلك من تحديث للإصدار السابق للاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية، الصادر في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وما تضمنه من تعديلات خلال السنوات القليلة الماضية.

وفي يناير (كانون الثاني) 2022، تم تقديم الوثيقة المعدة للمناقشة مع الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن القومي الروسي، إلا أن بوتين أعاد مسودتها للمراجعة والتوافق على صياغتها الأخيرة التي صدق عليها في 31 مارس 2023. وفي مبررات قراره قال بوتين إنه "بسبب التغيرات الجادة في الساحة العالمية، كان لا بد من تعديل الوثائق الاستراتيجية الرئيسة. ووفقاً لذلك فإن المفهوم الجديد سيشكل أساس الإجراءات العملية للبلاد على المديين المتوسط والبعيد، وسيصبح أيضاً أساساً عقائدياً قوياً لمزيد من العمل في مجال العلاقات الدولية".

تغييرات في الصياغة

ومن اللافت في هذا الصدد أن الاستراتيجية الجديدة للسياسة الخارجية الروسية أعادت بعض ما سبق ونصت عليه سابقاتها من تأكيد لدور موسكو المتصاعد في الساحتين الإقليمية والدولية، مع تغييرات في الصياغة، ولا سيما ما يتعلق منها بأن "روسيا لا تعتبر نفسها عدواً للغرب ولا تنعزل عنه وليس لديها نوايا معادية". إلى جانب ما نصت عليه من أن "موسكو تعول على إدراك الدول الغربية عقم المواجهة والعودة إلى التفاعل المتكافئ"، لكنها تبدو أكثر وضوحاً في تأكيد "أن روسيا تعتبر أن مسار واشنطن هو المصدر الرئيس للأخطار التي تهدد أمنها وسلامها الدولي"، وأنها تتمسك بأولوية العمل من أجل تصفية الهيمنة الأميركية ومخلفاتها في العالم، وذلك ما توقف عنده سيرغي لافروف بشكل خاص، بإشارته إلى أن الولايات المتحدة هي "المبادر والمحرض الرئيس على انتهاج الخط المناهض لروسيا"، فضلاً عما قاله حول "أن الغرب بوجه عام ينتهج سياسة تهدف إلى إضعاف روسيا من جميع النواحي، مما يمكن اعتباره حرباً هجينة من نوع جديد".

وكان لافروف أشار كذلك إلى ضرورة إعادة هيكلة الاقتصاد العالمي من منظور التوجه نحو أساس تكنولوجي جديد، والتخلي عن القواعد الأميركية والسياسات التي طالما نالت من الاتجاهات الرئيسة الطويلة الأجل في التنمية الدولية، بما في ذلك أزمة العولمة الاقتصادية.

ومن الجديد أيضاً ما أكدته "نظرية السياسة الخارجية الروسية في استراتيجيتها الحديثة" من أن موسكو ستعتمد في جهودها الرامية إلى ضمان الأمن على قدم المساواة لجميع البلدان على مبدأ المعاملة بالمثل، مع التوقف بشكل خاص عند أهمية ما وصفته بالتعميق الشامل للعلاقات والتنسيق مع الصين والهند اللتين شغلتا مكانة خاصة في سياق الصياغة الجديدة لاستراتيجية السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية.

ونورد ما نصت الوثيقة في صياغتها الجديدة عليه من بنود أساسية نشير منها إلى أن الولايات المتحدة الأميركية هي المحرك الرئيس والمصدر الأساس للسياسة المعادية لروسيا وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية، واعتبار الجيش السبيل إلى صد ومنع أي هجوم مسلح ضدها أو ضد أي من حلفائها، وتأكيد تعامل روسيا مع الدول الأخرى بالمثل، والاهتمام من جانب روسيا على نحو خاص بتعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع مراكز القوة العالمية الصديقة كالصين والهند، إلى جانب تحويل المنطقة الأوروآسيوية إلى ساحة متكاملة يسودها السلام والاستقرار والرخاء وهو المشروع الرائد بالنسبة إلى روسيا في القرن الـ21،  واعتبار أن روسيا هي معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي، وأن مكافحة "الروسوفوبيا" (العداء للروس) في مختلف المجالات من أولويات السياسة الإنسانية لروسيا في الخارج، وترسيخ معارضة روسيا لسياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، والقضاء على "أساسات الهيمنة" من جانب الولايات المتحدة والدول الأخرى غير الصديقة في الشؤون الدولية واعتباره إحدى أولويات روسيا، إلى جانب اعتبار أن تكريس روسيا توجهاتها نحو تشكيل نظام عالمي يوفر أمناً موثوقاً به ويضمن تكافؤ الفرص بالنسبة إلى الجميع، مع التأكيد أن مساعي روسيا نحو تحقيق الأمن المتساوي لجميع الدول ستنطلق من مبدأ المعاملة بالمثل.

ومن اللافت في هذا الصدد أن الصياغة السابقة التي كان الرئيس بوتين أقرها في 2016، وعاد ليعلن التوقف عن العمل بها في مرسوم خاص أصدره في 31 مارس الماضي، كانت تتضمن 104 بنود، لم تتسع للإشارة تفصيلياً إلى ما اتسعت له الصياغة الجديدة التي صدرت في 76 بنداً من تفاصيل ما ترومه موسكو لرفع مستوى علاقاتها مع بلدان الفضاء السوفياتي السابق، إلى جانب ما أوردته بشكل منفرد تحت عنوان "العالم الإسلامي"، على رغم مما حظيت به آسيا وأفريقيا من موقع متميز بين ثنايا هذه الوثيقة الجديدة.

الفضاء السوفياتي

وفي صدد علاقات روسيا مع بلدان الفضاء السوفياتي السابق، تناولت الوثيقة الجديدة في مجملها وبكثير من التفاصيل علاقات روسيا مع كل من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية اللتين أعلنتا عن انفصالهما عن جورجيا من جانب واحد، وحظيتا باعتراف روسيا وعدد قليل من أصدقائها في الخارج ومنها سوريا وفنزويلا، كما توقفت هذه الصياغة أيضاً تفصيلياً عند علاقات روسيا مع القارة الأفريقية وكبرى بلدانها، ومنها مصر والجزائر وجنوب أفريقيا ومواقعها على خريطة سياستها الخارجية، إلى جانب علاقاتها مع القارة الآسيوية وكبريات بلدان هذه القارة، وفي مقدمتها السعودية وإيران، وقبلهما الصين والهند اللتان كانتا حظيتا بمساحة مستقلة أكثر تفصيلاً، إلى جانب "أميركا اللاتينية وحوض الكاريبي" من منظور دعم سيادتها واستقلالها بعيداً من ضغوط الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.

أما ما تناولته الوثيقة الجديدة في شأن علاقاتها مع القارة الأوروبية فقد ورد تحت عنوان "المنطقة الأوروبية" وليس "القارة الأوروبية"، ونص على أن "البلدان الأوروبية تنتهج في معظمها سياسة عدوانية تجاه روسيا تهدف إلى خلق تهديدات لأمن وسيادة الاتحاد الروسي، والحصول على مزايا اقتصادية أحادية الجانب، وتقويض الاستقرار السياسي المحلي والقيم الروحية والأخلاقية التقليدية الروسية، وخلق عقبات أمام تعاون روسيا مع الحلفاء والشركاء"، إلى جانب ما أشارت إليه من "أن المسار الاستراتيجي للولايات المتحدة وحلفائها هو العامل الرئيس الذي يعقد تطبيع العلاقات بين روسيا والدول الأوروبية"، فضلاً عن تعميقه خطوط الانقسام في المنطقة الأوروبية من أجل إضعاف وتقويض القدرة التنافسية لاقتصادات روسيا وأوروبا، والحد من سيادة الدول الأوروبية وتكريس الهيمنة الأميركية العالمية.

ومن الجديد الذي تضمنته هذه الوثيقة كذلك أفرادها مساحة معتبرة لما أوردته تحت عنوان "المنطقة القطبية"، وتناولت بين طياته ما تعيره روسيا لما وصفته بـ"المنطقة القطبية من روسيا الاتحادية" من أهمية اقتصادية واستراتيجية، في مواجهة "سياسات البلدان غير الصديقة الرامية إلى عسكرة المنطقة، والحد من قدرات روسيا تجاه تجسيد حقوقها السيادية في المنطقة القطبية من أراضيها".

ولم تكن موسكو الرسمية لتغفل تضمين الوثيقة الجديدة أيضاً النص على استخدام القوات المسلحة لصد أو منع هجوم على روسيا وحلفائها من منظور "إمكانية ردود الفعل المتكافئة وغير المتكافئة على الأعمال العدائية".

تلك هي الاتجاهات الرئيسة للسياسة الخارجية الروسية في الفترة القريبة المقبلة، والتي توصلت إليها مختلف الإدارات المعنية في الدولة الروسية، بما يتفق مع الواقع المعاصر، وما ستتولى وزارة الخارجية الروسية العمل من أجل تنفيذه في غضون الفترة من السنوات الأربع إلى الست المقبلة.

وفي هذا الصدد أشار أليكسي دروبينين، مدير إدارة تخطيط السياسة الخارجية بوزارة الخارجية، إلى أن ذلك جرت الإشارة إليه حتى يتمكن "شركاؤنا الأجانب وأصدقاؤنا وخصومنا من فهم إلى أين سنقوم بالدوران في المستقبل القريب، ولا يقولون، كما يفعل بعض الناس، إن السياسة الروسية لا يمكن التنبؤ بها".

المزيد من تقارير