Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل من قيم ثابتة في النظام التربوي المعاصر؟

بحثاً عن الإجماع الذي ينبغي صونه من أجل إنهاض الاجتماع وتقويمه وتوطيد منعته

التربية الحديثة بريشة ماووري أوفرستيت (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

تُصر جميع #السياسات_التربوية على إعادة هيكلة #القيَم وتنظيم تراتبيتها وضبط مقاماتها لكن أي مضمونٍ من مضامين هذه القيَم ينبغي أن يقوم مقام الصدارة؟

يسأل المربون اليوم عن القيَم أو القواعد أو المعايير أو الأحكام التربوية التي ينبغي أن يستمسك بها المرءُ في حقل التربية حتى تستقيم العلاقة التوجيهية بين أصحاب المعرفة وطلاب المعرفة. غير أن الأزمنة المعاصرة أضحت خاضعةً لتوترات الالتباس والغموض والنسبانية والتخبط المعرفي. ينعكس هذا كله على حقل التربية في جميع أبعاده المعرفية والحياتية والنفسية والاجتماعية. من نتائج هذا الخلط أن الأطفال والأولاد والمراهقين والشبان من طالبي التربية لم يعودوا قادرين على التمييز الصحيح بين مراتب المرجعية المعيارية في ضرورات الطبيعة، وقوانين الحياة، وأصول البناء الشخصي الذاتي، وأحكام المعية الإنسانية.

إشكالية القيَم الأخلاقية في عملية التربية

صحيحٌ أن القيَم لم تسقط، إذ إن التربية لا تنهض إلا على القيَم الإنسانية. غير أن السؤال يقضي أن نستفسر عن طبيعة هذه القيَم التي يستهدي بنورها القيمون على التربية. حين يعمد المربون إلى تلقين الأولاد أصول المجالسة والمخالطة والمحادثة، أو مبادئ العلوم، أو أحكام الموسيقى، أو مهارات الرياضة، أو تقنيات المهنة، يسعَون إلى الارتقاء بالجيل الجديد ووضعه في مرتبة أخلاقية ومعرفية أفضل. التربية تعلمٌ وتلقنٌ واكتسابٌ. ومن ثم، لا يجوز لنا أن نُفرغها من محتواها الإكسابي الإملائي الإرشادي هذا، مهما تنوعت حججُ المساواة بين الناس والتحرر من علاقات السيادة والخضوع.

بيد أن الناس لم يعودوا يدركون بوضوح طبيعة القيَم الإنسانية التي ينبغي أن يعتصم بها المربون ويزرعوها في أفئدة المتلقنين المتعلمين المتكسبين. ذلك بأن علوم التربية تقوم على الاعتراف بضمةٍ من القيَم الهادية التي يسترشد بها المسؤولون من أجل صون روح الجماعة الإنسانية. ليست التربية نقلاً للمعارف الموضوعية المحايدة. فالعلم يعاين ويراقب ويحلل ويستنتج، ويمنح الإنسانَ عناصرَ التفكير الموضوعية التي تتيح له فلسفياً أن يُنشئ تصوره الحياتي الوجودي الفكري الأخلاقي. العلم التربوي حقلان: العلم الذي يصف الظاهرة التربوية، والتربية التي تنطوي على تصورات القيَم السائدة في المجتمع الإنساني. العلم يصف ظاهرة اللانضج وصفاً موضوعيا، في حين أن التربية تبين لنا طبيعة هذا اللانضج بالاستناد إلى قيمة النضج الفكري أو الأخلاقي أو الروحي. كذلك القول في ظاهرة الإخفاق المدرسي والاضطراب المسلكي والتوحد الانعزالي وما إلى ذلك.

أزمة التربية من أزمة الحقيقة

لا بد من التذكير بأن أزمة القيَم التربوية مقترنةٌ بأزمة المعرفة الإنسانية في الأزمنة المعاصرة، أي بأزمة الحقيقة التي أضحت تصيب جميع قطاعات الإنتاج المعرفي. إذا صح أننا نحيا في زمن ما بعد الحقيقة (post-vérité)، فإنه من المستحيل أن نتفق على المبادئ والأصول والأحكام والقواعد في كل حقل من حقول الحياة. من الواضح أن فكرة المعرفة والعلم والموضوعية أمست فكرةً جدليةً، بحيث أخذ الناس يرتاحون إلى عبارة الوقائع البديلة الممكنة، سواءٌ في ميدان الإمكانات التاريخية أو في مضمار الوجود الافتراضي الموازي. ليست البيئة التربوية في الأسرة وفي المدرسة بمعزل أو بمنأى عن التحولات المعرفية الخطيرة هذه، حتى إن عملية التربية تحولت، في معظم المجتمعات الغربية، إلى ميدانٍ استفساري يشكك في مفاهيم المعيارية والنهجية والإرشادية، ويلغي الحدود الفاصلة بين حكم الواقع وحكم القيمة، أي بين الحكم الذي يصف الواقع على اعتلانه المستقل، والحكم الذي يرسم للواقع كيفيات اعتلانه بحسب مرجعية هادية ناظمة. المثال على ذلك واضحٌ، إذ ثمة اختلافٌ خطيرٌ بين الخطاب السردي الذي يشرح هذا الانحراف أو ذاك، والخطاب المعياري الذي يحكم على الانحراف بالاستناد إلى شرعةٍ كونيةٍ من القيَم الإنسانية الناظمة. كيف لنا، والحال هذه، أن نتخير القيَم التي تعزز فينا كرامتنا الإنسانية، وأن نميز بين الوقائع والقيَم، وأن نناصر ما اعتمدناه من قيَم من دون أن نسقط في التصلب العقائدي المؤذي، أو نقع في النضالية الإيديولوجية الهوجاء، أو نستسلم للنسبية المعرفية الجوفاء؟

غموض طبيعة القيَم التربوية

تُصر جميع السياسات التربوية على إعادة هيكلة القيَم وتنظيم تراتبيتها وضبط مقاماتها، وتحرص على مؤازرة المؤسسة التربوية في تعزيز دور القيَم، لا سيما تلك المنبثقة من شرعة حقوق الإنسان الكونية، وترسيخ أثرها في العقل والوجدان. وفضلاً عن ذلك، يعتني المشرعون في المجتمعات الغربية بمسألة السلطة المعنوية التي ينبغي أن يمارسها من دون قيد أو شرط المربون والمعلمون والقيمون على الجهاز التربوي. أما تفصيل القيَم وتعيينها وتسميتها تسميةً واضحةً، فنادراً ما يجرؤ المسؤولون فيكشفون عن مقاصدهم، إذ يكتفون بالكلام على المواطنة والعَلمانية، واحترام القانون، وصون المجال العمومي، ومناهضة التمييز، ورفض الأحكام التعسفية المسبقة. غير أن النظر في هذه المفاهيم يجعلنا ندرك أنها أشبه بمبادئ قانونية شكلية. فالعَلمانية، على سبيل المثال، مبدأٌ قانوني محض لا يجوز أن يستوي في دائرة القيَم الإنسانية الهادية.

أما إذا استقر الرأي على استزراع قيَم الحرية والمساواة والأخوة، فأي مضمونٍ من مضامين هذه القيَم ينبغي أن يقوم مقام الصدارة؟ لنأخذ الحرية على سبيل المثال. هل تنطوي الحرية على معنى واحد؟ ما الفرق بين الحرية الإيجابية والحرية السلبية؟ أي بين الحرية الفاعلة الخلاقة وحرية الرفض والامتناع؟ هل نعلم أولادنا حرية الإرادة الذاتية المستقلة، على نحو ما أبانته أخلاقيات كانط (1724-1804)؟ أم حرية المشاركة التفاعلية التي تصنع قيودَها من ضرورات المشاركة والمشاورة والمناقشة المفتوحة؟ إذا عرجنا على قيمة المساواة، يمكننا أن نسأل الأسئلة عينها في سياق آخر: هل ينبغي أن نبث في وعي الناشئة قيمة المساواة في الحقوق وحسب؟ أم إن المساواة ينبغي أن تتحقق أيضاً على مستوى الفرَص المتاحة للجميع من غير تمييز أو استثناء؟ هل يمكننا أن نتصور المساواة أيضاً في حقل الأوضاع الطبيعية والفيزيولوجية والمادية التي تُفرض فرضاً على الناس؟

من الممكن أيضاً أن ننظر حتى في قيمة المواطنة لنسأل: أي مضمونٍ من مضامين المواطنة ينبغي أن نعززه في وجدان الأولاد حتى ينتموا انتماءً سليماً إلى مجتمعاتهم الحاضنة؟ في كتاب "المواطنة المتعددة الثقافات" (Muclticultural Citizenship)، يفصل فيلسوف السياسة الكندي ويل كيمليكا (1962) مفاهيم المواطنة التي انبسطت في التاريخ، ومنها المواطنة الجمهورية المدنية، والمواطنة الفردية الليبرالية، والمواطنة الجمعية المحافظة، والمواطنة النسوية، والمواطنة المتعددة الثقافات، وما سوى ذلك. لكل صنف من أصناف هذه المواطنة قيمةٌ أساسيةٌ تختلف في دقائق معانيها عن القيَم الأُخَر.

التوفيق بين القيَم المختلفة في المجتمعات المتعددة الثقافات

من الواضح أن هذه الأسئلة وسواها تستثير فينا الرغبة في إدراك الإجماع الذي ينبغي صونُه من أجل تعزيز بعض القيَم الإنسانية المشتركة الخليقة بإنهاض الاجتماع وتقويمه وتوطيد منعته. بيد أن الناس لا يُجمعون بسهولة على مثل هذه المسألة. لا يكفي أن يعلن المرءُ أنه يناصر الأنظومة الفكرية الأخلاقية التي تروم إصلاح العالم وتغييره، وإلغاء ضروب التمييز والتهميش والإقصاء، وتعزيز طاقات النمو الذاتي والاستحقاق الأدائي الشخصي. كذلك لا يكفي أن يعلن المجتمع أن المدرسة ينبغي أن تزرع في وعي التلامذة القيَم الإنسانية الرفيعة. ذلك بأن المقصود قيَم الأنظومة السائدة والمؤسسة المهيمنة والجهاز الضابط.

لا يخفى على أحدٍ من أهل الاطلاع أن بعض المجتمعات الغربية، كالمجتمع الكندي في مقاطعة الكيبك الناطقة بالفرنسية، ما برحت تناضل من أجل صون الإرث الديني المسيحي الذي ساهم في بناء الشخصية المعنوية الفردية والجماعية. المثال على ذلك اعتراض بعض الكنديين الكبيكيين على اعتماد حصص تدريس الأخلاق والثقافة الدينية عوضاً عن حصص تدريس الديانة المسيحية. الحجة في ذلك أن البرنامج التدريسي الحيادي هذا يجعل المسيحية ديناً اختياراً من بين أديان اختيارية أخرى، في حين أنها أصلُ الهوية الكندية الكبيكية. أما مناصرو العَلمانية فيُصرون على استخراج البُعد الأخلاقي المشترك واجتناب هيمنة الدين الواحد على المجتمع. أما القوميون الكيبكيون فيرفضون هذه الحيادية ويطالبون بتعزيز قيمة الانتماء الجمعي القومي.

يدل هذا النقاش على تعارض القيَم التي تنادي بها كتَلٌ ومجموعاتٌ وتياراتٌ مختلفةٌ لا تتشارك في التصور الفكري عينه. ومن ثم، لا تقنعنا الحجة التي تدعي أن المدرسة المنبثقة من الثورة الفرنسية، على سبيل المثال، ترفض الحياد الأخلاقي وتناصر قيَم التقدم الإنساني في مواجهة قيَم الارتداد التقليدي والارتكاس المحافظ. من الضروري، والحال هذه، أن يتبصر الإنسان في طبيعة هذه القيَم. كذلك يذهب بعضُهم إلى نصرة المعية الإنسانية أو المعايشة السلمية في الاجتماع المتعدد. غير أن القيمة التضامنية التشاركية هذه لا تنطوي إلا على قواعد شكلية من القبول والاحترام. أما النظر في المضامين الأخلاقية التفصيلية التي ينبغي أن ترشد حياة الناس في الاجتماع المعاصر، فلا يُفضي إلى إجماعٍ صريحٍ بناءٍ. لا ينفعني أن أقتنع بما ذهب إليه فيلسوف العدالة الأميركي جون رولز (1921-2002) حين رسم التعددية المعقولة أو الفطنة نهجاً أساسيا في بناء المعية التعددية. ذلك بأن التباين الواضح في تصورات الخير يعطل الإجماع على مجموعة القيَم التي ينبغي أن يعتمدها النظام التربوي في الأسرة، وفي المدرسة، وفي ميادين الائتلاف الاجتماعي الأرحب.

هل تنشئ المباحثة المفتوحة قيماً أخلاقيةً؟

تميل بعض المؤسسات التربوية في الزمن المعاصر إلى إيثار المحاورة المباشرة المفتوحة بين المربين والتلامذة، بحيث تتحول التربية إلى مشاركةٍ تفاعلية بدلاً عن أن تكون استنزالاً علويا يفرض على الناشئة تصورات الخير فرضاً إكراهياً استبدادياً. كثيرةٌ هي فوائدُ المناقشة الحرة بين الطرفَين، إذ إن القيَم الأخلاقية تحظى باعتناءٍ جليلٍ وتناولٍ صادقٍ، وينقلب المربي إلى مرافقٍ أمينٍ يصاحب الأولاد على طريق النضج التدرجي في الفكر وفي المسلك. أما الغاية فمساعدتهم في التعبير عن آرائهم، والإفصاح عن اقتناعاتهم، والاستناد إلى اختباراتهم الاجتماعية النامية ومعارفهم العلمية المكتسبة.

بيد أن العملية التربوية الانفتاحية المبنية على مبدأ التشاركية التفاعلية إنما تُهمل بعض الحقائق الأساسية في مسار تكون الشخصية الإنسانية. في رأس هذه الحقائق استحالة الحياد الأخلاقي المعياري. معنى هذا القول إن بناء القدرة الذاتية على الحكم الأخلاقي يقتضي الاستناد إلى مجموعة من القيَم الأخلاقية الهادية، إذ لا يصح أن أهذب وعي الطفل والولد والمراهق والشاب من غير أن أحمل إليه تصوراً معيناً من تصورات الحياة. ليس التهذيب الأخلاقي عملية معرفية محايدة تستنهض كفاءات المربي الذهنية وقدراته التحليلية وحسب. ومن ثم، ينبغي ألا نخلط القيَم بالمعارف. فالقيمة، لا سيما في مضمونها الأخلاقي، تختلف عن المعرفة، خصوصاً في محتواها العلمي الموضوعي. عرفت البشرية، وما برحت تعرف علماء صناديد قتلوا العلم قتلاً وأحاطوا ببحر المعارف من غير أن يسلكوا مسلكاً أخلاقياً شريفاً.

التمييز بين مرجعية المعرفة العلمية ومرجعية الاقتناع الإيماني

وعليه، لا بد من التذكير بأن المؤسسة التربوية المعاصرة، خصوصاً في المجتمعات الغربية، تواجه على الدوام صراعاً تأويلياً على معاني الحقيقة، فيتنازعها ضربان من المرجعية: مرجعية المعرفة العلمية، ومرجعية العقائد الدينية. في أغلب الأحيان، لا يفطن المسؤولون التربويون لمثل هذا التعارض، ولا يقيمون له وزناً، مع أن الوعي الناشئ يجعل التلامذة والطلاب يختبرون الاضطراب النفسي والارتباك الوجداني، إذ يعجزون عن التوفيق بين متطلبات المعرفة العلمية ومقتضيات الالتزام الأخلاقي المبني على تصورٍ من تصورات الخير المتقابلة في مجتمع التعددية المعاصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذا السياق، يُصر المربون على ربط نجاح العملية التربوية وسلامة الانتماء الاجتماعي بالقدرة على الانتقال الهادئ من دائرة الحقيقة العلمية إلى دائرة الحقيقة الأخلاقية. فضلاً عن ذلك، يقتضي الانتماء السليم إلى المجتمع المعاصر أن يتمكن الإنسانُ من إدراك العلاقة الناشطة بين مختلف حقول المعرفة. وحدها معرفة الأسباب العلمية التي تفسر وقائع العالم ومظاهر الحياة وأحداثها قادرةٌ على إنضاح الوعي الإنساني. لذلك تميزت الأنوار الأُوروبية بالحث على استخدام العقل استخداماً حرا واعياً مسؤولاً. أفضل السبل إلى مواجهة الجهل والطغيان استخدامُ العقل المستنير الذي يجعل الإنسان الحر قادراً على إدراك تعقيدات الواقع ويساعده في إصلاحه وتغييره بحسب ما تميله عليه متطلبات الكرامة الذاتية. أما إذا سقطت معايير التمييز بين القيَم الهادية، ووقع الناس في النسبية أو النسبانية الأخلاقية التناقضية والاستنسابية الذاتية المطلقة، فإن التحالف البناء بين العقل والحرية، أي بين المعرفة والقدرة الحرة على التقويم النقدي الاستصفائي، يضعف وينهار، فتَفقد التربيةُ مرجعيتَها الأخلاقية الناظمة.

مناصرة الحقيقة الموضوعية وتسويغ الحقيقة الذاتية

أعلم أن بعضاً من الذين يؤيدون المباحثة التربوية الحرة المفتوحة سبيلاً إلى ابتكار الأحكام الضابطة والقواعد الناظمة في المؤسسة التربوية إنما يستنجدون بأخلاقيات المناقشة التي صاغها الفيلسوف الألماني هابرماس (1929) ووضع لها الأسُس المعرفية النقدية الملائمة. غير أن الاستناد إلى هابرماس لا يعني أن كل الحقائق فارغةُ المضمون لا يملك الإنسانُ إلا أن يُسند إليها ما يستحسنه أو يستذوقه أو يستطيبه من إجماعاتٍ مسلكية ومواضعاتٍ عملية. صحيحٌ أن هابرماس المنتمي إلى مدرسة فرانكفورت النقدية مال بعض الميل إلى انتقاد المنحى العلمي القطعي في المعرفة، وانحاز بعض الانحياز إلى النسبانية المعرفية الشاملة. ولكنه لم يبلغ حدود القول بنسبانية الحقائق على غرار الفيلسوف الأميركي رورتي (1931-2007) القائل ببطلان الوقائع الموضوعية الصلبة وباستناد العملية المعرفية كلها إلى استنسابات الذات الحاكمة بأمرها. ومن ثم، استثمر هابرماس استثماراً فطناً موارد فلسفات اللغة والفلسفات البراغماتية العملية لكي يميز فعل التعلم الواعي من فعل التمذهب العقائدي والحشو الإيديولوجي. في كتابه "الحقيقة والتسويغ" (Wahrheit und Rechtfertigung)، يبين لنا أن العالم قائمٌ بحد ذاته قياماً مستقلاً عن تصوراتنا التي تجتهد في رسمه رسماً مستنداً إلى ذاتيتنا العارفة. إذا كان الأمر كذلك، لا يجوز لنا أن ندعي أن الواقع مجموعُ تصوراتنا الذهنية، ولا يحق لنا أن نلغي التمييز الضروري بين المعرفة الموثوقة والرأي الشائع، بين الحقيقة الموضوعية وتخيلات الحقيقة في أذهان الناس.

حُكم الوصف الواقعي وحُكم التمييز القيمي

من الواضح أن كتاب "الحقيقة والتسويغ" أتاح لهابرماس أن يعيد النظر في فلسفته الاجتماعية وفي تصوره الرامي إلى تدبر مسار نقل المعارف والقيَم في سياق النظام التربوي المعاصر. ذلك بأن هذا الكتاب لا يُلغي المناقشة والمقام المعرفي الجليل الذي يلائمها، ولكنه يبين لنا الاختلاف بين الحقيقة وتسويغ الحقيقة. لا يستطيع الإنسانُ الفرد أو حتى الجماعة المنخرطة في المباحثة الحرة صنعَ الحقيقة أو ابتكارَها بواسطة سَوق الأدلة النظرية. مثل هذا المسعى يُفضي إلى جعل الخطاب خطاباً مقبولاً على المستوى العقلاني الذهني النظري المحض، ولكنه لا يُفضي بنا إلى الحقيقة.

استناداً إلى ذلك، ينبغي التمييز بين الأحكام التي تصف الواقع كما هو، والأحكام التي تشرعن الواقع أو تقومه أو تهبه المعنى والقيمة والمغزى والمقصد. لا يمكننا، من ثم، أن نخلط الأحكام الأخلاقية الإرشادية بالأحكام الوصفية العلمية. إذا كان الحكم الأخلاقي مقترناً بتصورات الخير الناشطة في ثقافةٍ من الثقافات، فإن الحكم الوصفي يرتبط بفرضية وجود العالم الموضوعي المستقل عن تصورنا الذهني. أما القول بأفضلية حكمٍ أخلاقي وقدرته على إنعاش الذات الإنسانية وصون الكرامة البشرية، فإنما يستند إلى تصور أشمل يتناول الكون والحياة والوجود والتاريخ. لا شك في أن المناقشة الحرة المبنية على المساواة الكيانية الأصلية ما زالت السبيل الذي يضمن لنا صحة الخطاب الوصفي العلمي المستند إلى أشد الحجج إقناعاً. بيد أن الأحكام المعيارية الأخلاقية ما برحت تحتاج إلى تسويغٍ مختلف يستند إلى الاقتناعات الفكرية العميقة التي تستوطن الذات الإنسانية الفردية والجماعية.

مِحَن التربية المعاصرة الثلاث

يعلن فيلسوف التربية الفرنسي ميشال فابر (1948) في كتابه "أن نربي من أجل عالم إشكالي" (Éduquer pour un monde problématique) أن الأنظومة التربوية برمتها، إذا شاءت أن تستزرع القيَم في وجدان الناشئة، كان عليها أن تتجنب السقوط في محنٍ ثلاث: العقائدية، والنضالية، والنسبية. تُصر العقائدية على إلغاء المشكلات السياسية والأخلاقية وتكتفي بحل مسائل التربية المدرسية حلا علميا تقنيا محضاً، وفي ظنها أن المجتمع بنيةٌ تقنيةٌ تعمل وفقاً لمخطط وظيفي تكنوقراطي يخضع بموجبه المواطنون لآراء أهل الاختصاص العلمي الدقيق. تكتفي النضالية باستدخال بعض القيَم الصالحة والمعاملات المفيدة في وعي الناشئة، كالحفاظ على الطبيعة وفرز النفايات والإعراض عن أكل اللحوم الحيوانية وما شابه، وفي يقين هذا التيار أن مثل هذه الالتزامات نضالاتٌ أخلاقيةٌ تساهم في صون إنسانية الإنسان. أما النسبية أو النسبانية فتنادي بالمشروعية المتساوية في جميع تصورات الخير والقيَم الأخلاقية، بحيث يُتاح لكل إنسان أن يختار ما يلائمه من مسلك اجتماعي.

إذا استطاعت المؤسسة التربوية أن تتجاوز هذه المحن، كان عليها أن تنصرف إلى معالجة مسألة التناقض بين القيَم النظرية والممارسات العملية، إذ إن التلامذة غالباً ما يحبطهم التفاوت المخيف بين خطاب المساواة النظري وواقع التمييز المجحف، بين جمال الأخوة المثالي واختبارات الإقصاء والعزل في معترك الحياة اليومية. أما السبيل التربوي الآخر فيقتضي أن يعكف المربون على إنشاء حلقات حوارية يستعرضون فيها القيَم الأخلاقية استعراضاً موضوعياً منيراً، بحيث يهيئون العقول لتناولها تناولاً بحثياً محايداً. من المفيد، والحال هذه، أن يناقش أساتذة الفلسفة تلامذتهم في مسائل قيَم العدالة والمساواة والحرية والواجب، وأن يتناول أساتذة الاقتصاد وعلم الاجتماع قضايا الفردانية المتفاقمة على مستوى المسكونة، وأن يعالج أساتذة التاريخ مشكلات حقوق الإنسان والأنظمة الاستبدادية، وأن يحلل أساتذة الآداب الرؤى الأخلاقية التي يناصرها الأدباء في نصوصهم.

رأس الكلام في هذا كله أن بث القيَم الأخلاقية في وجدان الناشئة أمرٌ خطير يستوجب من الفطنة أبلغَها، ومن الدراية أنضجَها. إذا تناولنا واقع النظام التربوي المدرسي، وجب علينا أن نستفسر عن أهلية صروح التنشئة هذه للاضطلاع بمثل المسؤولية الثقافية الجليلة هذه. قد يكون من أوجب واجبات المدرسة أن تلقن التلامذة فن التفكير العقلاني النقدي الحر المسؤول على قدر ما تحرض الجميع على تفحص عملية تكون الاقتناعات الشخصية في الوجدان الذاتي، وذلك بواسطة مقارنة المخزون الفكري المتوارث بالمعارف العلمية المكتسبة والحقائق التاريخية المتطورة والاختبارات الذاتية الطارئة. حين يكتسب الطفل واليافع والشاب المهارات المعرفية المتكاملة هذه، يستطيع أن يتخلق بأخلاق الرفعة الإنسانية التي تساهم في تعزيز المبادئ العليا التي تقوم عليها شرعة حقوق الإنسان الكونية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة