Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"إعلان بكين": ما يرى وما لا يرى (3)

صعدت الصين في الاقتصاد والمال منذ ضربات 11 سبتمبر بينما انخرطت أميركا في "الحرب على الإرهاب"

المقاربة العسكرية الصينية للشرق الأوسط كانت ولا تزال دقيقة ومتأنية (رويترز)

ملخص

بموازاة النمو الاقتصادي، لم تقصر #الصين على صعيد #النمو_العسكري فاستعملت #بكين رأس مالها لتطور جيشها وأسلحتها حتى باتت تضاهي #الولايات_المتحدة في بعض المجالات

قلائل في واشنطن، وربما في الشرق الأوسط، الذين تخصصوا في دراسات شرق آسيا أو خدموا في أجهزة دبلوماسية أو استخباراتية، يعرفون بعمق عن الاستراتيجية الصينية حيال الشرق الأوسط الكبير، وبشكل خاص عن أهداف بكين المتوسطة والبعيدة المدى في المنطقة. هذا لأن هذا الموضوع لم يحلل كثيراً في الإعلام، وربما بسبب قلة قراءة الرأي العام للغة الصينية. ولكن الزلزال الذي أحدثته قمة بكين باستضافة السعودية وإيران ولعب دور "عراب التطبيع"، وربما السلام بينهما، دفع كثيراً من المراقبين والباحثين وأصحاب القرار للتعمق أكثر بسياسات الصين الدولية، وبخاصة الشرق أوسطية. ومع توسع الدور الصيني في المنطقة، ومناطق أخرى، لنلخص بعض أهم الملاحظات حول الموقع الصيني الحالي تجاه أميركا والعرب وإيران وروسيا كما هي فعلاً، وليس كما تصورها الأطراف المختلفة.

التطور الجذري

عندما سقط الاتحاد السوفياتي في 1990-1991، سقط الحكم الشيوعي في موسكو وعموم أوروبا الشرقية، وظهر مكانه دولة قومية في روسيا ودول ليبرالية في شرق أوروبا ودول انتقالية بين المنظومتين. ونسي كثيرون في الغرب أن نصف الكتلة الشيوعية في العالم، أي الصين الشعبية وكوريا الشمالية وفيتنام وكوبا، نجت من الانهيار. بعض هذه الدول تجمدت في طبيعتها الأيديولوجية ككوريا الشمالية، وإلى حد ما كوبا، ولكن دولاً أخرى كالصين وفيتنام اختارت "التطور" باتجاه نظام السوق اقتصادياً مع الإبقاء على نظام الحزب الواحد سياسياً. خلال التسعينيات فتح الغرب، وبخاصة إدارة كلينتون، أبواب منظمة التجارة العالمية أمام بكين، فدخلت وطورت اقتصادها بشكل سريع، وحاولت، ومن ثم نجحت باللحاق باليابان وكوريا الجنوبية، فباتت تضارب في إنتاجها على الدول الليبرالية المنتجة. وانتشرت ماركة (Made in China) صنع في الصين بموازاة (Made in Japan) صنع في اليابان، وغيرها من الدول الصناعية الآسيوية. وللتلخيص، فالصين استفادت من عقدين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي لتتحول إلى قوة اقتصادية جبارة، إضافة إلى امتلاكها الأسلحة النووية الهيدروجينية.

وفي العقد الثالث بعد الحرب الباردة بدأت بكين بالتحول إلى "مصرف دولي" يوفر الديون الهائلة للدول التي تواجه أزمة سيولة، بما فيها تريليونات للولايات المتحدة نفسها، بما حولها إلى صندوق دولي هائل. واستعملت الصين هذه القدرة لتستثمر في عشرات الدول في قارات ثلاث، جنوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وبات لها سوق دولية وشبكة تجارية وعلاقات اقتصادية واسعة، بما فيها مع دول رأسمالية لم يكن ماو تسي تونغ يتصورها ممكنة في الخمسينيات. 

وقد صعدت الصين الشعبية في الاقتصاد والمال منذ ضربات 11 سبتمبر (أيلول)، بينما انخرطت أميركا في "الحرب على الإرهاب" خلال عقدين. ومع الانسحاب من أفغانستان بدأ الرأي العام الأميركي يشعر "بثقل" الصين الاقتصادي والجيوسياسي، بخاصة أن الكلام عن الرئيس شي جينبينغ بدأ يتكثف في الغرب. وبرزت صورة الزعيم الصيني أكثر مع سلسلة تطورات بدأت مع انفجار حرب أوكرانيا، واحتلال الصين الموقع الأهم في احتمال وساطة لإنهاء الحرب، وصولاً إلى قمة بكين التي أطلقت الصفقة السعودية - الإيرانية لاستئناف العلاقات، والتي قد تتطور إلى معاهدة سلام إذا صدقت طهران في التزاماتها. وخرجت الصين من المعادلتين كأقوى مرجع وسيط لإنهاء الحروب في المرحلة الحالية. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الاستراتيجية العسكرية

بموازاة النمو الاقتصادي وتجميع أحجام سيولة هائلة، لم تقصر الصين على صعيد النمو العسكري، فاستعملت بكين رأس مالها المارد لتطور جيشها وأسلحتها حتى باتت تضاهي الولايات المتحدة في بعض المجالات، وروسيا في معظمها. فشهد العالم بتعجب الدرجة العالية للتحديث الدفاعي الصيني، حيث باتت طائراتها المقاتلة ودباباتها وصواريخها تنافس أسلحة "الناتو". إلا أن القيادة الصينية اختارت طريقاً مختلفاً عن موسكو، وبخاصة واشنطن، إذ إنها وسعت وضخمت قوتها العسكرية، ولكنها لم تدخل في أية حرب منذ مواجهتها مع فيتنام على حدودهم المشتركة في 1979. ولم تفتح الصين قواعد عسكرية خارج أراضيها لعقود. فاتبعت استراتيجية التقوية الذاتية العسكرية من دون صدامات، مع أنها قامت ببيع منتجات في قطاع الدفاع عالمياً لسنوات. 

الفتح الصيني

المقاربة العسكرية الصينية للشرق الأوسط كانت، ولا تزال، دقيقة ومتأنية و"صبورة"، فلم ترسل بقواتها إلى المنطقة كما فعلت روسيا في سوريا، أو شركاتها الأمنية الخاصة كما فعلت مجموعة "فاغنر" في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل. بكين فضلت الدخول من الباب الإقليمي الواسع والهادئ. ففي مارس (آذار) 2021 وقعت الحكومتان الصينية والإيرانية على اتفاق تعاون استراتيجي أمني لـ25 عاماً وفر "دخولاً" صينياً في عمق الشرق الأوسط ولمدة طويلة. وقد تصل مفاعيل الاتفاق هذا إلى دول أخرى تحت النفوذ الإيراني. 

وبدأت بكين تقيم الوضع الإقليمي المنبثق من الحرب الأوكرانية في 2022، موقعة نفسها كداعم لروسيا، ولكن من دون مشاركة مباشرة. وفي تلك المرحلة ساد الغموض في العلاقات العربية مع إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بخاصة منذ قمة جدة عندما حاولت الإدارة فرض نظرتها على الإقليم لناحية الإنتاج النفطي، فرفض التحالف العربي ما اعتبره "سياسة الفرض من البعيد" التي اتبعها البيت الأبيض وقتها، ففُتح باب جديد لإعادة خلط الأوراق الاستراتيجية في الخليج، وبدأت مشاورات جدية لإطلاق مبادرة سلام سعودية - إيرانية تحت رعاية صينية. وأثمرت هذه الجهود منذ بضعة أسابيع الإعلان الصيني - السعودي - الإيراني حول استئناف العلاقات. ونجحت الصين في الاستفادة من هذا التطور الصاعق، لتطرح نفسها كحكم أعلى في الشرق الأوسط الكبير لحل الأزمات القائمة. وبالطبع، معادلة كهذه ستجني للصين كثيراً من المكاسب بسبب شبكة العلاقات الاقتصادية التي ستنمو نتيجة للاتفاقات المتبادلة التي ستلحق الاتفاق الأم في بكين. وفي قمة هذه المكاسب، التي ستؤثر في السوق المالية العالمية، هو الاتفاق بين الرياض وبكين على التداول بالعملة الصينية لتنفيذ صفقات شراء النفط والغاز من الخليج، وذلك قد يفتح الباب لتحول عمليات شراء مماثلة في المنطقة وقارات أخرى إلى "اليوان"، مما يؤثر في سيادة الدولار.

المرحلة الآتية

ما قد يوصف بـ"الفتح الصيني" الاقتصادي والتجاري والدبلوماسي قد يتحول إلى توسع استراتيجي لبكين يدخل في معادلة إخلال التوازن - أو تصحيحه في نظر الصين وشركائها - مع الغرب. تحركان كبيران على الصعيد الاستراتيجي يؤشران إلى ذلك، الأول مناورات استراتيجية ضخمة جرت العام الماضي للقوى البحرية الروسية والصينية بمشاركة إيرانية رمزية ودول أخرى انطلاقاً من مرفأ فلاديفستوك على المحيط الهادئ، وقد وصلت بعض القطع على مقربة من ألاسكا. أما الثاني، وربما الأهم، فهي المناورات الصينية الروسية - الإيرانية البحرية المشتركة في خليج عُمان، أخيراً، والتي شكلت رسالة للقوات الأميركية في الخليج، بأن توازناً جديداً بات قائماً في الإقليم يرتكز على قوة مشتركة روسية - صينية، والأهم على دبلوماسية صينية تهندس الترتيبات الجديدة في المنطقة. 
السؤال يبقى: ماذا ستفعل إسرائيل؟ وكيف ستتصرف واشنطن حيال هذا التغيير؟ سنحلل ذلك في المقالات الآتية.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء