Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مأساة الزواج بلا حب في مسرحية "حدائق الأسرار"

عمل مسرحي مغربي يراهن على الرمزية من أجل إبلاغ رسائل اجتماعية

من جو مسرحية "حدائق الأسرار"المغربية (خدمة الفرقة)

ملخص

عمل #مسرحي مغربي يراهن على #الرمزية من أجل إبلاغ #رسائل_اجتماعية

تحاول الأجيال الجديدة من المسرحيين المغاربة استثمار كل الوسائط التقنية المتاحة، والنهل من حقول معرفية وفنية مختلفة، من أجل تقديم أعمال جديدة تتسم بالعمق الفكري من جهة، وتراهن على القيمة الفنية والجمالية للعرض. ومسرحية "حدائق الأسرار" للمخرج محمد الحر نموذج متقدم لهذا التوجه، وفوزها بأربع جوائز في الدورة الأخيرة من "مهرجان قرطاج المسرحي" هو تأكيد لنجاعة الخيارات الفنية والفكرية لفرقة "أكون" المغربية. ففضلاً عن الجائزة الكبرى حظيت المسرحية بثلاث جوائز أخرى، أفضل إخراج وأفضل سينوغرافيا وجائزة أفضل أداء نسائي التي عادت للفنانة جليلة تلمسي. وقد نوهت لجنة التحكيم بالمسرحية الفائزة ومنحتها صفة "عمل متكامل". وتواصل المسرحية الجديدة لمحمد الحر، جولتها داخل المغرب وخارجه، وقد حطت الرحال خلال هذا الشهر في المسرح الوطني محمد الخامس، في أول عرض في "الملتقى الدولي للإبداع الفني" في الرباط.

تتوسل "حدائق الأسرار" الرمزية في تبليغ رسائلها، إذ تفتح نقاشاً عميقاً حول التفكك الأسري، عبر رصد حالات نفسية واجتماعية شخصها الممثلون باقتدار. تقف المسرحية بالجمهور في منطقة الاضطراب النفسي والاجتماعي بين الأزواج، في تحولها من جيل سابق إلى آخر راهن، بغض الطرف عن الشرط المادي. ذاك أن الأسرة التي يقترحها العمل المسرحي تنتمي إلى فئة مرتاحة مادياً. يصر الأب الذي عاش تجربة زواج من دون حب أن يدخل ابنته إلى متاهة الاجترار، عبر الدفع بها إلى مغامرة الزواج التقليدي الذي ينتهي برجل وامرأة إلى بيت واحد من دون سابق حب بينهما.

 

يفتح محمد الحر هذا النقاش الاجتماعي والنفسي في قالب تجريبي لا يقطع بالضرورة مع الواقعية. وتبدو المشاهد الحاملة للخطاب المسرحي آهلة بالرموز، إذ يتفادى المخرج الوقوع في المباشرة والتقرير. فهو يعرف أن كل ما يدور على الخشبة ينبغي أن يحافظ على فنيته، بعيداً من الخطاب الحكمي المباشر. فليست وظيفة الفنان هي إصلاح أعطاب المجتمع، بل طرحها أولاً، واقتراح مداخل فنية لمناقشتها، كما لو أن الأمر يتعلق بالاقتصار على إبراز الإشكالات وتقاسمها مع المتلقي، وطرح الأسئلة بشكل مفتوح، بدل تضييق الرؤية وحصرها عبر توفير الإجابات السريعة والمحسومة. وربما هذا ما دفع بريخت إلى القول "أنا أرفض المسرح الذي يقدم قيماً أخلاقية ثابتة من منظور تبريدي. المسرح المطلوب هو الذي يؤكد قيماً اجتماعية وأفكاراً جديدة تدفع بوعي الناس إلى الأمام".

 النظر في داخل الإنسان

إن ما يراهن عليه العمل المسرحي "حدائق الأسرار" هو أن يتوقف الإنسان المعاصر من حين لآخر، وينظر عبر ما سماه الكاتب المغربي أحمد بوزفور "نافذة على الداخل"، ليتأمل ذاته وينتبه إلى ما آل إليه. لا يدفع محمد الحر وفريقه المسرحي بوعينا إلى الأمام كما يتوقع بريخت فحسب، بل إنه يرشدنا إلى حدائقنا السرية، راجياً منا بشكل ضمني ألا نطيل القطائع بين لحظات التأمل في دواخلنا. 

ينطلق المشهد الأول من مسرحية "حدائق الأسرار" بستارة مفتوحة وستارة أخرى مغلقة في عمق الخشبة، يبدو على يمين الخشبة تمثال لرأس فوق كرسي مضاء بمصباح، وعلى يسار الخشبة مجموعة من الميكروفونات، تظهر فوق الستارة المغلقة لوحة للعرض. تطفأ الأضواء بينما يعرض على اللوحة عنوان المسرحية، تليه عبارة "إلى روح حسن المنيعي" وهو أحد الأسماء الأساسية في المسرح المغربي.

 يدخل المخرج في دور تقني، متوسطاً دائرة ضوئية ليقدم المسرحية بالدارجة المغربية، معلناً أن القصة شيء والموضوع شيء آخر، ثم يدخل ممثل آخر (ياسين أحجام في دور الأب) يتأمل التمثال بسيجارة مشتعلة، يتجه نحو الميكروفونات، يحمل برتقالة ويتوسط الدائرة، بينما تعرض على اللوحة عبارة "آه لو كنت أعلم أن البداية ستكون في هاته اللحظة بالضبط". يخرج ورقة من المعطف وعلى شاشة اللوحة يعرض حوار استهلالي يلخص ما سيأتي من أحداث. يرمي بالبرتقالة نحو الستارة الخلفية، وعلى شاشة العرض تظهر عبارة "لا تفتحي ذلك الباب"، لتفتح الستارة الخلفية على ممثلة أخرى (جليلة تلمسي في دور الأم)، واقفة أمام ثلاجة وفي يدها باقة ورد، تضع الباقة وتفتح باب الثلاجة على صرخة فتاة (هاجر الحامدي في دور البنت) تخرج بفستانها الأبيض، وعلى شاشة العرض تظهر عبارة "تتحدث لي الزهرات الجميلة أن أعينها اتسعت دهشة لحظة القطف، لحظة القصف، لحظة إعدامها في الخميلة".

 

يبدو مشهد البنت التي تخرج من الثلاجة آهلاً بالدلالات، فهذا الزواج المفروض عليها والخالي من المشاعر المتبادلة هو بمثابة وضع اجتماعي جليدي، تتجمد فيه كل أشكال الإشراق والفرح بالحياة، بالتالي فخروجها هو بمثابة انعتاق.

توتر اجتماعي

اختار المخرج أن يكون الحوار بين المرأة والفتاة بالحركات والإيماءات بدل الكلمات، وإذ يجعل الصوتين مكتومين يتيح لصوت ثالث أن ينطلق في حوار من الكواليس. صوت امرأة تعلن أنها تعلمت منذ نعومة أظفارها أن الصمت حكمة وأن الحقيقة بكل بساطة هي أخت الصمت. تؤدي الممثلتان رقصة طائر جريح ويعرض على الشاشة عنوان المشهد "حارس المدفن"، ويستمر صوت الكواليس يحكي حكاية الفتاة مع الأب والأم.

يدخل المخرج "التقني" ويضع مروحيتين بجانب الميكروفونات التي كانت على رأس فتاة في حالة تضرع صوفي تصرخ في نهايته "سأفتح كل الأبواب، سأعري كل المرايا"، وتنزع الثوب عن الستارة الخلفية لتصبح الستارة على شكل مرايا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولعل تقنية توظيف المرايا ووقوف الشخصيات أمامها هي رمز لحالات المكاشفة والمناجاة الداخلية التي تجعل الإنسان ينتبه إلى غربته في وسط يبدو للآخرين مجالاً لتقاسم الألفة. تحاول الفتاة الانتحار فتمنعها الأم، ليدخل الأب في صراع مع نفسه انتهى بهزيمة جسدها المخرج في انهيار الرجل داخل عاصفة ثلجية.

راهن البناء الدرامي لمسرحية "حدائق الأسرار" على التنامي والتدرج في كشف الحالات النفسية للشخصيات الثلاث: البنت العاشقة لرجل غائب والمجبرة على الزواج بمن لا تحب، الأب الذي لا يريد أن تضيع هيبته بعد أن وعد رجلاً آخر بالزواج من ابنته، والأم التي تزوجت بلا حب، وتتعذب أمام المشهد الذي يتكرر لابنتها. غير أن المخرج جعل البناء الدرامي يقود إلى نهاية مفتوحة، قد تكون الأطراف مخطئة، وقد تكون أيضاً بريئة. فالسؤال الذي طرحته الشخصيات الثلاث في نهاية المسرحية مبطن بالحيرة والقلق والشتات أيضاً، مما يجعل المتلقي يتعاطف معها، فهي في النهاية ضحية أنظمة اجتماعية راكمتها ثقافة لا تزال في كثير من تمظهراتها أسيرة إرث الماضي.

إن الموضوعة التي تركز عليها المسرحية هي الزواج من دون حب، ومحاولة إكراه الأجيال الجديدة على الزواج بالطريقة نفسها. قد يبدو هذا الموضوع مستهلكاً في الأعمال الأدبية والدرامية، لكن طريقة المعالجة هي العنصر اللافت في مسرحية "حدائق الأسرار". فمساحات التأويل متاحة بشكل هائل، يجعل المتلقي عنصراً مساهماً في بناء دلالات العمل الفني. ليس الارتباط القسري بين امرأة ورجل لا تحبه سوى تمظهر رمزي من تمظهرات الضغط الاجتماعي وهيمنة ثقافة الجماعة. إن نداء الفن موجه في الغالب إلى الطاقات الداخلية من أجل استثمارها بغية الخروج من كل ظلام نفسي واجتماعي، من أجل تحقيق أكبر قدر من الحرية للإنسان المعاصر الذي تواصل تهديد حرياته ضغوط داخلية وخارجية، ليس الزواج القسري في مجتمعاتنا العربية سوى أبسط تجلياتها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة