ملخص
تجربة #الإغلاقات أثناء الجائحة دفعت إلى التفكير بكيفية جعل #المجتمعات_المحلية مكتملة وتفي بالحاجات كافة من دون الحاجة للسفر من أجل تأمين الأساسيات
قبل ثلاثة أعوام قيل لنا جميعاً أن نبقى في منازلنا. وتلا ذلك ما لم يكن ممكناً تفاديه من مشاهدة الفيروس ينتشر عبر العالم، ورؤية المدن الأجنبية والدول تعلن حال الإغلاق الواحدة تلو الأخرى، فيما كنا نعتاد على غسل أيادينا، وإلقاء السلام بأكواع اليدين.
بالنسبة إلى من نجحوا في البقاء بصحة جيدة وحصلوا على الدعم الذي يحتاجون إليه، ومن لم يكونوا على علاقة مباشرة بما رأيناه من تكشف فصول من الرعب في منازل الرعاية الاجتماعية للمسنين والمستشفيات، كان لأول إغلاق عام أثراً سحرياً. فهدأت الشوارع، وصفت الأجواء من التلوث، وبتنا نقضي حاجاتنا سيراً على الأقدام، أو عبر استخدام الدراجات الهوائية في رحلات لم تزد مدتها على حوالى ربع الساعة ـ حياتنا غدت محلية جداً جداً.
وسارع السياسيون لتلقف الأمر. وانتشر شعار "إعادة البناء بشكل أفضل" Build Back Better، على معظم المنصات وشاشات التلفزيون، اعترافاً بأنه وسط الضغوطات والإغلاق تكشف شيء جديد حول كيفية تنظيمنا لمدننا ومناطقنا، والكيفية التي نعيش من خلالها حياتنا.
وبدا أن الأزمة قدمت لنا الفرصة لإعادة التفكير، وتغيير الأمور نحو الأفضل، والسعي من أجل مقاربة جديدة في التصرف، تكون مرتكزة على إنشاء بيئة محلية أقوى.
لكنه يبدو أن مبدأ "حيّ 15 دقيقة" [أي أحياء مكتفية ضمن دائرة لا يتعدى التنقل فيها ربع ساعة] يستغل للافتراض أن هناك قوى مشبوهة تسعى إلى احتجازنا للأبد في مجالات حركة ضيقة للغاية حول أماكن سكننا. وفسر ذلك ــ تماماً مثل أمور كثيرة عهدناها في الأعوام الثلاثة الماضية وفق نظرية المؤامرة.
ويجري إقناع عدد متزايد من الناس من قبل مزيج من منظري المؤامرة واليمين المتطرف والانتهازيين بأن "الدولة العميقة" [توصيف يلجأ إليه أصحاب نظرية المؤامرة ويقصد به تدخل الدولة بكل شؤون العباد من أجل الحفاظ على مصالحها كنظام حكم] لديها خطة سرية لاحتواء المواطنين في دائرة مدن "15 دقيقة" [أحياء فيها ربع ساعة].
وستكون الخطوة الثانية للمخطط الشنيع وبحسب كلام أحد النواب في البرلمان ـ هو العمل من أجل "سلب الحريات الشخصية".
بالنسبة إلى بعضهم، كان ذلك امتداداً لنقاش حول دور الدولة وقطاع الأعمال والحقوق الفردية التي طفت على سطح النقاشات خلال أزمة كورونا ــ وما إذا كانت تلك نقاشات عن عمليات الإغلاق أو اللقاحات ــ وبالنسبة إلى آخرين مجرد مواضيع للإثارة بحد ذاتها، هدفها تحقيق مصالح شخصية. بحق، كيف وصلنا إلى هنا؟
أنا أعتقد بأنه يتوجب علينا أن نبذل الجهد لكي نستعيد ملكية فكرة "مدن الـ15 دقيقة" وحمايتها من التشويش وانتهازية المروجين لنظريات المؤامرة، وأن نتمسك بمبادئها الأساسية المركزية: وهي كيف يمكن أن تكون مناطق سكننا، أكانت غنية أو لا، تتمتع ببنية مواصلات بمناطق أخرى جيدة أو لا، بمكان يشعر المواطنون فيها بقدرتهم بكل فخر على اعتبارها بيتهم، وتكون تفي بحاجاتهم كافة، من دون أن يكونوا مجبرين على السفر من أجل تأمين حاجاتهم الأساسية.
خلال فترات الإغلاق تحول انتباهنا إلى ما كان موجوداً على مقربة من منازلنا، المتاجر، والإمكانات المتوافرة في شوارعنا التجارية، المؤسسات المستقلة التي عادة ما كنا نجدها مقفلة أبوابها في ساعات عودتنا لمنازلنا بعد يوم العمل في مراكز عملنا [البعيدة]، في الفترات التي سبقت أيام الإغلاق.
كل تلك المؤسسات تحولت فجأة إلى ركن من أركان حياتنا اليومية. ونحن أفردنا الوقت اللازم للسير إلى المتاجر، وأفردنا مساحة أكبر لبعض النشاطات في الهواء الطلق من خلال الذهاب إلى بائع الخضراوات ومن ثم إلى بائع اللحوم، بدلاً من الذهاب إلى متجر السوبرماركت الكبير، وكل ذلك أصبح جزءاً عادياً من حياتنا اليومية، بدلاً من أن يكون استثناء نادراً في حياتنا.
واعتدنا أيضاً على شوارع خالية من ازدحام حركة السير، من انبعاثات العوادم والضجيج، كما أننا أصبحنا معتادين على إمكانية عبور الأطفال للشوارع بأمان، أو أن يقودوا دراجاتهم الهوائية إلى الحدائق العامة من دون الخوف على سلامتهم.
وبينما بدأنا بالتفكير والحلم كيف يمكن لحياتنا أن تصبح أفضل بعد زوال خطر الفيروس، ازداد الاهتمام بكيفية استخدامنا لشوارعنا، خصوصاً كيف يمكننا أن نصمم مناطق سكنية بحركة سير منخفضة low-traffic neighbourhoods LTN. وكيف يمكننا أن نعمل على منع عودة نهج الحياة السريع السابق وضجيجها وتلوثها والعدوانية التي ترافقها ولطالما تسببت بها حركة قيادة المركبات في المدينة؟
أظهرت الدراسات أن المناطق السكنية ذات حركة السير المنخفضة، نجحت في خفض حجم حركة السير في داخلها وفي محيطها، مما أدى إلى مزيد من حركة المقيمين فيها سيراً على الأقدام وعلى دراجاتهم الهوائية. أنا أعتقد بأنه على المجالس المحلية أن تكون أكثر ثقة بعملها على توسيع منافع تلك المناطق السكنية ذات حركة السير المنخفضة، وتوسيعها لتشمل عدداً أكبر من المجتمعات.
لكن هذا مجرد جزء من التغيير المزمع تحقيقه، وليس التغيير بمجمله. إن فكرة "البناء من جديد بشكل أفضل"، كان يفترض أيضاً أن تشتمل على جعل تلك المناطق السكنية تفي بكل حاجات وتطلعات أبنائها. لماذا إذاً، في المناطق المأهولة، كان على المواطنين السفر لقضاء حاجات كان من المفترض أن يكون الحصول عليها أمراً محلياً؟ إن المحيط المباشر في حياتنا كان لا بد له من أن يؤمن لنا تنوعاً، وأن يوفر للجميع ما من شأنه أن يسمح بعيشهم نمط حياة جيداً.
كانت تلك الفكرة الأصلية وراء فلسفة "مدن الـ15 دقيقة". أن تكون طريقة كي يحصل الجميع وبغض النظر أين يعيشون، على حق الوصول إلى المتاجر والمراكز الرياضية ومراكز الترفيه وأماكن لاحتساء كأس جعة أو تناول وجبة طعام، أو إلى مساحات خضراء وأماكن مخصصة للعب الأطفال وإلى مراكز للرعاية الطبية والخدمات، ويمكنهم الوصول اليها كلها سيراً على الأقدام، كل ذلك من دون الحاجة إلى أن يكلفهم ذلك دفع قيمة الوقود أو ثمن تذكرة التنقل في وسائل النقل العام.
ولكن عوضاً عن ذلك ها نحن وصلنا إلى هنا: فالتركيز اليوم هو فقط على تسليس حركة السير، وليس جودة المكان، وهو ما فتح المجال واسعاً للانتهازيين المشككين كي يروجوا للخوف في أوساط جزء كبير من الشعب، فيما كان حريّ بنا أن نعتنق فكر التغيير في مناطقنا وتطبيقه.
أنا أتمنى أن يوفر ذلك للمجالس البلدية والقائمين على القرار لحظة مراجعة جدية تعمل على تقييم المناطق التي هم مسؤولون عن إدارتها. إن اتخاذ القرارت في شأن الشوارع التي تهيمن عليها حركة سير قوية هي بحاجة إلى اعتماد إطار جديد يعمل على التزام تنشيط الأحياء المحلية وتفعيلها.
إن تحقيق ذلك لا يمكن اعتباره عملاً سيئاً ـ في وقت تعاني المجالس المحلية ضغوطاً في مساعيها لتوفير الخدمات الأساسية بعد أكثر من عقد من الزمن شهدت خلاله اقتطاعات في موازناتها ـ لكنني أعتقد بأن ذلك ما زال في الإمكان تحقيقه.
ويعني كل ذلك البحث عن حلول مبتكرة للمتاجر الخالية والمراكز المدينية المتهالكة، وأن نعيد النظر في كيفية جعل الخدمات العامة التي تعاني نقصاً في الإمكانات النقدية متاحة أكثر للمواطنين، وأن تكون فاعلة أكثر للمجتمعات التي تخدمها، وكيف تقوم المجالس المحلية بالاستثمار في بناء وتخطيط الأماكن كي لا تشعر أي من الأحياء السكنية بأنها أهملت.
من المهم لأي عمليات تغيير تعتزم المجالس المحلية القيام بها أن تحصل عبر عملية تشاركية مع المجتمعات التي تمثلها، وليس بطريقة فرض القرار. وهذا أمر يمكن تحقيقه من خلال عملية تواصل مكثفة، وأن يصار إلى اللجوء إلى مجالس للمواطنين ــ تكون في مقام توفير استشارات أصلية تمثل المجتمع وتقوم بإيصال الأصوات الهادئة فيه.
عندها فقط يمكننا أن نطمئن المجتمع ونلغي أثر القلق العميق الذي يلفه إزاء التغيير في حياة مناطقنا المحلية التي نرى أنها تستغل بتزايد مستمر.
لا يمكن أن يغيب تركيزنا عن الأمل وإرسال الرسائل الإيجابية التي كانت أساسية في شعار "إعادة البناء بشكل أفضل". علينا أن نقلع عن الاهتمام بمسألة رحلات الـ15 دقيقة، وعوضاً عن ذلك أن نركز على جعل أحيائنا السكنية أماكن سكن عظيمة.
ماثيو بينيت هو نائب رئيس المجلس البلدي السابق في دائرة لامبيث في لندن، مع خبرة في العمل على مشاريع الاندماج الاقتصادي وبناء مراكز سكن أفضل
© The Independent