Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غروسمان السوفياتي أكمل روايته الكبرى فبات منشقا رغم أنفه

جريمة "الحياة والمصير" أن كاتبها شبه الستالينية بالنازية ككثر من قبله ومن بعده

فاسيلي غروسمان (1905 – 1964) خلال الحرب (موسوعة الأدباء الروس)

ملخص

كان #الكاتب_السوفياتي_فاسيلي_غروسمان محاطاً بآيات التبجيل، حتى وغن لم يكن من أولئك الذين سخروا أقلامهم لخدمة #ستالين ونظامه... كان شيوعياً يؤمن بوطنه، حتى صادرت الـ #كي_جي_بي روايته الكبرى

"بعد كل شيء، أعتقد أنني وقعت ضحية فيثاغورس!"، هذا ما كان الكاتب السوفياتي فاسيلي غروسمان، يردده مازحاً خلال السنوات الأخيرة من حياته، حين كان يمضي في موسكو تلك السنوات حزيناً ساخطاً محاولاً أن يفهم أين كان يكمن الخطأ، فغروسمان، الذي سيعد في الغرب منذ سنوات الستينيات واحداً من أكبر الكتاب السوفيات في القرن العشرين، إلى جانب بوريس باسترناك صاحب "دكتور جيفاغو"، كانت له المكانة نفسها في بلاده السوفياتية طوال أكثر من عشرين عاماً، ظل خلالها يكتب الروايات والقصص القصيرة، وظلت خلالها كتاباته تنشر وتقرأ على نطاق واسع. طوال تلك السنوات كان غروسمان محاطاً بآيات التبجيل، حتى من دون أن يكون كاتباً رسمياً بما فيه الكفاية، أو من بين أولئك الذين كانوا يسخرون أقلامهم لخدمة ستالين ونظامه، غروسمان كان في تلك الأحيان كاتباً شيوعياً يؤمن بوطنه وانعكس ذلك في أعماله. وكان يكفي في حد ذاته.

وتبدلت الأحوال...

غير أنه في عام 1946 وجد كل ذلك يتبدل، فهو في ذلك العام نشر مسرحية بعنوان "ماذا لو نصدق الفيثاغوريين؟"، وعلى الفور راحت المسرحية تهاجم من قبل النقاد الرسميين باعتبارها "سوداوية متشائمة". ففي عهد ستالين لا يمكن أحد أن يكون متشائماً! مهما يكن، بعد تلك المسرحية كتب غروسمان الجزء الأول من رواية ملحمية كبرى بعنوان "من أجل قضية عادلة" ولقد نشر هذا الجزء خلال النصف الثاني من سنوات الخمسين ونال ترحيباً بوصفه أفضل عمل صدر حتى ذلك الحين، باللغة الروسية، ليمجد الحرب "الوطنية" ضد النازية، ولكن بعد سنوات، حين أنجز غروسمان الجزء الثاني من الرواية نفسها تحت عنوان "الحياة والمصير" (وهو جزء كتبه بين عام 1954 وعام 1961)، وقع المحظور مرة أخرى، قام رجال البوليس السياسي (كي جي بي) بمصادرة الكتاب الذي لن يصدر أبداً في حياة غروسمان، فالرجل رحل عن عالمنا يوم 15 سبتمبر (أيلول) 1964 خائباً حزيناً، غير أنه عرف كيف يثأر لنفسه من السلطات الرسمية، إذ إنه أنفق العام الأخير من حياته في كتابة رواية عنوانها "كل شيء يعبر" نشرت بعد رحيله في الغرب، في عام 1970، وتعد الكتاب الذي يفوق أي كتاب آخر في نقده الجذري، ليس للستالينية وحدها، بل للنظام الشيوعي ككل، وكان من الواضح أن غروسمان لم يهضم تماماً مصادرة "الحياة والمصير"، الكتاب الذي روى فيه معركة ستالينغراد وحكاية من معسكرات الاعتقال الستالينية والنازية سواء بسواء والمصائر المأسوية التي عرفتها الأمة الروسية والإنسانية جمعاء.

على خطى تولستوي

مهما يكن من أمر، منذ عنوان "الحياة والمصير"، عرف غروسمان كيف يحدد منذ البداية مرجعيته وطموحه، واضح أن مرجعيته كانت رواية "الحرب والسلام" وطموحه أن يطاول قامة سلفه الروسي الكبير ليون تولستوي صاحب تلك الرواية، علماً أن الظروف التاريخية التي تشكل خلفية كل من الروايتين متشابهة في التاريخ الروسي، إذ نعرف أن "الحرب والسلام" تتحدث عن غزو نابوليون روسيا وحصاره موسكو وغيرها، فيما تتحدث "الحياة والمصير" عن غزو قام به هتلر ونازيوه بعد ذلك بقرابة القرن ونصف القرن لروسيا وغيرها من الجمهوريات السوفياتية، ويجمع النقاد ومؤرخو الأدب اليوم على أن غروسمان نجح في مشروعيه معاً بحيث أن روايته تعد منذ ظهورها المعادل الحقيقي في الأدب الروسي لرواية تولستوي، وهذا الإجماع موجود على الأقل منذ عام 1980، حين اكتشفت الرواية بعدما كانت مختفية تماماً، مع أن غروسمان بدأ كتابة فصولها المتتالية منذ عام 1948، أي قبل أن ينجز روايته السابقة لها "في سبيل قضية عادلة" التي تعد "الحياة والمصير" استكمالاً لها، لينجزها في عام 1962، وتختفي منذ ذلك الحين في أقبية أجهزة الاستخبارات السوفياتية (كي جي بي) في "مغامرة أدبية - رقابية" قلما عرفها سفر أدبي آخر في ذلك الحين على رغم أن ذلك الجهاز الاستخباراتي السوفياتي المرعب كان معتاداً على تحديد حياة ومصائر كل أنواع النتاجات الأدبية والفكرية والثقافية التي غالباً ما يحجبها عن الناس ويعاقب مبدعيها. والحقيقة أن حكاية رواية "الحياة والمصير" تبدو أكثر تعقيداً وإيلاماً ليس فقط من كل "محجوبات" الأدب الروسي في ذلك الحين، بل حتى من الحكاية داخل الرواية نفسها.

حكاية الحكاية

ومن هنا لا يخلو أي نص كتب عن "الحياة والمصير"، من سرد لما كانت عليه حياتها ومصيرها، هي نفسها، بصرف النظر عن موضوع الرواية، فموضوع الرواية كما بات معروفاً، يستكمل أحداثاً كانت رواية "في سبيل قضية عادلة" قد روتها، وتدور من حول حصار ستالينغراد من قبل القوات النازية خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن، إذا كانت "في سبيل قضية عادلة" تخلو من ضروب الاستفزاز وتصف، بما يشبه التدوين اليومي، كيف عاش شعب المدينة، ذلك الحصار والبطولات التي أبداها، فإن "الحياة والمصير" تغوص أبعد من ذلك كثيراً، إنها تشكل ما يشبه محضر الاتهام، ليس فقط للنازيين وعدوانيتهم، بل للستالينية أيضاً، لما مارسته السلطات الوطنية ضد الشعب وبدا، كما تفيدنا الرواية، تعسفياً لا سيما خلال ذلك الحصار.

في اختصار، أراد غروسمان أن يقول في روايته هذه، إن النظامين الستاليني والنازي، متساويان في شكل أو آخر، كلاهما ضد الناس، وضد الحرية ولا يعدان بأية ديمقراطية، وهنا تكمن الحكاية كلها. كل هذا يتناقض مع ما كان عليه فاسيلي غروسمان في سنوات شبابه الأولى، هو الذي كان معروفاً بحماسه الثوري وباندفاعته الشيوعية الاستثنائية، قبل أن تورده الستالينية والحرب العالمية الثانية (التي خاضها على أي حال) مورد اليأس والسوداوية وإعادة النظر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الكيمياء إلى الأدب

ولد غروسمان عام 1905 في بردتشيف، وكان ابناً لعالم كيمياء. وهو قرر في بدايته أن يسير، مهنياً، على نهج أبيه، غير أنه بعد أن أنهى دراسته الجامعية فضل أن يعمل في الهندسة الصناعية في منطقة حوض دونتسك، وهو في الوقت نفسه كان مولعاً بالأدب والسياسة والتاريخ، ولقد أتاح له عمله الهندسي أن يجد من وقت الفراغ ما مكنه من كتابة رواية أولى بعنوان "غلوكاوف" (1934) تتحدث عن الحياة الحقيقية (السعيدة على أي حال) لعمال المناجم بعد قيام الثورة، وبعد ذلك بسنوات نشر روايته الثانية "ستيفان كولشوغين" التي تروي حياة عامل شاب أضحى ثورياً وشيوعياً. في هاتين الروايتين قامت شهرة غروسمان على كون أدبه واقعياً ينهل من معرفة جيدة بأوضاع العمال ومن حماس للحياة الثورية الجديدة، ناهيك عن حس جمالي لا لبس فيه، وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية، انخرط فيها غروسمان جندياً وصحافياً في الوقت نفسه وشارك الجيش الروسي مساره: مهزوماً منسحباً أول الأمر، ثم منتصراً مظفراً وصولاً إلى بولندا وألمانيا وحتى وسط برلين بعد ذلك. وهو أصدر عن تلك المرحلة كتباً وضعها ميدانياً من أشهرها "الشعب خالد" (1942) التي لاقت تقديراً واسعاً باعتبارها أول كتاب سوفياتي عن تلك الحرب، ولكن ما إن انتهت الحرب وراح غروسمان يعيد النظر فيها، وحاول أن يعبر عن ذلك في مسرحيته "ماذا لو نصدق الفيثاغوريين؟" حتى تغير كل شيء وحلت عليه اللعنة، غير أن الرجل وبعد صمت محير وطويل، وجد في ما فعله خروتشيف، زعيم الاتحاد السوفياتي حينها خلفاً لستالين بعد موت هذا الأخير، من إدانة للستالينية خلال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، ما شجعه على استئناف الكتابة وقد اعتقد أن البلد قد تحررت من الستالينية وفي سبيلها لإطلاق يد الكتاب، لكن خروتشيف خيب أمله فما كان منه إلا أن التقى سوسلوف عضو الكتتب السياسي للحزب خلال خمس ساعات كان لسان حاله يقول طوالها، "أرجوكم بل أتوسل إليكم أن تطلقوا سراح كتابي!". لكن توسلاته لم تجد نفعاً، وهكذا اختفت المخطوطة الكاملة لـ"الحياة والمصير" نحو ربع قرن لتعاود الظهور، كان الغرب قد تلقف غروسمان بعد رحيله الذي تلا اختفاء مخطوطة روايته بأربع سنوات باعتباره واحداً من أوائل وكبار الكتاب المنشقين، علماً بأن غروسمان، حين وفاته لم يكن يعرف أي شيء لا عن الانشقاق ولا عن المنشقين، وكان مجرد منشق... رغم أنفه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة