Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشعر في يومه العالمي ينتفض ضد المراثي التي تنعاه

أصوات عربية تناقش أبعاد الأزمة وتواجه مقولات التهميش والإنحسار

قصيدة تشكيلية للشاعر هنري ميشو (صفحة الشاعر على موقع فيسبوك)

يعيش الشعر في العالم العربي اليوم مفارقة غريبة. فالناشرون يشتكون على الدوام من ضعف نسب المبيعات حين يتعلق الأمر بالمجاميع الشعرية، ولكن ثمة في المقابل تزايداً مستمراً في عدد الذين يكتبون الشعر، ووفرة هائلة في الأمسيات واللقاءات الشعرية، بل إن الجمهور الذي يحضر لسماع الشعر يفوق في الغالب الجمهور الذي يحضر لقراءة أشكال كتابية أخرى.

غير أن الخطاب الذي يروج منذ سنوات، هو خطاب يكاد ينعى الشعر، وينتصر في المقابل لما سواه، كما لو أن كل الأطراف، من نقد وإعلام ومؤسسات وهيئات ثقافية، اتفقت بشكل ضمني على أن زمن الشعر قد ولى من دون رجعة.

لقد أصبح الناشر العربي حين يفتح رسالة تتضمن مقترح كتاب شعري جديد، كأنما يفتح باب المغامرة. وقد تحول كثير من الشعراء، شيباً وشباباً، إلى الرواية لأن حظوظها في النشر والتتويج أكثر بكثير من حظوظ الشعر، بل إن صفة "شاعر" لم تعد مقنعة، لدى البعض وفي كثير من السياقات، بالأهلية الأدبية التي تمنحها مثلاً صفة "روائي". ما الذي يقع للشعر في العالم العربي؟ هل يعيش فعلا حالة تراجع وانحسار؟ هل هو مظلوم قياساً مع أشكال كتابية أخرى؟ إذا كانت هناك من أزمة يعيشها الشعر فهل هي أزمة قراءة أم أزمة نقد أم أزمة إعلام أم أزمة توجه ثقافي عام؟ أم أن الأزمة خلقها الشعراء أنفسهم؟ هل تراجع الشعر إلى الوراء تاركاً للرواية أن تصير ديوان العرب بعد أن عاش قروناً يستفرد بهذه المكانة؟


نفتح في "اندبندنت عربية" هذا النقاش، تزامناً مع اليوم العالمي للشعر (21 مارس/ آذار من كل عام) الذي أصبحت معظم مراكز العالم وأطرافه، تقيم خلاله أنشطة عديدة تسعى إلى تذكيرنا بأن الشعر حي لم يمت. وقد توجهنا بأسئلتنا إلى "سكان" مدينة الشعر العربي الراهن، محاولين تشخيص وضع الشعر في زمننا العربي الراهن، والاطمئنان على حاضره ومستقبله.

حرب من أجل البقاء

حين طرحنا أسئلتنا على الشاعر التونسي آدم فتحي أجابنا بجملة تشبه الخلاصة: "كلا، لم ينهزم الشعر"، كما لو أن الأمر يتعلق بحرب يخوضها الشعراء من أجل البقاء. يقول آدم فتحي "هل يعيش الشعر نهايته بالقياس إلى الأجناس الأدبية الأخرى؟ قطعاً لا. وهذا لا يعني أن الشعر في بحبوحة بقدر ما يعني أن الإنسانية كلها تمارس طقس حدادها على نفسها منذ البداية، بواسطة فنونها وآدابها. الشعر جزء من الأضواء الكاشفة التي تطل على مصير إنسانية ما انفكت تعبث بمصيرها ومصير هذا الكوكب. ولن ينفك الشعر يلعب دوره الحدادي البهيج حتى اللحظة الأخيرة. تلك هي صخرة سيزيف الخاصة به".

حين طلبنا من صاحب "أناشيد لزهرة الغبار" أن يؤكد لنا إذا كان الشعر يعيش أزمة أم لا كان جوابه "طبعاً. ومتى لم يكن كذلك؟ هذا إذا اعتبرنا الأزمة إحساساً باختلال التوازن وانهيار المسلمات ورغبة في التحرر من الحدود التي تختنق داخلها الكينونة. نستطيع القول من هذه الناحية إن الشعر يقتات من أزماته. لقد عاش الشعر دائماً "على قلق" كأن الجمر تحته "أقلياً" وقائماً على "الندرة" في كل الأوقات، يدافع عن جوهره منسلخاً من "قشوره" قشرة بعد قشرة. هل انتقل الشعر إلى "دوائر" أخرى عن طريق فنون أخرى؟ قطعاً لا. حتى الآن في الأقل. وماذا لو حدث ذلك؟ في الانتظار ها هو يتجدد باستمرار. إنه جوهر "توسعي" بالمعنى النبيل للعبارة، وهو ما انفك يوسع من دائرته، لذلك لم ينهزم الشعر حتى الآن". يضيف الشاعر التونسي آدم فتحي "لن ينهزم الشعر ما دام يتقدم من هزيمته بروح انتصارية، بعيداً من ادعاء البطولة وتلبيس الأحلام وفلاحة البكائيات وتصنيع الفرح الكذاب وبيع الأمل الفارغ".

الانتصار البريء


يرى الشاعر المغربي نبيل منصر أن سؤال انحسار الشعر لا يفتأ يعود بمناسبة، ومن دونها. وعن رأيه في الموضوع يقول "لعل هذا السؤال من طبيعة الشعر نفسه، وليس يأتيه من سياق التلقي أو المؤسسة الثقافية التي تنتصر للأجناس الأدبية الظافرة بالمعنى التجاري. الشعر، حتى في نماذجه القائمة على وضوح الرسالة وشفافية التعبير والقصد، يكابد الانحسار ذاته. لنقل إن بعض معاناة الشعر مقتسمة بين جميع الأصناف الأدبية، بما في ذلك جنس السرد القصصي وجنس المقال والكتابة التأملية. الأدب الرفيع، خاصة في العربية، يعرف نوعاً من التجريف، الناتج من سعي مستمر للسطحية ولما ينتج عنها من ربح مادي سريع من قبل مؤسسات النشر والثقافة، ولما تمنح القارئ العام، في آنٍ، من دعة الاستهلاك وأريحية الانتماء السهل والمريح لنخبة الرأسمال الرمزي".

يبدو لصاحب "الخطاب الموازي للقصيدة العربية المعاصر" أن الشعر، في نماذجه الرفيعة، "يبقى محصناً ضد الطرفين. لا تقرب منه مؤسسات الثقافة المتطلعة الربح السريع، ولا يتجرأ القارئ محدود الطموح والأفق على ارتياد فضائه وعوالمه، لكن الشعر يتأسس في العمق على هذه المقاومة التي تستعصي حتى على الشعراء المتعجلين، الذين يستعجلون قطف الثمار قبل أوانها".

يؤكد منصر أن "الشعر حتى في الأزمنة السابقة، وفي كل ثقافات العالم، كان يتعايش مع هذا المصير. الشعراء كانوا دوماً فرديات عميقة، وجماعات صغيرة، تتبادل مكابداتها الرمزية وما ينتج عنها من نصوص، تحمل بداخلها عناصر اغترابها إلى أن يحين زمن تكريسها، فتنخرط في دورة الأدب الكلاسيكي، الذي يشكل فخر وامتداد ثقافة من الثقافات. هذه الدورة عاشتها التجارب الشعرية الكبيرة في العالم: أقصد الانتقال من انحسار المقروئية والتأثير، إلى التكريس الهائل الذي يسمى الأدب الكلاسيكي. حداثة بودلير ورامبو ولوتريامون ومالارمي وغيرها عرفت هذا المسار".


زمن الشعر، بحسب الشاعر المغربي، يعلمنا أن التجارب القوية، تتفوق على عوامل الانحسار التي تطبع زمنها، بما تنطوي عليه من بذور الخلق والإبداع التي لا تموت. يخلص نبيل منصر إلى أن "الشعر الكلاسيكي هو الآن الأكثر مبيعاً وترجمة. فسؤال الانحسار له وجاهته في زمانه فحسب، أما سؤال الشعر فيتجاوز ذلك، لأنه ينفتح على لقاءات شعرية غير متوقعة، وفي أزمنة عديدة. الأدب الرفيع هو من جنس هذا النوع من الشعر، الذي يقاوم عوامل التجريف في عصره، ويطل بصبر وأمل من شرفات أزمنة تأتي".

تفاؤل بالشعراء الجدد

يبدو الناقد السعودي عبدالله السفر متفائلاً بحاضر الشعر العربي ومستقبله. يقول في هذا الصدد "افترض، بحسب متابعتي، أن الشعر العربي، وأخص القصيدة الجديدة إن جاز التعبير، حاضرة في المشهد الإبداعي والأدبي حضور الجمال بكامل عنفوانه وبأوفى نداوة يمكن تصورها. والأسماء التي تمر في عناوين الكتب وفي المواقع الإلكترونية وفي وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) هي أبلغ دليل على أن الشعر بخير وفي تمام عافيته من المحيط إلى الخليج. وها هي أسماء تأتي عفو الخاطر وتلمع في الذائقة: عاشور الطويبي وأحمد عبدالحسين وزياد السالم وعلاء خالد وأحمد يماني وباسل الأمين ورضوان العجرودي وآمنة أبو صفط وأسماء عزايزة وجلال الأحمدي وفراس سليمان وأبرار سعيد والخضر شودار وعبدالله حمدان الناصر وجعفر العلوي وملاك لطيف وعبدالرحيم الصايل، وغيرهم".

وإذ يذكر صاحب "اصطفاء الهواء والقصيدة الجديدة في السعودية" نماذج لأسماء تنعش حركية الشعر العربي الراهن، يتوقف في المقابل عند مكامن الأزمة "الشعر حاضر وبهي، والإشكالية أو الأزمة لا تأتي من الشعر العربي ولا من شعرائه. هي في مكان آخر، مكان يقضم حصة الشعر من المشهد ويكاد يخنقها. الأزمة عند سوق النشر وسلطته وتكييفه -هذه السوق- بعادات استهلاكية تتوافق مع نغمة الرواية والتنمية البشرية وتطوير الذات، ما أسميه هنا "التغول على عادة القراءة"، وجعلها في مسار معلوم لا تذهب اليد والعين إلا إليه".


يروي عبدالله السفر تجربة صغيرة تومئ إلى وضعي الشعر اليوم بعالمنا العربي: "كنت، قبل أيام، في إحدى مكتباتنا الكبرى في المنطقة الشرقية بالسعودية. أين كتب الشعر؟ إنها معزولة في آخر ركن في المكتبة، ركن بعيد عن عين القارئ، وعن عين المتجول المتصفح المستكشف. كتب الشعر غافية هناك تنتظر. ولئلا أصبح مكتئباً من سوق نشر الشعر في يومه العالمي، لا بد أن أشيد بـ"منشورات المتوسط" و"دار النهضة العربية"، ربما هما الأبرز في ساحة نشر الشعر العربي وتبني الأسماء الجديدة فيه".

انحسار قيم الجمال

أما الشاعر السوري حسين درويش فيرى أن "ليس الشعر هو وحده ينحسر، لقد انحسرت فنون أخرى كالمسرح مثلاً، وتراجعت فنون أخرى كالغناء أيضاً. فالانحسار ليس شعرياً، إنه انحسار القيم التي تحمي الجمال وتدافع عنه، والوقت الذي نعيشه في ندب تقهقر الجمال، أكثر من الوقت الذي ندافع به عن الجمال". ويضيف "هذا يعني أن الشعر موجود حولنا وفي حياتنا، لكننا أهملناه بقصد. أين هي القصيدة التي كان يستظهرها التلاميذ في المدرسة؟ أين هي الأناشيد العذبة؟ أين هذه "جملة احفظ غيباً خمسة أبيات من المعلقة"؟ إذا الشعر ليس بخير لأننا تركناه في العراء، تركناه لمقتبسي المقولات ومقتطعي الأبيات، هؤلاء الذين يركبون المقاطع قرب الجمل الطويلة، ويلصقون عبارات الحب قرب قلوب "فيسبوك"، ويطبعون كتاباً لأن لديهم فائضاً مالياً يدفعونه للناشر ليطبع "ديوانهم"، هؤلاء أصبحوا شعراء، توجه لهم الدعوات لحضور الندوات والأمسيات، ويسافرون إلى معارض الكتب، وينشرون صورهم و(صورهن) في السوشيال ميديا، وكأنهم فتحوا المريخ... ويحملون ألقاب شاعر وشاعرة، ما أكثرهم... وما أقل الشعر...". لقد تركت ساحة الشعر لكثير من المتسكعين على موائد الكتابة، كما تركت القصيدة لمحدثي الثقافة كما هو الحال مع محدثي النعمة، الذين يكتبون كلمات ترن في نهاية الجملة حتى يصفق الجمهور.

إذا الشعر حاله ليس أفضل من حال ألف روائي عربي، فقسوا من بيضة السوشيال ميديا، وأصبحوا روائيين حقاً، إنه زمن الرداءة. زمن تسمع القصيدة حتى تصفق طرباً، وليس لكي تتأمل الجمال بصمت، وفي داخلك ضوء ينير لك درب السعادة".

الأزمة في القراءة 

ترى الشاعرة المصرية نجاة علي أن أزمة الشعر اليوم بالأساس هي أزمة قراءة، وتفسر رأيها على النحو التالي "الشعر العربي له تاريخ طول ومدارس مختلفة، بالتالي فمتلقو الشعر يوجدون ضمن دوائر قد تكون متباعدة، هناك فئة توقفت ذائقته عند تلقي الشعر العمودي، وهناك من انحصرت ذائقته في تلقي الشعر التفعيلي، وطبعاً هناك جمهور لقصيدة النثر، ويضم في الغالب الشباب. فنحن أمام مدارس متباينة وفئات مختلفة من المتلقين، عكس جمهور القصة أو الرواية، إذ ليس لهما تاريخ طويل يسمح بنشوء هذا الاختلاف".


لا تتوقف نجاة علي عند القارئ فحسب، بل تعود إلى الشاعر نفسه الذي تغير دوره، فقد كان في الماضي صوتاً معبراً عن الجماعة، ليتحول الآن إلى صوت فردي وذاتي، بالتالي دعم المسافة بينه وبين المتلقي، مما جعل الجمهور يرى كما لو أن الشعر تعرض لنوع من التغريب".

تنسب صاحبة "حائط مشقوق" أسباب الأزمة إلى التعليم أيضاً، تقول في هذا الصدد "معظم مدارسنا وجامعاتنا متوقفة عند نمط معين من الشعر، بالتالي يجد المتعلم مسافة بين الشعر الذي درسه والشعر المتداول خارج نطاق الدراسة. وقد يطرح خريج جامعة عربية حين يسمع قصيدة نثر مثلاً السؤال التالي: هل هذا شعر أم قصة؟".

تنفتح نجاة علي على مشكل النشر، وترى أن القراء اليوم أصبحوا يبحثون عن حكاية، لذلك يسعى الناشرون إلى توفيرها لهم. وتقف عند مفارقة أخرى، تتجلى في كون كثير من الجوائز العربية تشجع الشعر التقليدي، بينما تنتصر في الرواية للأشكال والمضامين الحداثية.

لا تؤمن الشاعرة المصرية بفكرة انحسار الشعر، بل ترى أن هناك انحساراً في مقروئية الشعر. وتعتب على الجامعات العربية التي تتأخر في الانفتاح على تجارب جديدة، وتلقي باللوم أيضاً على الإعلام العربي المرئي الذي يستضيف في غالبية برامجه أسماء تقليدية، ولا يواكب تحولات الشعر في راهنيته.


تقول نجاة علي "في عز كل هذه الأزمات، هناك أسماء جديدة وجيدة تشتغل باستمرار على نصوصها، لكنها لا تحظى بالتداول والترويج المناسبين. الشعر سيظل موجوداً، خصوصاً بعد أن تخلص من أداوره القديمة، كالمدح مثلاً".

الخلل في سوق النشر

يعيدنا الشاعر السعودي أحمد الملا إلى مسألة إن كان الشعر شأناً خاصاً أم عاماً، ثم يدعو الشعراء إلى الاحتفال بقصائدهم مهما يكن، بغض الطرف عن سياق اليوم العالمي للشعر. ويعزو أزمة تداول الشعر إلى سوق النشر. يقول في هذا الصدد "أعتقد أن سؤال ضعف رواج الشعر دائم الطرح، لكني أراه من زاوية واحدة، هي زاوية سوق النشر للكتب وللأدب تحديداً، السوق التي تكتنفها ظروف محبطة ومضادة للكتاب عموماً، وللشعر بخاصة. إن عالم النشر يعاني خللاً كبيراً جداً، وهذا ينعكس على الشعر بالضرورة. عالم النشر هو أساس المرض والعلة. وحين سيتم معالجة هذا المرض سيكون الشعر في حال أفضل على مستوى الترويج والتداول. ثمة شيء آخر. ستزداد قيمة الشعر حين يكون الشاعر، والكاتب عموماً، قادراً على العيش من كتاباته. هناك قنوات كثيرة تتدخل في إيصال الأدب والفن إلى القارئ، ومعظم هذه القنوات، حين يتعلق الأمر بالشعر، تصير معطلة".

يستغرب أحمد الملا هذه المفاضلة القائمة لدى كثيرين بين الشعر والرواية أو النقد والفكر. ويرى أن النتاج المكتوب يجب أن يكون حاضراً بالتقدير ذاته لدى القارئ، وهذا ما لا توفره قنوات توصيل الثقافة. في المقابل يشيد صاحب "تمارين الوحش" بمبادرة وزارة الثقافة السعودية التي جعلت هذا العام عاماً للشعر، واقترحت لذلك برامج متنوعة تهم تنظيم لقاءات حول الشعر، وطباعة أعمال شعرية وتقديم تجارب جديدة. وتمنى أن تذهب هذه المبادرة إلى العمق وتترجم التنوع الشعري بالسعودية.


يرفض الملا خطاب الأزمة، ويرى أن الشعر هو شريان في جسد الثقافة العربية رفقة شرايين أخرى، وحضوره هو لصالح صحة هذا الجسد. ويدعو الشاعر إلى الاهتمام بقصيدته، ويذهب إلى أبعد ما يستطيعه في الكتابة، غير آبه لما ستحققه لاحقاً من حضور وصدى وتأثير.

ضد الرثاء

الشاعر اللبناني محمد ناصر الدين يستهل كلامه قائلاً "أنا لا أوافق على هذه الرؤية الدرامية التي تنادي بموت الفنون، مثل موت السيمفونية، وموت المسرح، وموت الشعر الكلاسيكي، وموت الشعر بشكل عام. ومن ثم استدعاء المرثيات وتطويب البعض لأنفسهم ككهنة يتولون مراسم الدفن. وجد الشعر على كهوف التاميرا، وربما كانت بعض رسوم لاسكو ضرباً من الشعرية في تصوير الواقع بما يتجاوزه نحو الخيال. وقال العرب الرحل الشعر في الصحراء وهم يتلقون وحيهم من الجهة الأخرى، من شيطان لبيد والأعشى وامرئ القيس. وسيظل البشر يشعرون في حاجة إلى قول شيء يذكر بتلك الجهة الأخرى، بما هو أعلى وأرقى من الكلام النافل والمستهلك والعادي. أظن أنه حتى في زمن الذكاء الاصطناعي و"الشات جي بي تي"، أقول في إحدى القصائد، ستقف الروبوتات مدهشة أمام استعارات الشاعر واجتراحه الغيب في قلب الكلمة "أيها الحمقى، كيف اخترعتم الحب، كيف وصفتم الوردة، يا بودلير ويا هوميروس، ويا أيها التائهون في صحراء العرب، قولوا شيئاً فوق هذا الحديد، خذوا الأرض إذا شئتم، لكن أعيدوا لنا البكاء".

الشعر لا يموت

توجهنا بأسئلة الشعر وراهنه إلى الشاعرة الليبية خلود الفلاح، وحاولنا أن نقترب من وجهة نظرها، خصوصاً أن المشهد الليبي يعرف في السنوات الأخيرة انتعاشة في كتابة وتداول الشعر الحديث، فأعادتنا إلى قولة للشاعر الأميركي تشارلز سيميك مفادها أن التكهنات بموت الشعر التي نقرؤها كثيراً، خاطئة تماماً. تقول خلود الفلاح "أنا أتفق مع وجهة نظر سيميك، قد يتحول الشعراء إلى روائيين ولكنهم يكتبون رواياتهم بنفس شعري. ولهم أسبابهم ودوافعهم في هذا التحول. قد نسمع بين الحين والآخر أن كتب الشعر لا تبيع، وأن هناك دور نشر قد توقفت عن طباعة الدواوين الشعرية، وليس هناك جوائز للشعر مثلما يحدث مع الرواية، ولكنه لا يموت، وهو كجنس أدبي قد يشهد ازدهاراً أو إخفاقات بسبب عوامل عدة، منها مثلاً اتجاهات المتلقي القرائية أو التحولات المجتمعية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لا تؤمن صاحبة "بهجات مارقة" بالخطاب الذي يروج لانحسار الشعر وتراجعه، وترفض في المقابل الخطابات التي تنتصر لجنس أدبي على حساب جنس آخر. تقول عن ذلك "لم أشعر مرة أن الشعر في حالة تراجع أو انحسار، ما زلت أبحث عن دواوين الشعر، وهناك لحظات أشعر خلالها برغبة كبيرة في قراءة نص شعري".

تستطرد خلود الفلاح "ربما خفت ضوء الشعر قليلاً، ولكن هناك رغبة حقيقية من جانب الشعراء في كتابة نصوص أكثر التصاقاً بالحياة. أصبحت الكتابة عن الهامش من هذه الحياة تحتاج إلى كثير من الوقت لنقرأ نصاً شعرياً جميلاً ومدهشاً".

الشعر لن يعود إلى الوراء

يرفض الشاعر العماني زهران القاسمي فكرة الأزمة "الشعر في حقيقته لا يمر بأزمة، بل على العكس فهو يتطور وينطلق بسرعة فائقة وبوفرة لم نستطع حصرها، هناك تجارب كثيرة في الشعر الآن على عكس السبعينيات والثمانينيات، كانت هناك أسماء كرس لها الإعلام على أنها المحدثة في سيرورة الشعر، كانت تجارب منبرية في جلها، لكن الآن وبسبب وفرة الشعر انتهت تلك الظاهرة، حاول الإعلام العربي إعادتها بشتى الطرق من خلال المسابقات التي تدعمها شركات ودول كبيرة، لكن التجارب التي كانت تفوز تختفي بعد ذلك، لأن الواقع الشعري تغير، ولا بد من إيجاد طريقة أخرى حديثة لتسويق الشعر، ولا يمكن أن نقارن الشعر بالأنواع الأخرى".

يزاوج زهران القاسمي بين كتابة الشعر والسرد، وروايته الأخيرة "تغريبة القافر" توجد الآن على اللائحة القصيرة لجائزة البوكر للرواية العربية، لكنه بخصوص تداول الشعر يبدو صارماً في إلقاء اللوم على الناشرين "يشتكي أصحاب دور النشر من أن الشعر لا يسوق، هذا لأنهم ليسوا ناشرين في حقيقتهم، هم باعة كتب لا غير. الناشر لديه خطة تسويقية لمنتجه أياً كان شعراً أو مسرحاً أو رواية أو فكراً، لكن اقتصرت دور النشر لدينا على الربحية السهلة على رغم أن معظمها تأخذ قيمة الكتاب من الشاعر قبل طباعته، وتستفيد أيضاً من بيعه، ثم يتباكون على أن الشعر لا يسوق. ليس لدينا أزمة شعر، لدينا أزمة دور نشر حقيقية، هذا كل ما في الأمر".

يضيف الشاعر والروائي العماني "هناك أيضاً تيار يحاول جاهداً العودة بالشعر إلى الوراء وتجميده في تجارب صنمية عفا عليها الزمن، وعدم الاعتراف بالتجارب المجددة في الشعر الذي بدوره يجد مخرجه من كل هذا الحصار". ويضعنا زهران القاسمي أمام الخلاصة التالية "الشعر هو الحياة الحرة للإنسان وطريقة حياته الحديثة وحلمه في التطور".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة