Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصدّيق حاج أحمد يروي أحلام طوارق الصحراء وهزائمهم

"منا" رواية تجمع بين الموروث والوقائع والرؤى السياسية والعربية مطعمة باللهجة المحلية

فتاة في قبيلة الطوارق (غيتي)

ملخص

"#منا" #رواية تجمع بين #الموروث والوقائع والرؤى السياسية والعربية مطعمة باللهجة المحلية

بينما يقوم الروائي الجزائري الصدّيق حاج أحمد برسم خطوط روايته "مَنا... قيامة شتات الصحراء" (دار الدواية- الجزائر/ أدرار)، المدرجة في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2023، وما تنطوي عليه من شخوص (بلا بطولة مطلَقة لشخصية واحدة)، وحوادث تقع بين الواقعي، التاريخي والتوثيقي، وبين الكثير المتخيل، وفيما هو يعرض وقائع وتحولات في مسيرة حركة تحرير القبائل المنتمية إلى "عِرق" الأزواد، من عربٍ وطوارق (يقال توارق أيضاً) فإنه- من جهة- يرصد مناخات الإقليم الجغرافية والسياسية لدول أفريقية عدة؛ الجزائر، ليبيا، مالي، النيجر، تشاد، وغيرها، والعلاقات البينية التي يغلب عليها الصراع، الناعم والمسلح العنيف. ومن جهة ثانية يرسم خريطة روايته الغرائبية بعوالمها الصحراوية/ القبائلية وموروثها وعاداتها وتقاليدها ذات الطابع الأسطوري. وبهذا نكون حيال عمل روائي يجمع الموروث والحوادث الواقعية والرؤى السياسية، ويوظفها جميعاً في سرد ممتع لحكايات تتداخل وتتفاعل بلُغة عربية مطعمة بالطوارقية، ونعيش مع رواية بديعة الصورة والمضمون.

يجمع الروائي شتات "الأزواديين" كله عبر محطات ورحلات تتوالد بعضها من أرحام بعض، حتى إنه يضعنا في "متاهة روائية" مرسومة بعناية. متاهة بملامح ومعالم تتخذ من الزمان/ الأزمنة والأمكنة إطاراً لها، لكي "تقول" خطابها القائم على تمجيد القبيلة والعِرق، من دون وضعهما في مواجهة الأعراق والإثنيات المختلفة. ولكن من دون التورع عن السخرية من الجميع، أفراداً وجماعات، وبأسلوب مهذب ومشذب يتوخى الابتعاد عن الإساءة والتجريح، إلا حين يتعلق الأمر بالزعماء الذين يسخر النص منهم بلا هوادة، وبصور شتى كما سيظهر معنا لاحقاً.

النكهة الطوارقية في النص

 

يفتتح الروائي روايته بالإهداء المأسوي، إهداء هو مؤشر مكثف وشاعري إلى الكوارث التي حلت بالأزواد منذ ستينيات القرن العشرين، حتى نهاياته، بحيث يهدي العمل "إلى شتات صحراء شمال مالي في ذكرى وجيعة الجفاف..."، الوجيعة التي تبدأ بما يسميه المؤلف "عام الغَلاء" بتوات 1365 هـ، ثم "جفاف" 1393 هـ. الموافق 1973 م، وصولاً إلى تسعينيات القرن العشرين. أي منذ ثورة 1990 وانتصاراتها بلا خسائر تقريباً حين "سجلت الثورة منعطفاً حاسماً من تاريخها السياسي والعسكري"، وصولاً إلى سقوط القذافي، والوضع الليبي الذي ساعد "الأزواد" وشكل فرصة لتهريب السلاح والاتصالات، وحيث "بادي (الشخصية الرئيسة في الرواية) سبح بعيداً في أحلامه" ورأى في المنام "علم الأزواد يرفرف...". وهو الحلم المُراوِح بين المخيال الشعبي للصحراء الكبرى، وبين تفسير ابن سيرين للأحلام. وتنتهي الرواية بعبارة معبرة عن مآل الثورة حيث "وطن أزوادي لا يزال يتأرجح على سَنام إبِلِه".

تبدو السمةُ "الطوارقية" أو "التارقية" في الرواية وقد تجسدت في عناصر عدة، أولها أسماء الأشخاص وصفاتهم، وأسماء المدن والأمكنة وأسلوب استحضارها ورسمها، عدا ذلك الكثير من التواريخ والوقائع والأشياء. لكنها تتجاوز الأسماء والمسميات، فنذهب مع الروائي وأبطاله صوب العادات والمفاهيم والمقولات التي تتردد على ألسِنة "أبناء اللثام"، و"أهل الصحراء"، وفضلاً عن ذلك فثمة صِفات وعلامات "طوارقية" بارزة، بعضها يتعلق باللغة أو باللهجة، ومن ذلك مثلاً تغيير بعض الحروف العربية بإضافة نقاط إليها "نقط خراج الذباب، في عَجم الحروف المهملة؛ من الحاء إلى الخاء أو من العين إلى الغين في نطق التوارق..."، حيث حسن تصبح "خسن"، وعُثمان تغدو "غُسمان" وهكذا، مع شرح "الحَكي" التارقي بعبارات عربية، وهي لغة سليمة وقوية من جهة، لكنها مفارقة للمألوف في الاشتقاق والتصريف أيضاً، مما يمنح النص نكهة تارقية فريدة ولطيفة الحضور. حتى إذا لم يتحدث- مباشرة- عن الطوارق، فهو يستعير سمة من سماتهم أو مَعْلَماً بارزاً من معالمهم "الأغنام والأبقار في ثقافة أهل الصحراء..." مثلاً!

ملمَحٌ آخر من ملامح هذا النص/ التجربة، يتمثل في القدرة العالية على "شَعرنة العالم السردي"، حيث الاستعارات والتجاوزات تبني مقاطع من النص على نحو شديد العفوية والبساطة، لتبرُز اللغة الشاعرية في "عرصات القيامة... مخيلة إنسان الصحراء تشي بمجيء عام "وحركة الفعل السريع المتتالية "الأمطار احتشمت على غير العادة، المراعي قحَطت، المواشي ضاعت، تاه الإنسان"، و "مستقبل المآل ببوادي تيلمسي ووديانها: جفاف آنية الحليب، وتكلس جلود شِكاء اللبن"، و "السواد الغالب من الناجين طوال طريق فرارهم من الموت نحو طرق النجاة الشمالي؛ حيث مراكز الإغاثة بالنقاط الحدودية من جنوب الجزائر"، "إمكانية صيام السماء"، العرافون شاهدوا ريحاً حمراء فنادَوا في قومهم (يوقي... يوقي... يا قروني!!)، "مزاح قِرب السماء معهم في مطارح بواديهم..."، "أهوال قيامة محققة"، و "استعطَفنا النبات والشجر الدائر (المحيط) بنا، كـ"مَندغا وتَواجيت وأم ركبة والكيحل"، وهي زروع وحبوب أشجار شائكة أغلبها مر"... وغير ذلك من عبارات وأساليب تعبير وسرد تتنوع بين الحوار والحكي والاستعادة بأسلوب فلاش باك، وبين التصوير الدقيق لمشاهد من الطبيعة/ البيئة التي يعيش فيها أبناء الصحراء المتميزون بصفات القوة، ويجري الحديث عنهم عبر صور متعددة.

السياسة والعسكريتاريا في حكايات

 

على مقلَبٍ آخر، في الرواية، وما بين الجِد والهَزل، ينهمك المؤلف في رصد تحركات الساسة والزعماء الأفارقة وهجائها، والأبرز هنا هو الزعيم الليبي (المغدور بـ"الربيع الليبي") معمر القذافي، قبل سقوطه وانهيار دولته، وبعد السقوط. ويستعرِض بالسرد والحكايات والسخرية خطط هذا الزعيم تجاه "الأزواد" وأحلامهم بوطن وسلام. لذا تتكرر عبارات ذات دلالات قوية على "الخديعة" والأوهام التي حاكها هذا القائد "الأخضر"، وأوقع في شِباكِها الكثير من أبناء "الثورة الأزوادية" وقادتها. يستدعيهم ويخطط معهم ويبذُر الأموال ويفتح المعسكرات، في ليبيا وخارجها. في ريف دمشق مثلاً يذكر "بادي" معسكر عين الصاحب بقياد أحمد جبريل، زعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين/ القيادة العامة. ثم الانتقال إلى جنوب لبنان لمقاومة إسرائيل، ثم معتقل أنصار، وبعض المَشاهد من السجن في إسرائيل نفسها.

هذه التفاصيل كلها تقع تحت مسمى دعم مغمر باللهجة التارقية للثوار الأزواديين في مواجهة أنظمة تضطهدهم، وهم الباحثون عن "الوطن"، والحالمون/ الواهمون في سبيل تحقيقه، ومن أجله يبتلعون المصاعب والمعاناة. ومن هذه المعاناة والعذابات؛ تمرد الأزواد على حكومة باماكو وفرض دولتهم الانفصالية شمال مالي، وانفراطها من عقد اتحاد جمهورية السودان مع السنغال. بينما نجد "حكومة أمنا الجزائر قدمت الحليب والرعاية والاحتضان، أدمَجتنا، أدخلت أبناءنا المدارس، تعلم أننا ماليو المولد والمنشأ".

وفي هذا الصعيد من المواقف والتحركات السياسية والعسكرية، ينسج الروائي عديد الحكايات المرتبطة بشخوص روايته و"أبطالها". ويتنقل الراوي مع شخصية بادي الإدناني الذي يمكن اعتباره "بطَلاً" أساسياً هنا. لكن هذا البطل كثيراً ما يحتل موقع قيادة سرد الحكايات ذات المغزى الذي يشير دائماً إلى شخصية "الأزوادي" المختلف، سواء في علاقته العاطفية مع ابنة خاله، أو في المعسكرات المتعددة الهُويات والجنسيات. ولعل في هذه العبارة "أحلامنا- نحن أهل الأزواد- تتنقل معنا عبر شَتاتنا المزروع بكامل جغرافيا الساحل والصحراء الكبرى، شبح الوطن يطاردنا في كل مكان"، خير تعبير عن سِمة خاصة بهذا "العِرق" من البشر الحالمين، وربما الواهِمين، الكثيري الترحال الذين يكادون لا يستقرون في مكان واحد مطولاً، إذ سرعان ما يفارقونه حتى لو كان الجنة، لذا فهم لا يرتبطون بالمكان عميقاً. إنهم يشبهون غجر العالم في غياب الاستقرار عن حياتهم وعن تفكيرهم. 

هذا الترحال بين الأمكنة، ينعكس في ترحال الكاتب بين الأساليب واللغات واللهجات، إثراءً لعوالم روايته ومناخاتها، فهي تتنقل وترتحل ما بين الانتقادية والحلمية، فننتقل مع السارد ما بين أنماط من الشخوص والبشر. ففي ليبيا ثمة العصابات القذافية الشرسة والانتهازية، وفيها أعمال النظافة والأشغال المعاقة والشاقة، من نصيب الأزواديين والأفارقة، الليبيون مزهوون بسياراتهم الفارهة، وفيها "قبضنا دنانيرنا القذافية". وهم، أي الأزواد التوارق، يختلفون عن الأزواد العرب "نختلف عن جيراننا الحسان في الرؤية، فنحن- التوارق- نرى في القيثار مواساة لفجائع ثورة 1963".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن الإشارات المتعددة، في الرواية، إلى الفروق لا ترقى إلى مستوى الفصل "العِرقي" بين الشعوب والأعراق والإثنيات، بل ترسم نقاط اللقاء والاقتراب. حتى وهو يعرض مسألة هوية الثورة/ الحركة التي يريدها ويرفض ربطها بالعروبة فقط (مكتب الجبهة الشعبية لتحرير الصحراء العربية الوسطى)، فهو يرفض من منطلق مطالبته بأن يكون الاسم شاملاً المكونات لهذه الحركة. فهي تشمل من ليسوا عرباً، أعني "التوارق/ الطوارق"، بل إن الانتقادات الفكرية والسياسية يتم توجيهها بقدر من العقلانية، فمن ينتقد الزعماء الديكتاتوريين، لا يتورع عن توجيه سهام نقده الحارق نحو نمط من "أبناء اللثام" الذين ينخرطون في "مؤامرات" لمساعدة أولئك الزعماء، ويعملون ضد المصالح الوطنية لأبناء عرقهم وثورتهم الحالمة المتأرجحة بين نصر وهزائم وانتكاسات. فمن السهل على القارئ التقاط روح السخرية وهو يقرأ صورة "القائد الليبي وإلى جانبَيه القائدان الأزواديان".

في هذه المناخات والعوالم من الحب وأجوائه، والحروب والسلاح والقادة الكبار والصغار، وغير ذلك الكثير الذي لا يمكننا حصره، تضعنا رواية حاج أحمد وشخوصه الموزعون بين معسكرين؛ الخير المطعم بألوان من الشر، والشر الذي لا يخلو من جوانب إيجابية. ويمكن لمن تقع الرواية تحت بصره وبصيرته أن يلتقط الكثير مما لا تستطيع هذه القراءة تقديمه في هذا الحيز الضيق. ولنترك لقارئ الرواية فرصة التعرف، وعن كثب، إلى ما تحمل من ثروة روائية، تشي بأن رواياتنا لا تزال تمتلك القدرة على تقديم الجديد، صورة لغوية ومضموناً عميقين، عبر ما يمكن تصنيفه وتجنيسه ضمن "الرواية العربية الجديدة". ذلك حتى لو كتبها كاتب من العرقيات والإثنيات؛ الأمازيغية، الطارقية، أو الكردية وغيرها، التي تعيش ضمن ثقافة متعددة الألوان، وتمنحها أبعاداً ثقافية شديدة الغنى والاتساع والعمق، وذات سمات لا تقل عن نظيراتها في الثقافات الحية الراهنة عالمياً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة