Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعبة مرايا على المسرح بين الشاعرين دي فينيي وتشاترتون

إفلاس وغرام وانتحار كنوع من الاحتجاج المرير على مجتمع لا يقيم للشعر وزناً

موت الشاعر الإنجليزي توماس تشاترتون في لوحة زيتية (غيتي)

ملخص

تعد مسرحية #"تشاترتون" أفضل مسرحيات #دي_فينيي وأقواها وأكثرها رومانطيقية وتكاد تكون #سيرة_ذاتية له

من ناحية مبدئية، لم يكن الفرنسي ألفريد دي فينيي كاتباً مسرحياً، بل لم يعرف على هذا النحو، على رغم شهرته الكبيرة في بلاده كما في أوروبا بوصفه شاعراً رومانطيقياً مجدداً كما بوصفه كاتب قصص قصيرة، ناهيك بخوضه أدب الرحلات عبر نصوصه عن زياراته الشرق أوسطية.

على أية حال، وعلى رغم أن دي فينيي كتب ما لا يقل عن نصف دزينة من المسرحيات الجيدة، إضافة إلى اقتباسه ثلاثاً من مسرحيات شكسبير هي "تاجر البندقية" و"روميو وجولييت" و"أوتيلو"، فإن عدداً قليلاً فقط من مسرحياته قدم خلال حياته. أما الباقية نشرت في كتب، علماً أن المسرحية الأبرز التي قدمت من كتابته، ونشرت في كتاب كانت "أوتيلو" ("عطيل" في تسمية خليل مطران لترجمته العربية لها) شكسبير معدلة ومعصرنة.

وتعد المقدمة التي كتبها لها، ثاني أهم مقدمة كتبت لمسرحية فرنسية، بعد المقدمة التي كتبها فكتور هوغو لمسرحيته الخاصة "كرومويل". ومن الملاحظ أننا إذا نحينا مسرحيات دي فينيي الشكسبيرية جانباً، سنجد أن مسرحياته الأخرى كافة، تبدو وكأنها أجزاء متفرقة من سير ذاتية أراد كتابتها، ولم يرد في الوقت نفسه، أو من ناحية أخرى نصوص تتابع فصولاً محددة من السير الذاتية لأشخاص تاريخيين، هم في غالب الأحيان من الكتاب والشعراء، حتى وإن كان بينهم سياسيون بين الحين والآخر.

هدية لعشيقة الكاتب

ولعل خير مثال على ما نقول مسرحية "تشاترتون" التي نتناولها هنا على اعتبارها، بإجماع النقاد والمؤرخين، أفضل مسرحيات دي فينيي وأقواها وأكثرها رومانطيقية، ناهيك بأنها أكثر من أية مسرحية أخرى من مسرحياته، تكاد تكون سيرة ذاتية له، مع أن شخصيتها الرئيسة هي الشاعر الإنجليزي المعروف الذي تحمل المسرحية اسمه عنواناً لها.

وهنا كنوع من التأكيد على هذا لا بد أن نذكر أن دي فينيي كتب هذه المسرحية أصلاً ليهديها إلى عشيقته الممثلة ماري دورفال كتعويض لها على عدم اختيارها لتلعب دوراً آخر كان كتب لها أيضاً في مسرحية "مارشال دانكر". ولقد استوحى دي فينيي مسرحية "تشاترتون" هذه في الأصل من قصة قصيرة ترد في مجموعة له عنوانها "ستيلو"، تناول فيها عبر قصص متنوعة ما ذكر أنه مصائر عدد من الشعراء بينهم نيكولاس وجوزف جيلبير وأندريه دي شينييه، وتوماس تشاترتون. وكان هؤلاء قد عرفوا برومانطيقيتهم، وأيضاً بمصائرهم الدرامية إلى درجة أن دي فينيي كشاعر رومانطيقي بدوره وجد نفسه متطابقاً معهم في المصير.

 

 

كتب ألفريد دي فينيي مسرحية "تشاترتون" في عام 1835، أي في العام نفسه الذي كانت شهرته بلغت ذروتها مع كتابه النثري "عظمة وعبودية الحياة العسكرية" الذي روى فيه تفاصيل ثلاثة عشر عاماً من حياة أمضاها في أحضان الجندية التي أذاقته الأمرين كما يبدو، وأوصلته نفسياً في الأقل، إلى حافة الانهيار، أو كادت تفعل ذلك لولا أنه التجأ إلى كتابة الشعر والنصوص المسرحية، مما مكنه من تجاوز محنته، وتحمل تلك السنوات التي سنعود ونجد "أخبارها" موزعة على قصائده وقصصه. أما مسرحية "تشاترتون"، فهي من بين أبرز هذه النصوص، بل تعد أنضجها، وأكثر من هذا ثمة من يرى فيها أفضل مسرحية ظهرت في فرنسا خلال الحقبة المسرحية الرومانطيقية.

الشاعر بطلاً لزميله

كما يمكننا أن نفترض إذاً بطل المسرحية هو نفسه الشاعر الإنجليزي تشاترتون الذي إذ يجد نفسه غارقاً في ديون لا يستطيع لها وفاءً، بالتالي يجد نفسه مطارداً من قبل عديد من الدائنين والخصوم ورجال الشرطة، إضافة إلى معاداة الحياة الأدبية له في لندن، يتنكر تحت اسم مستعار ويستأجر غرفة في بيت تاجر جشع وقاسٍ يدعى جون بيل، يقرر أن يعيش فيها متخفياً ريثما يجد حلاً لمشكلاته. وفي البيت يقوم نوع من التعاطف الخفي والصامت على أية حال بينه وبين الحسناء كيتي زوجة التاجر الصبية التي تعيش أيامها ولياليها في رعب من معاملة زوجها القاسية، بل الوحشية لها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 ذات يوم، يحدث أن تنكشف هوية تشاترتون الحقيقية ويشتبه جون بيل في أن هذا الشاعر اللعوب إنما قصد بيته، أصلاً، في مخطط منه لإغواء زوجته الحسناء. وهنا إذ تسوء معاملة التاجر للشاعر، ويحس هذا أن الكماشة تضيق من حول عنقه، وأن أيامه باتت معدودة، تسود الدنيا في وجهه ويقرر الانتحار. غير أن صديقاً له من اتباع طائفة الكويكر المتسامحة والتواقة دائماً لمساعدة الناس في محنهم، يقرر أن ينقذه مما هو فيه من يأس وتشاؤم، فيتدخل كاشفاً له، على سبيل العزاء، كم أن كيتي تحبه من دون أن تجرؤ على البوح بذلك. وإذ يعلم تشاترتون بذلك الحب الذي يعطيه أملاً في الخلاص من مصيره البائس، يجرؤ ويكتب رسالة إلى اللورد العمدة بيكفورد صديق والده القديم، والذي كان يخيل إليه أنه مستعد في كل لحظة لمد يد العون، طالباً منه أن يمده، باسم الصداقة الأبوية القديمة، بمبلغ من المال يمكنه أن يستعيد حياته ويعيد توطيد سمعته.

بالفعل يقرأ اللورد الرسالة وينتقل إلى المكان، حيث يبدو عليه أنه يتطلع إلى حل مشكلة الشاعر الشاب، غير أنه ما إن يصل حتى يبدأ في التعبير عن احتقاره للشاعر وللشعر في آنٍ معاً. بدا من الواضح أنه لا يقيم أي وزن لأفكار تشاترتون وعواطفه ومواهبه، حتى وإن كان يريد مساعدته. ولذا يسأله إن كان يحب أن يشتغل وصيفاً لديه. ولا يكتفي بهذا، بل يعرض مجموعة من الوثائق والأوراق كان أحضرها معه "تثبت" أن تشاترتون قد سرق عدداً من قصائده وكتاباته من مبدعين آخرين.

الخلاص يبتعد

هنا يسقط في يد الشاعر ويدرك أن أمله في الخلاص قد تلاشى، ولم يعد أمامه إلا أن يرد على هذه الخيبة الجديدة بوضع حد لحياته، وبالفعل يدخل إلى غرفته ويتناول كمية كبيرة من المخدرات. في هذا الوقت تكون كيتي قد أحست بأن كارثة على وشك الوقوع فتلحق به إلى الغرفة، وقد قررت أن تفاتحه بحبها لعل ذلك ينقذه، لكن الأوان يكون قد فات، إذ ها هي تجد تشاترتون يحتضر بين يديها، فتسقط بدورها مغشياً عليها بين يدي الصديق الكويكري، وتفارق الحياة هي الأخرى.

صحيح أن هذه المسرحية تبدو شبيهة بأكثر المسرحيات والأوبرات الميلودرامية غرابة أحداث وتشتت عواطف، ومع هذا فإن دي فينيي استقاها من الواقع، وكتبها بلغة شديدة الكلاسيكية حريصاً على وحدة المكان والزمان والحدث، حتى في وقت كانت فيه المسرحيات الرومانطيقية قد بدأت تخرج عن تلك الوحدة.

كان من الواضح أن دي فينيي يتوخى من "تشاترتون" أن تكون عملاً ذا رسالة فكرية واجتماعية واضحة. فهو هنا لا يريد أن يثبت شيئاً في عالم الفن، بل يريد أن يشن هجوماً درامياً كاسحاً على ذلك المجتمع المادي الذي وجده يحيط به. مجتمع ينظر إلى الفن والفنانين، وفي مقدمهم الشعراء، على أنهم أناس طفيليون لا فائدة منهم ترتجى وعاطلون من الإنتاج.

في هذا السياق ذكر دي فينيي، في المقدمة الرائعة التي كتبها لهذه المسرحية، أنه إنما أراد من الشاعر الإنجليزي الشاب، أن يكون رمزاً للوضع العام الذي يعيشه الشعراء في المجتمع، علماً أن جون بيل واللورد بيكفورد يمثلان بالنسبة إليه "حثالة تلك الطبقة البورجوازية المركانتيلية التافهة" التي ترى أن المادة كل شيء.

الحياة الحقيقية

ولد ألفريد دي فينيي (1797-1863) في لوش ومات وهو في السادسة والستين في باريس. وكان ابناً لعائلة من نبلاء مقاطعة بوس الفرنسية. ولع بالكتابة منذ مراهقته وكتب وهو بعد على مقاعد الدراسة عدداً من المسرحيات النيوكلاسيكية المبنية على شخصيات تاريخية مثل رولان والقديس جوليان وأنطونيو وكليوباترا، لكنه عاد ومزقها كلها، حين دخل سلك الجندية في السادسة عشر من عمره، حيث بقي سنوات طويلة مكنته من الاطلاع على الحياة الحقيقية وآلامها، ما عبر عنه لاحقاً في قصائده وقصصه، كما في مسرحياته. ومن أبرز كتبه المجموعة الشعرية "قصائد قديمة وحديثة"، والرواية التاريخية "خمسة – مارس".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة