Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "شارلوت كورداي" تحاكم القاتلة أم الثورة الفرنسية؟

الثائرة التي فتنت الكتاب والفنانين وأعدمتها المقصلة وهي تتساءل عن جدوى ما فعلت

لوحة شهيرة للفرنسي جاك لوي ديفيد تمثل مارا قتيلاً في حمامه (غيتي)

ملخص

عندما كتب الشاعر الفرنسي #فرانسوا_بونسار، مسرحية  "شارلوت كورداي" وقدمت على مسرح "الكوميدي فرانسيز" عام 1850، فإنه كان يروي أحداث #الثورة_الفرنسية من خارجها دون أية محاولة للتحليل

يمكن في شكل عام القول من وجهة نظر نقدية تاريخية إن المخرج اللبناني مارون بغدادي، وخلال الفترة التي عاشها وأنجز فيها معظم تراثه السينمائي في فرنسا حالفه التوفيق في أفلامه التي حققها انطلاقاً من مواضيع غير لبنانية، بأكثر كثيراً مما حالفه في أفلامه اللبنانية أو ذات المواضيع اللبنانية. وربما اعتبر ذلك مأخذاً عليه جعله على صدام مع نقاد وسينمائيين عرب آخرين نظروا إليه نظرتهم إلى مستشرق، إلى درجة أن بعضهم تحدث لدى رحيله المفجع عن "موت مخرج فرنسي واعد"، ومن الواضح على أية حال أن هؤلاء النقاد لم يفهموا تماماً البعد اللبناني المضمر في تلك الأفلام، لكننا لسنا هنا في صدد تقييم سينما مارون بغدادي الذي أجهض الموت انطلاقتها الواعدة، لكنها ملاحظة تعرض لنا دائماً عندما نتحدث عن هذا السينمائي الذي تجلت مواهبه الحقيقية في أقل شرائطه شهرة وأكثرها ابتعاداً عن لبنان ومنها "بطيئاً بطيئاً في الريح" للتلفزة البريطانية عن قصة لباتريشيا هايسميث، و"فتاة الهواء" من إنتاج فرنسي، وبخاصة "ثنايا الثورة" لمناسبة الذكرى 200 للثورة الفرنسية، وكان من إنتاج التلفزة الفرنسية. وهذا الأخير هو ما يهمنا هنا بالنظر إلى أنه يدنو بأقرب ما يكون إلى فصل من فصول تلك الثورة. فصل يتناول موضوعاً معبراً عن الإرهاب الذي تحولت إليه تلك الثورة الفرنسية، وتتحول إليه بالتالي كل الثورات حين تأكل أبناءها قبل التهامها أعداءها.

ثائرة ولكن قاتلة

فالموضوع هنا يتعلق مباشرة بـ"الثائرة" الفرنسية شارلوت كورداي التي دخلت التاريخ من خلال اغتيالها مارا، أحد كبار زعماء الثورة... ولحساب الثورة تحديداً مما جعلها رمزاً لتقلبات الثورات، كل الثورات. والحقيقة أن مارون بغدادي لم يكن أول المبدعين الذين سحرتهم شخصية شارلوت كورداي. فإذا كان بغدادي قد روى في فيلمه التلفزيوني عن الثورة الفرنسية حكاية اغتيال شارلوت الثائر مارا وهو في حمام بيته، خلال ذلك الزمن الذي راحت فيه الثورة تتحول إلى حروب إرهابية بين قادة الثورة أنفسهم، فإنه إنما فعل هذا بعد سلسلة طويلة وعريضة من كتاب مسرحيين ورسامين وموسيقيين وكاتبي سير أيضاً، استهوتهم شخصية شارلوت وجرأتها، وراحوا في أعمال فنية وتاريخية علمية متلاحقة يتساءلون عما جعلها تقدم على تلك الجريمة، وعن القوة التي مكنتها من أن تتسلل إلى داخل بيت مارا، بل إلى داخل حمامه، لتضع حداً لحياته ولدوره المرعب في الثورة الفرنسية. أما الذي يبدو عمله عن شارلوت كورداي، الأكثر قوة وتحليلاً، ومن ثم الأكثر قدرة على اجتذاب المتفرجين حين قدم عمله هذا على المسرح، فكان الشاعر الفرنسي فرانسوا بونسار، الذي كتب مسرحية حملت اسم الفتاة نفسها "شارلوت كورداي" وقدمت على مسرح "الكوميدي فرانسيز" للمرة الأولى عام 1850.

فعل براني وحيرة جوانية
صحيح أن مسرحية بونسار الشعرية هذه أتت لتروي الأحداث من خارجها، من دون أية محاولة جدية لفرض أي تحليل سياسي أو سيكولوجي لما فعلته شارلوت، لكن هذه المسرحية عرفت كيف تقنع المتفرجين وتشدهم إلى مقاعدهم، كونها لم تحاول أن تتوقف عند حكم قيمة محدد، تاركة للأحداث نفسها أن تتكلم، وللمتفرجين أن يصدروا الحكم الذي يناسب تطلعاتهم... وذلك - مثلاً - على العكس مما سيفعله الفرنسي الآخر بيار دريو لاروشيل بعد ذلك بنحو قرن (عام 1939، أي عشية الحرب العالمية الثانية التي كان فيها لهذا الكاتب موقف مناصر للنازيين)، إذ إن هذا، وفي مسرحيته التي حملت الاسم نفسه جعل شارلوت في الفصل الأخير، وقبل أن تغتال مارا، تجري حديثاً مطولاً مع الزعيم الثوري الآخر سان جوست، مما وجه الاتهام مباشرة صوب هذا الأخير، وأعطى العمل كله دلالة سياسية بل أيديولوجية محددة. أما مسرحية بونسار فتتألف من خمسة فصول، يطالعنا في أولها، ومن خلال حفل كبير تقيمه السيدة رولان في دارتها، ذلك الشرخ الكبير الذي كان قد بدأ يظهر في صفوف طرفي الثورة: الجيرونديين والجبليين، إذ نرى دانتون يصرخ ذات لحظة في وجه خصومه الجيرونديين متحدياً "لقد شئتم الحرب... هي لكم"! ويبدو واضحاً من خلال هذه الصرخة أن الثورة تبدلت الآن تماماً، وأن زمن الأفكار الكبرى والعواطف النبيلة والخطب الإنسانية الرنانة قد انتهى ليحل محله زمن الصراع على السلطة...".

من الثورة إلى الإرهاب

كان واضحاً أن الثورة في ذلك الحين تسير بقوة نحو تحولها إلى إرهاب. وانطلاقاً من هنا نجدنا الآن في فصل تالٍ، غير بعيد من مدينة كان غرب فرنسا، حيث يكون عدد من رجال الثورة الجيرونديين قد وصلوا فارين من جماعة دانتون الذين بدأوا يذبحون أعداءهم من الثوار أنفسهم. وفي تلك المنطقة من فرنسا تعيش شارلوت كورداي، الصبية التي هنا، في زمن الثورة، ها هي ذي تصغي بدورها - كما حال جان دارك في الماضي - إلى أصوات مشابهة، لكنها هذه المرة ليست أصواتاً "ملائكية" أو "سماوية" من تلك التي طالعت جان دارك في أحلام يقظتها، بل أصوات حقيقية: إنها الآن أصوات الجيرونديين الذين لجأوا إلى المكان وراحوا يتحدثون عن دانتون وإرهابه وعن أن فرنسا باتت في حاجة ماسة إلى من ينقذها مما هي فيه. وما هي فيه - بالنسبة إلى أولئك اللاجئين - كان سببه الزعامات، لا سيما جان - بيار مارا، الأكثر إرهاباً بين الإرهابيين. وربما القائد الذي قد يكون في إمكان شارلوت أن تصل إليه. وهكذا تجد شارلوت نفسها تحت تأثير هذه الأصوات وتأثير حكاية جان دارك التي تستحوذ على خيالها، كما على ما رأت أنه "إرادتها الوطنية" وضرورة إنقاذ فرنسا مما هي فيه. فتبارح ديارها في بريتاني (غرب فرنسا) وتتوجه إلى باريس، حيث تتمكن من التسلل إلى حياة مارا وداره، حتى تغتاله فيما كان يستحم، كما تقول لنا الحكايات المتنوعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دوافع وطنية
إذاً بالنسبة إلى بونسار كاتب هذه المسرحية يمكننا أن نقول إن دوافع شارلوت كورداي دوافع وطنية، تقوم أساساً على رغبتها في محاكاة ما فعلته البطلة جان دارك من قبلها، ولكن هل كان لما فعلته حقاً ذلك الأثر الشافي للداء الثوري الفرنسي؟ أبداً، ذلك أن اغتيال شارلوت لمارا لم يبدل شيئاً: هو فقط دمر أسرة شارلوت وأصدقاءها، وزاد من حدة الإرهاب والقتل، وجعل "الثورة" تستمر في الكشف عن وجهها الحقيقي، إذ إن الذي حدث من بعد انكشاف جريمة شارلوت وموت مارا هو أن كل أولئك الزعماء الذين كان كل واحد منهم يرى في نفسه مندوب عناية إلهية وثورية، لكنه بما يفعل غير آبه بالثمن الدامي الذي يدفع، سرعان ما أكدوا لشارلوت كورداي ولكل الساذجين من طينتها أن موت رجل واحد، حتى وإن كان من طينة مارا - لن يبدل في الأمور شيئاً. فالباقون موجودون، دانتون هنا وروبسبيير وسان جوست والآخرون كلهم هنا. وما موت مارا سوى محرك يدفعهم نحو مزيد من القتل والإرهاب، ليس فقط لأنهم هم يريدون هذا ويعتبرونه - علناً - دفاعاً عن الشعب، و- سراً - دفاعاً عن ذواتهم ووجودهم الخاص، بل كذلك - وبخاصة - لأن هذا هو منطق التاريخ ومنطق الثورات... منطق لا يمكن أية ثورة أو حقبة أن تفلت منه، لأنه يشكل الجزء الأكثر عمقاً وبقاءً في كيانها. وهكذا إذاً تفيق شارلوت كورداي من "غفلتها" في الفصل الأخير من المسرحية، ولكن بعد فوات الأوان، ذلك أنها، فيما كانت تقاد إلى المقصلة كي تدفع ثمن "الفعل الوطني الإنقاذي" الذي قامت به وجدت نفسها في اللحظات الأخيرة تتساءل وقد استبد بها الشك وأحلك الظنون "هل تراني أرقت دماً بشرياً من دون أن يؤدي ذلك إلى أي نتيجة؟ هل كان الفعل الذي اقترفته - في حق مارا، طبعاً، ولكن أيضاً، في حق أهلها وأصدقائها الذين يجدون أنفسهم الآن يدفعون الثمن غالياً - فعلاً لا طائل من ورائه؟". لقد عاش فرانسوا بونسار بين 1814 و1868 مما يجعله ابناً للجيل التالي لجيل الثورة... أي للجيل الذي وجد نفسه بعد أحداث نصف القرن الذي تلا "انتصار" الثورة ثم "هزيمتها" وتعاقب الإمبراطورية وعودة الملكية يتساءل عما فعلته تلك الثورة حقاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة