ملخص
الكاتبة المجرية #كريستينا_توت تمثل الحدث الثقافي والسياسي البارز في بلادها، لكونها صوتاً صارخاً في برية بلادها الغارقة في أزمات تكوين #النظام_الديمقراطي معطوفة على موجة تقليدية ضد المرأة
لا تزال الكاتبة المجرية كريستينا توت (1967) المولودة في بودابست، تمثل الحدث الثقافي والاجتماعي والسياسي البارز، في بلادها، لكونها صوتاً صارخاً في برية بلادها الخارجة حديثاً (التسعينيات) من الاتحاد السوفياتي السابق، والغارقة في أزمات تكوين النظام الديمقراطي على علات النظام السابق، وفي ظل تنامي القوميات والعرقيات، معطوفة على موجة تقليدية ضد المرأة ونيلها حقوقها النقابية والسياسية المستحقة لها، في نظام القيَم الأوروبي.
الكتاب الصادر حديثاً عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت-2023)، في سلسلة "إبداعات عالمية"، والمترجم إلى العربية (تر. كريم جمال الدين)، بعنوان "باركود"، يضم خمس عشرة قصة قصيرة ، يدور معظمها حول قضايا المرأة، واغترابها، وسط محيط متزمت ومتدين ومديني متنكر للقيَم، ومؤيد للرجل بصورة خاصة، وقامع حرية الأنثى والحرية بصورة عامة، هذه القيمة المعتبرة عنواناً أساسياً للحضارة الأوروبية الغربية التي ترفع بلغاريا لواءها في المنابر، وهي إحدى دول أوروبا الوسطى.
في القصة الأولى، بعنوان "إنسان غير مسكون-خط الحدود"، تحكي الكاتبة، على لسان الراوية الأنثى، التي لا تحتاج إلى التعريف بها، ولا إلى تسميتها، ما دامت ناطقة بلسان الكاتبة، أو ناقلةً عناصر من سيرتها الذاتية، لقاءً أخيراً بين الراوية ذات الخمس والثلاثين وبين رجل تسعيني، في أوان احتضاره الأخير. ويتضح من السياق أن الرجل المتوفى لتوه، بعيد إمساك الراوية، صديقته الشابة، بيده وطلبه قبلة منها، كان واحداً من المشردين الذين ضاقت بهم شوارع بودابست، وظلت تتنكر لهم، على رغم تحول المجتمع من الشيوعية إلى الليبرالية.
ولكن الكاتبة لا تدع السرد الواقعي العاري، والمقزز أحياناً، ينسيها لحظات التأمل في الحياة والموت، وفي العلاقة المتوترة بين الأجيال، وفي وحشة الإنسان الفرد القاتلة. "وبينما أنظر إلى الدخان الكثيف المتصاعد من مكانٍ ما، تُرى أين هي الحدود؟ هل يوجد على الإطلاق خط يفصل بين الحياة والموت؟ وهل هناك ولو خط واحدٌ محدد؟" (ص:17)
أجواء الطفولة
ولو تقدمنا قليلاً، إلى القصة الثانية، وهي بعنوان "المقلمة، خط السير"، لرأينا أن الكاتبة تعود بنا إلى طفولتها، وتحكي قصة اختفاء مقلمة أحد زملائها يدعى "كينج اياناك"، وكيف أن المعلم "أوسي" قرر حجز الطلاب في الصف، ومنعهم من تناول الغداء والنزول إلى الملعب قصاصاً، إلى حين اعتراف الشخص بسرقته والعفو عنه، للحال. ولما طال الحجز، وبلغ الضغط مداه، و"شعرنا بأن قوةً غامضة قد حبستنا في إطار الزمن الحاضر إلى الأبد" (ص:29)، قالت، أي الراوية: "أنا الفاعلة".
تواصل الكاتبة كريستينا توت، بسط رؤيتها للواقع النفسي الذي كانت عليه بلغاريا، إبان الحقبة الشيوعية، وبعيد انهيار الاتحاد السوفياتي، واندفاع البلغار نحو الغرب، في قصة "لبن فاتر، باركود". السابعة على التوالي، فيها تحكي المؤلفة على لسان الراوية، انغماسها في موجة إيثار كل ما هو غربي، من ثياب وأحذية الهوكي وكنزات، من فيينا وحذاء تزلج، كان أهلها والأقارب يهدونها إياها باعتبارها أثمن ما يمكن منحه.
"فمن المثير للاهتمام أن البالغين أيضاً كانوا يفكرون بالطريقة نفسها. فقد تعاملوا مع الأغراض التي تصل من الغرب باحترام وتبجيل غريبين...". (ص85-86)
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولما اختبرت هذا الشعور مع أهلها، لدى استضافتهم فتاة أميركية قصد التعرف إلى حياة عائلة بلغارية في مدينة بودابست، ولمست حقيقة انحيازهم إلى الفتاة، وتصرفاتها وعاداتها، حتى تلك التي تخالف عاداتهم وتقاليدهم، اكتشفت أنها مصابة بمرض اللوكيميا، أو السرطان بالدم، وأن كل ما مُنحته من الغرب لم يعد ذا نفع، وكل الكلمات الإنجليزية التي اضطرت إلى حفظها والتداول بها بطل أن تؤدي وظيفتها التواصلية العادية أو الممتازة في مناخ من المفاضلة الجوفاء بين الشرق، الخارج لتوه من النظام الشيوعي وبين الغرب ذي النظام الاستهلاكي العالي الجودة، وبات التركيز الأهم على المرض العضال، الذي يهدد الراوية بالموت المحكم.
مسائل المرأة
لا تقتصر المجموعة القصصية على معالجة الكاتبة عقدة النقص الكبرى لدى الناس في أوروبا الوسطى (الشرقية سابقاً) حيال أوروبا الغربية وما حازته من وسائط وتقدم تقني وسلع وغيرها، وإنما تتجاوزه إلى مظاهر ومسائل تخص المرأة ككل والإنسان المديني، ولا سيما شعور الكائن بالوحشة وغربته عن ذويه وكل ما يربطه بصلة من قريب أو من بعيد. ومثل ذلك، بل أمر منها خيانة الحبيب والزوج والأخ والصديق والصديقة. وفي هذا الشأن كانت القصة العاشرة، بعنوان "الأرضية الباردة- خط المستوى"؛ وفيها تسرد الراوية - وهي نفسها في القصص على حد ظني- قصة رحلتها السياحية إلى اليابان، بعد ثلاث سنوات من هجر حبيبها لها. وقد حملت في جعبتها عدداً من البطاقات التي ما زالت تحتفظ بها منذ سنوات ثلاث في أثناء رحلة قامت بها مع ذاك الحبيب إلى إيطاليا. ولما كانت الراوية قد دونت على ظهر كل بطاقة أمنية لطالما رغبت أن يحققها لها حبيبها في ما مضى، مثل: لنستحم معاً، "أريد طفلاً منك"، "ارقصي لي"، "ابق معي إلى الأبد" وغيرها، فقد عزمت على دفن كل منها في موضع من مسار معابد البودا، أو في طريق الجسر المؤدي إلى القصر الإمبراطوري، أو على مقربة من بركان فوجي، حتى نفاد البطاقات، وشعور الراوية بأنها صارت "جسداً بلا ماضٍ". (ص149)
ثم أن الكاتبة لا ترى ضيراً في مناقشة مناخات التحفظ بل التزمت الأخلاقي والديني التي كانت لا تزال سائدة في الريف البلغاري، وذلك من خلال قصة "أحب الرقص- الخط الفاصل"؛ إذ تسرد وقائع حصلت لها ولحبيبها زولتان المنفصل لتوه عن زوجته، في الريف، وكيف أن الأخير، على رغم تهوره، أمكن أن يخلص عنزة جيرانهما من الموت خنقاً، وأن يستميل الراوية بحركاته، وسرعة سوقه السيارة، وينتهيان إلى الرقص. "رقصتُ جيداً. وأنا أحب الرقص". (ص186)
الجدير ذكره أن للكاتبة توت نحو ثلاثين كتاباً في الرواية والقصة والسرد، منها: "بكسل"، و"أبهة النمر"، و"قصص من المجر"، و"أكواريوم"، وغيرها. كما أن لها تسع مجموعات شعرية لم تنقل إلى اللغة العربية، على حد علمنا. وتعد الكاتبة كريستينا توت، في بلادها اليوم، شخصية ثقافية ذات حضور بارز، ولا سيما بعد الحملات التي قادها ضدها رجال السلطة بعد مطالبتها بالكف عن اعتماد رواية الأديب البلغاري الشهير مور جوكاي (1825-1904) والمعنونة "رجل الذهب" لكونها لا تؤيد فكرة المساواة بين الرجل والمرأة، بالتالي يحسن عدم ترويجها بين الأجيال، وعدم اعتمادها كتاباً للمطالعة في المدارس. وللحال، أثار كلامها ردوداً في الأوساط الإعلامية الموالية للسلطة، وتوالت الردود العنيفة على الكاتبة، رفدتها شبكات التواصل الاجتماعي التي أجمعت على إحكام الرقابة على الأنشطة النسوية في البلاد، واعتبار تهجم الكاتبة على الرواية ومؤلفها نوعاً من الاعتداء الصارخ على التراث المجري الوطني!
لا يسع القارئ المراقب لمجريات الحوادث التي رافقت صعود نجم الأديبة المجرية كريستينا توت، واتساع حلقات النقاش الحاد في أوروبا الوسطى والغربية على حد سواء، حول حرية المرأة وحقوقها التي لا يزال البعض منها مستلباً، سوى الاستخلاص بأن معركة الحداثة ينبغي أن تتلازم مع المزيد من أنسنة القوانين ومنح المرأة المزيد من الحريات والحقوق حفظاً للمساواة المنشودة، والرخاء المعمم، والعدالة المأمولة.