Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أزمات مصر تشغل العالم ولو على سبيل "النكتة"

جيش جرار على صفحات التواصل قوامه 51.4 مليون مستخدم يدفع بأخبار "أرجل الفراخ" إلى "الأعلى قراءة" في المنصات العالمية متفوقة على فيديوهات الحرب

تهيمن أخبار مصر الاقتصادية وتمتزج فيها الأزمة بالنكتة الشعبية (أ ف ب)

ملخص

من #كشري_أبو طارق إلى مؤشر "موديز" هناك من #المصريين من يمضي 9 ساعات أو أكثر أمام شاشته مدوناً ومعلقاً ومشاركاً لآلاف الأخبار في أثير الكوكب

لسبب ما غير معلوم، وربما يكون معلوماً لكن غير متداول أو منطوقاً أو متداولاً، تكتسب مشكلات مصر الاقتصادية وأزماتها الطاحنة الراهنة قدراً هائلاً من الاهتمام العربي والتركيز الدولي.

الأوضاع الاقتصادية في مصر بالغة الصعوبة. فاتورة الإصلاح الاقتصادي التي استهلت باكورة أعمالها في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2016 كشرت عن أنيابها وأطبقت على جيوب المصريين إطباقاً لم يكن على بال الدولة أو خاطر القاعدة العريضة من المواطنين في نوفمبر الماضي.

عرقلة وتكالب

تكالبت عوامل عالمية لم تدع دولة إلا وأثقلتها، واقتصاد إلا وضربته ضربة واحدة أو ضربات عدة. فعامان من الوباء عرقلا النمو الاقتصادي في الدول ذات الأنظمة الاقتصادية القوية وانقضا على تلك الدول ذوات الاقتصادات الهشة أو النامية أو التي كانت تنوي أن تكون نامية. وحرب روسيا في أوكرانيا التي أطفأت شمعتها الأولى قبل أيام تمضي قدماً من دون هوادة ملحقة أشد الضرر بأساسات أعتى الدول، وواضعة الأمنين الغذائي والطاقة في مرمى نيران الحرب غير معلومة المصير.

وعلى رغم ذلك، تفرض الأوضاع الاقتصادية في مصر نفسها على العناوين الرئيسة وفي نشرات الأخبار على مدار الساعة وفي مواقع الأخبار الغربية وتحليلات الأنباء الأجنبية، وبالطبع العربية.

كما تجد مصر نفسها مثاراً للشد الرسمي العالمي والجذب الشعبي الأجنبي بين منظر ومحلل ومفسر لما يجري من أحداث تتعلق بالاقتصاد وأزمات وثيقة الصلة بآثار الأزمة، لكن جميعها ذو نكهة مصرية خالصة يفهمها البعض ويقع البعض في حيرة بالغة محاولاً فهمها من دون جدوى.

كشري وأرجل دجاج

احتلت "أرجل الدجاج في مصر"، "الخبر الأكثر قراءة" على مدار أسبوعين على منصة خبرية بريطانية على رغم أن البريطانيين يتجرعون مرارة الحصول على ثلاث ثمرات طماطم لكل مواطن بسبب غياب الخضراوات، وحصد فيديو يدور حول كلفة طبق "الكشري" في محال وعربات الطعام في شوارع القاهرة ما يزيد على مليوني مشاهدة خلال ساعات متفوقاً على فيديو العمليات العسكرية الشرسة الدائرة في شوارع "باخموت" في أوكرانيا. ويبدو تفسير ذلك أمراً صعب المنال، بينما كان طرح الحوارات الشعبية الدائرة في الشارع المصري حول لحوم الأحصنة التي طرحها شخص باكستاني للبيع في إحدى قرى المنصورة بسعر 160 جنيهاً مصرياً للنقاش في ندوة عقدتها جامعة كندية، أمراً مثيراً للاهتمام.

الاهتمام بمصر ليس غريباً. فملايين المواقع والكتب والبحوث وغيرها متخصصة في الحضارة المصرية القديمة، وتاريخ مصر القديم والحديث والمعاصر، والحروب التي خاضتها، والقلاقل التي شهدتها، والتغيرات الديموغرافية والتطورات الاجتماعية والتحولات الثقافية وغيرها من شؤون وتخصصات العلوم الإنسانية، وهو أمر عادي واهتمام لا يتوقف عند مصر وحدها.

لكن وحدها مصر تهيمن أخبارها التي تمتزج فيها الأزمة الاقتصادية بالنكتة الشعبية بالهمة العنكبوتية مع قدر غير قليل من المناوشات الحكومية التي لا تخلو من معضلات إعلامية محلية ومزاج شارع يصعب التنبؤ به أو السيطرة على شطحاته أو تحليل محفزاته.

محفزات طبيعية وتاريخية

المحفزات التي جعلت مصر محط أنظار العالم كثيرة. فموسوعة "بريتانيكا" تشير إلى أن موقع مصر الاستراتيجي جعلها مركزاً لطرق التجارة بين أفريقيا وأوروبا وآسيا. وتم تعزيز هذه الميزة الطبيعية في عام 1869 بافتتاح قناة السويس التي تربط بين البحرين الأحمر والمتوسط. موقع "دويتشه فيله" الإعلامي الألماني يقول في تعريفها عنها، إن "مكانة مصر في العالم العربي لا تعود فقط إلى تعداد سكانها الكبير مقارنة ببقية الدول العربية، لكن لما أسهمت به في حركة النهضة العربية والتاريخ العربي الحديث".

وتحفل قوائم الـ"يونيسكو" بسبعة مواقع مسجلة رسمياً على قائمة التراث العالمي هي: منطقة الأهرام من الجيزة إلى دهشور، والقاهرة الإسلامية، ومدينة طيبة القديمة ومقبرتها، ومعالم النوبة من أبو سمبل إلى فيلة، ومدينة أبو مينا، ومنطقة سانت كاترين، ووادي الحيتان. وهذه القائمة تضع مصر في مكانة متميزة ومتفردة عالمياً.

وتاريخ مصر الحديث وسياساتها وحروبها التي خاضتها وعلاقاتها مع جيرانها وأعدائها وأصدقائها وغيرهم، ووصفها الدائم بأنها "رمانة ميزان" الشرق وميزان مصالح الغرب، وقياس تحركاتها ومواقفها المعلنة وغير المعلنة من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية والصين وأوروبا وغيرها أمور يضعها الساسة والأكاديميون نصب أعينهم على مدار عقود.

"روعة" التمكين العنكبوتي

لكن كل ما سبق من اهتمام بمصر في كفة، والاهتمام الحالي بمصر في كفة أخرى. الكفة الحالية تزن 109 ملايين نسمة وعداد المواليد يدق بعنف. هذه الملايين لها ثقل بشري لا يتمثل فقط في العدد الذي يضعها في المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد السكان، وفي الثالثة أفريقياً بعد نيجيريا وإثيوبيا، بل يتمثل في القوة العنكبوتية التي تجعل من مصر وما يجري فيها من حادثة وقعت في قرية صغيرة أو جريمة حدثت بمدينة نائية، أو خبر معاد تدويره من معهد تغذية أو فتوى غريبة أطلقها شيخ لم يسمع عنه أحد، أو حديث جرى في مقهى منزو بزقاق متفرع من حارة متشعبة من شارع في ضاحية على مشارف القاهرة أخباراً مزلزلة وفيديوهات مهيجة وتعليقات مروعة.

"روعة" التمكين العنكبوتي في مصر تتحدث عن نفسها عبر رقم قوامه 51.4 مليون مستخدم لمنصات التواصل الاجتماعي (بحسب تقرير صادر عن مؤسسة "وي آر سوشيال" المتخصصة في بحوث الإنترنت لعام 2022، هذا الجيش الجرار يصنع الأخبار. صحيح أن الأخبار ليست بالضرورة أخباراً بالمعنى المعروف، حيث يمتزج فيها الخبر بالرأي بالخبر الكاذب بـ"المفبرك" بالمجتزأ بالقديم بالجديد، إلا أنه يظل صانعاً ومصدراً لما يكتب ويبث عن مصر في عديد من أرجاء العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العالم المهتم بـ"أرجل الفراخ" و"الأحصنة المذبوحة" و"حقنة هتلر" و"أسعار البنزين" و"سجن بدر النموذجي" و"لعنة الفراعنة" و"أسماء التمور في سوق روض الفرج" و"طبق الكشري من حلة أبو طارق" إلى مؤشر "موديز" و"رحلة موظف الحكومة في مصر من القيمة والمكانة إلى الطريق المعاكس" و"كيف وصلت عربة الفول والفلافل من قلب ميدان التحرير إلى مفترق كباري العاصمة الجديدة؟" لا يعني أن بين المصريين من يمضي سبع أو ثماني أو تسع ساعات أمام شاشته مغرداً ومدوناً ومعلقاً وناقلاً ومشاركاً لآلاف الأخبار والقصص والسرديات التي تجوب أثير الكوكب.

وعلى رغم أن الأرقام تشير إلى متوسط ساعتين ونصف يمضيها المستخدم المصري متجولاً على منصات الـ"سوشيال ميديا" وصانعاً لمحتواها، فإن هذا هو المتوسط فقط، وبين المصريين من يمضي نصف ساعات يقظته فاعلاً ونشطاً على هذه المنصات.

مادة خام للأخبار

هذه المنصات ومحتواها كثير ما تمثل مادة خاماً لصناع الأخبار التقليديين. يقول الكاتب الصحافي المصري نبيل عمر، إن دورة الأخبار في العالم أصبحت جامعة بين الـ"سوشيال ميديا" والإعلام التقليدي الذي يفترض أنه مهني، بمعنى أن أحدهم يجلس أمام شاشته في بيته أو مقهاه المفضل في مصر، يكتب عن "أرجل الفراخ أو هياكلها (عظامها) أو أجنحتها"، وما سمعه عن تحولها إلى غذاء المصريين الرئيس، وما نما إلى مسامع زوجته من أن الدجاج البرازيلي سيصيب الرجال بالعقم والنساء بالمرارة والأطفال بالتقزم والأنيميا، وكيف أن الغرض من قرار الاستيراد هو ضرب صناعة الدواجن المحلية، فيتلقف أحدهم ما كتب، ويعيد نشره أو تشاركه ربما بعد إضافة ما نما إلى مسامعه هو الآخر، ويقرأ ثالث المنشور فينقل أجزاء منه في تقريره الصحافي، وهنا تترجم مرة وإعادة تداوله مرات في منصات إعلامية واجتماعية وثقافية واقتصادية وأكاديمية لتتم مناقشته والتعليق عليه، وتتحول هذه النقاشات والتعليقات إلى خبر ينشر ويذاع في الصحف والمواقع والمنصات، وهلم جرا.

ويشير نبيل إلى أن "دورة الخبر باتت مغلقة ومحكمة من السوشيال ميديا إلى الإعلام التقليدي ومنه إلى الـ"سوشيال ميديا" مجدداً. هذه الدورة تبث الحياة في المحتوى المثير أو الغريب أو الفريد، وما أكثره في مصر. وتكمن الغرابة لا في صعوبة الأوضاع وقسوتها فقط، لا سيما أن أغلب دول العالم يعاني الأمرين جراء الأزمة الاقتصادية، لكن بسبب مساهمة ملايين المصريين، سواء بنية أو من دونها في تسليط الضوء على الغرائب. منهم من يعتبرها فرصة ليكون من قادة الرأي العنكبوتي، ومنهم من يعيد مشاركة ما وصل إليه من دون تفكير أو تأكد من صدقية أو حقيقة المحتوى، ومنهم من يعيد نشر أخبار أو قصص وربما يختلقها لحاجة في نفس يعقوب".

نفس يعقوب

نفس يعقوب تظل كاتمة لأسرارها، لكن نفوس أخرى تخضع لتحليلات وتفسيرات بعضها يرجع ماكينات أخبار وفيديوهات وتغريدات وتدوينات دائرة رحاها على منصات التواصل الاجتماعي لجماعة الإخوان المسلمين. الباحث في شؤون الجماعات الإرهابية عمرو فاروق يقول في أحاديث صحافية، إن التنظيم ما زال يعتمد بشكل مكثف على القنوات والمنصات الإعلامية والتواصل الاجتماعي التابعة له للتشكيك في القائمين على أمر الدولة المصرية، وأن جهوداً مستمرة تبذل من أجل خلق وتجذير حالة من الخوف والقلق لدى المصريين.

ويرصد "المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية" في ورقة عنوانها "كيف يستخدم الإخوان ولجانهم الإلكترونية منصات التواصل الاجتماعي في نشر الأكاذيب وإثارة الفتن وتأليب الرأي العام؟" قائمة من الأساليب التي يستخدمها المنتمون والمتعاطفون مع الجماعة، لا سيما في أوقات الأزمات. أبرز هذه الوسائل: الهاشتاغ والوسوم والترند وذلك بهدف الترويج لفكرة غالباً يكون مصدرها قرار أو تصريح رسمي لا يلقى شعبية بالضرورة، والسخرية التي تعتبر أداة محورية في عمل الجماعة وذلك للنيل من هيبة كل ما أو من يتعلق بالدولة أو رموزها أو قراراتها، وبشكل يبدو معه كل إنجاز وكأنه وهم وكل قرار باعتباره تفاهة وسطحية.

مهارة الاستغلال

وتحترف هذه الميليشيات "مهارة" استغلال الملفات التي تمس المواطنين فيتم الدق عليها، تارة بالتضخيم وأخرى بالتسخين وثالثة بالتأليب، كما تحترف مهارة أخرى وهي اقتطاع التصريحات من سياقها، فيبدو الخبر أو التحليل أو التغريدة أو التدوينة وكأنها خبر موثق بأرقام وبيانات، لكن يتم اقتطاعه من سياقه أو اجتزاؤه فيحمل رسائل مضللة من شأنها أن تزيد من حجم عدم الرضا أو الغضب تجاه شخص أو قرار. وتدور هذه الجهود على مدار الساعة، لا سيما في أوقات الأزمات لتسهل عملية النيل من النظام.

نظام تناول الأكل المستعمل في مصر تحول إلى الأكثر بحثاً وتداولاً و"هبداً" قبل أسابيع قليلة. وقد تزامن ذلك وتفاقم الأزمة الاقتصادية. التفاقم والتزامن والبحث عوامل أدت إلى تداول فيديو عن "سوق الأكل المستعمل في مصر". الفيديو، الذي تبعته فيديوهات عدة، تسبب في تفجر مشاعر عدة بين قلق وغضب وقرف.

الغرق في المنصات

وبينما المصريون غارقين في منصات الـ"سوشيال ميديا" بين محوقل للحال التي وصل إليها الغلاء، ومكبر طلباً للغوث من السماء، اتضح أن الفيديو الأصلي يجري تداوله بشكل موسمي منذ عام 2018. وفي كل مرة، يتم التعامل معه باعتباره "سبقاً خبرياً" و"مصيبة اجتماعية" و"كارثة صحية" و"أزمة أخلاقية". وعلى رغم ذيوع مشكلات تتعلق بجودة الأطعمة والرقابة على الأسواق في مصر منذ عقود طويلة، وعلى رغم شيوع نظرية قوامها أن "معدة المصريين تهضم الظلط"، التي تحوي خليطاً من الإيحاءات بينها ضيق ذات اليد مع قوة الإرادة والمعدة مع قدر غير قليل من خفة الدم التي تعوض ثقل الواقع، فإن "الأكل المستعمل" المشار إليه ليس مستعملاً بمعنى أنه لم يسبق أكله، لكن تبقى معايير جودته غائبة وضمانات صلاحيته مطموسة.

"طمس الحقائق لا يحدث فقط من قبل الأعداء أو المعارضين أو الراغبين في إلحاق الضرر بالدول، بل يحدث حين يفتقد البعض الوعي اللازم للتفرقة بين الحقيقة والكذب، والخبر القديم والجديد، والكامل والمجتزأ. وحين يغيب مثل هذا الوعي تلحق الشعوب الضرر بنفسها، وفي عصر الإنترنت يصبح الضرر مضاعفاً والقنبلة الانشطارية من أخبار كاذبة أو قديمة أو مجتزأة أسرع وأفدح انتشاراً"، بحسب ما يقول عمر.

التداول محلي في الأساس

جانب من الاهتمام الإعلامي العالمي الكبير بأخبار "أرجل الفراخ" و"لحوم الأحصنة" و"الرز البلاستيك" و"الديدان الصينية المتنكرة في صورة جمبري" ينبع من تداول مثل هذه الأخبار- سواء كانت صادقة أم كاذبة أم نصف صادقة- من قبل المصريين أولاً. يقول عمر إن ما يجري حالياً هو ترجمة فعلية لما كتبه الفيلسوف والمفكر الكندي آلان دونو في رائعته "عصر التفاهة"، مشيراً إلى أن جموعاً من "الغوغاء" التي تتصور أنها امتلكت المعرفة والثقافة بامتلاكها الشاشات المتصلة بالإنترنت تهيمن وتسيطر هذه الآونة على "أخبار" العالم، وليس مصر فقط، لكن الفرق يكمن، من وجهة نظره، في حجم الوعي والتفرغ لمنصات التواصل الاجتماعي واعتبارها المصدر الحقيقي للمعلومة. ويضيف أنه في الوقت الذي يمكن تفهم نقص الوعي لدى البعض من مستخدمي الإنترنت وتحولهم إلى مصادر للأخبار والقصص غير الموثقة، فإنه يصعب تفهم تعامل بعض المؤسسات الإعلامية الرصينة مع مثل هذه القصص والترندات باعتبارها مؤشراً حقيقياً ومعياراً للأولويات يمكن الاعتماد عليه.

لكن ملعب الأخبار فيه فرق مختلفة وتناولات متعددة. والمسألة لا تقتصر فقط على أخبار مثيرة هنا أو تنافس مع الـ"سوشيال ميديا" هناك، كما يقع البعض أحياناً أسير نظرية المؤامرة المريحة التي تجعل من كل الأخبار السيئة أو تحليلاتها السلبية محاولات للنيل من البلاد وجهوداً لتشويه العباد.

 

الإعلامي المخضرم الذي أمضى عشرات السنوات في "بي بي سي" العربية، جمال عبداللطيف يقول لـ"اندبندنت عربية" إن "أخبار مصر تبدو بالغة الإثارة وتصل إلى الترند بسرعة شديدة لأسباب عدة. وبناء على خبرتي الطويلة في المنصة، فهناك أسباب كثيرة تتعلق بها، سأذكر منها سبباً واحداً يتعلق بالسياسية التحريرية"، مستدركاً "أي وسيلة إعلامية يهمها عدد المتلقين سواء كانوا قراء أو مشاهدين أو مستمعين. وكلما زاد العدد اعتبر ذلك معياراً لنجاح الوسيلة الإعلامية. وطبيعة الشأن المصري وكميتها وطرافتها في كثير من الأحيان تجعل كثيراً من المنصات الإعلامية تحرص على الحصول عليها حتى تجذب أكبر عدد ممكن من المتلقين".

ويشير عبداللطيف إلى خصوصية الشأن المصري حيث "الدولة الكبيرة ذات المؤسسات الراسخة والعريقة، التي كانت مصدراً للتعليم ولنشر الثقافة في عديد من الدول العربية والأفريقية، وعلى رغم ذلك يصدر عنها وعن مسؤوليها وعن المؤسسات وعن الشعب أشياء تتسم بطرافة وغرابة لا تصدر في أغلب الأحيان إلا عن الكيانات الصغيرة.

ويكمل "الأمثلة كثيرة منها جهاز معالجة الإيدز الذي عرف بـ(جهاز الكفتة) على سبيل السخرية، الذي صدر بموافقة رسمية على رغم وجود المؤسسات العلمية الكبيرة والراسخة في مصر. مثال آخر هو النصائح التي تصدر عن مسؤولين لمواجهة ارتفاع أسعار الطاقة، التي لا تدور حول دعم المواطنين أو فرض الضرائب على شركات الطاقة، لكن بارتداء الملابس القطنية (وهو ما حدث في عام حكم الإخوان المسلمين في 2012)، أو ارتفاع أسعار اللحوم فيصدر (المعهد القومي للتغذية) وهو مؤسسة عريقة بياناً بفوائد أرجل الدجاج".

وبحسب رصد معمق لأعداد وموضوعات الإشاعات المتداولة على منصات التواصل الاجتماعي في مصر بين عامي 2014 و2022 أجراه المركز الإعلامي التابع لمجلس الوزراء، جاءت الإشاعات المتعلقة بالاقتصاد والخدمات الأساسية على رأس القائمة، بنسبة نحو 30 في المئة من مجموع الإشاعات، تلتها إشاعات تتعلق بالمواد التموينية بـ20 في المئة، ثم التعليم بـ13 في المئة، ثم الصحة بـ11 في المئة ثم الزراعة بسبعة في المئة والتضامن الاجتماعي بستة في المئة، والطاقة والوقود بخمسة في المئة تقريباً، إضافة لإشاعات الآثار والإسكان والإصلاح الإداري.

السخرية من التراجيديا

عامل آخر مهم في "شعبية" الأخبار الغريبة النابعة من مصر وذيوع الطرائف التي تخلط فيها الحقيقة بالخيال، يتعلق بميل مصري فطري للتنكيت والسخرية لدرء شرور التراجيديا الواقعية. كعادة المصريين، تولد نكتة من رحم كل أزمة، وتتفجر ضحكة من كل كارثة. يقول البعض إن السخرية والتنكيت سلاح فطري يساعد على التحمل ويقوي المناعة ويمتص الصدمات. ومع انتشار الـ"سوشيال ميديا"، انتشرت كذلك النكتة والسخرية على كل تطبيقاتها.

تداول النكات والـ"ميمز" والـ"كوميكس" على نطاق بالغ الاتساع في الداخل المصري ينعكس "إيجاباً" (من حيث الانتشار) في تداول وتناول القضايا المصرية على المنصات الإعلامية والـ"سوشيال ميديا" العالمية، وهو ربما ما يفسر صدارة خبر عن تفكه المصريين من لحوم الحمير التي يجري اكتشافها أحياناً في الأسواق البعيدة عن الرقابة قبل خبر عن تظاهرات في تونس بسبب ارتفاع الأسعار أو نيران تلتهم قرية في دارفور أو سرقة القرن في العراق أو تسمم آلاف الطالبات في إيران.

 

ويتفق جمال عبداللطيف مع هذا الطرح، إذ يشير إلى أن اتسام عديد من الأخبار التي تأتي من مصر بالطرافة مثل لحم الأحصنة في المنصورة أو "عنتيل" (لفظ دارج يقصد به الشخص الذي يقيم علاقات جنسية متعددة ويصورها لإشباع رغباته من جهة وليبتز الطرف الآخر كذلك لاحقاً) وغيرها من الأخبار التي تحوي كل العناصر التي تنتج قصة خبرية أو تحقيقية "حريفة"، ويجعلها قصصاً جاذبة للمتلقين ما يرفع من نسب المشاهدة والقراءة.

من جهة أخرى، يلعب "الباباراتزي" الشعبي دوراً إضافياً. "الباباراتزي" الشعبي– كما يطلق عليهم الكاتب نبيل عمر– يدقون زر المشاركة ويكتبون ويسردون ويحلقون في آفاق رحبة بشكل عجيب. يقول، "في الأيام القليلة الماضية تلقيت ما لا يقل عن 20 رسالة من أشخاص مختلفين عبارة عن تدوينات وتحليلات مطولة كبتها أو أعاد تشاركها كل منهم حول المؤامرة التي حاكتها المرشحة السابقة للرئاسة ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون لإسقاط مصر، التي كتبت هي نفسها عنها في كتابها (360 درجة). الطريف أنه لا يوجد لكلينتون كتاب أصلاً بهذا العنوان، لكن يوجد من قرأ تدوينة كتبها أحدهم عن كتاب وهمي وكلام خيالي فكتب مقالات وتدوينات يحلل فيها الوهم والخيال".

أزمة مواجهة الوهم

مواجهة الوهم والخيال المنتشرين على منصات التواصل الاجتماعي مصرياً، ومنها إلى منصات الإعلام التقليدي المصري والعالمي أحياناً، تتطلب خطة إعلامية. قبل أيام، طالبت عضو مجلس النواب (البرلمان) المصري رحاب موسى بمواجهة الإشاعات التي يجري تداولها عبر الـ"سوشيال ميديا"، التي "تهدف إلى نشر اليأس في نفوس المواطنين وتشويه صورة المؤسسات التي يتوقع أن تستمر في الفترة المقبلة". النائبة أثنت على "موقف الحكومة خلال هذه الفترة في سرعة الرد على هذه الإشاعات لقطع الطريق على المشككين وكل من تسول له نفسه النيل من مؤسسات الدولة"، مشيرة إلى أن "هناك من يستغل الأوضاع الاقتصادية العالمية التي ألقت بظلالها على عديد من دول العالم ولمصر نصيب من هذه الأحداث، لنشر إشاعات وأخبار كاذبة" مطالبة "المواطن بأن يكون أكثر وعياً".

الإعلام التقليدي هو إحدى أهم وأبرز أدوات نشر الوعي، لكن حين يعاني الإعلام نفسه من مشكلات ومعضلات، فإن الوعي أيضاً يعاني معاناة مضاعفة. يقول عمر إن الإعلام المصري يعاني ضعفاً ويواجه مشكلات عديدة، وإن البعض يعتقد أن عدم وجود إعلام قوي ومهني يجعل من السيطرة على الشعوب و"حمايتها" من نفسها ومن آخرين يحاولون التربص بهم أمراً يسيراً، "لكن ما جرى هو أن كثيرين توجهوا إلى الأثير العنكبوتي وسلموا أنفسهم وعقولهم لغوغائية السوشيال ميديا، فجاءت الخسارة مضاعفة".

وبعيداً من الخسائر ودقات الأزرار غير المسؤولة والوعي المفتقد، تظل القاعدة المعمول بها والواقعية– وإن لم تكن بالضرورة المثالية- هي أن Bad news is good news

أي "الأخبار السيئة هي أخبار جيدة للإعلام". الغريب مقروء، والمريب مثير، والعجيب جاذب. والدليل؟ تفنيد الأكثر قراءة على أعتى المواقع الإخبارية، والأعلى مشاهدة على "يوتيوب" وشاشات الفضائيات، والأعلى صدقية بين المؤثرين من صناع الأخبار على "تيك توك".

المزيد من تحقيقات ومطولات