Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"قحت" المركزي والعنوان السياسي للثورة السودانية

في ضوء واقع مترد خلفه نظام الإخوان قد لا تنفتح ممكنات التعبير والتخطيط السياسي للثورة

أفرزت الثورة السودانية فاعلين سياسيين جدداً كانوا في البداية كتلة واحدة حملت عنوان "قوى إعلان الحرية والتغيير" (أ ب)

ملخص

 يمكن القول إن العنوان السياسي لخطاب #الثورة هو اليوم أقرب إلى الطرح الذي تحاول #قوى_الحرية_والتغيير (المجلس المركزي) أن تقاربه.

تتردد اليوم تعبيرات الخطاب السياسي لمرحلة ما بعد الثورة السودانية بين جملة من المواقف تعكس تفسيرات مختلفة عن هوية تلك التعبيرات، فما كشفت عنه وقائع السياسة السودانية التي تجري أحداثها اليوم في أتون فاعليات كثيرة ومضطربة خارجياً وداخلياً، بدت فيه تعبيرات تتبنى في سردياتها مبادئ الثورة والحديث باسمها عبر استهلاك مبتذل للسياسة تخوض فيه أجسام كثيرة بتأويلات متناقضة في بعض الأحيان، ونتصور أن فوضى السنوات الـ 30 لنظام "الإخوان المسلمين" أحدثت خللاً عميقاً في طرق التعبير عن السياسة، حين استبدل "نظام الإخوان" بنية العمل السياسي القائمة على الأحزاب ببنيات تقليدية لا علاقة لها بالتعبير السياسي، مثل القبائل، وجعل ذلك النظام من كفاح الحركات المسلحة ميداناً جاذباً للمساومة السياسية تم عبره مع مرور الزمن تبديل الفضاء العام للسياسة من ميدان للسلم والعمل الحزبي إلى فضاء للحرب مع تلك الحركات،
وما إن سقط رأس النظام في الـ 11 من أبريل (نيسان) 2019 حتى كانت نظم إدراك العمل السياسي وبنياته المتغيرة تماماً عن أصوله، بفعل 30 سنة من تجريف السياسة، هي التعبير الذي شكل طبيعة الممارسة السياسوية للقبائل وللحركات المسلحة في واقع ما بعد الثورة، ولهذا لن نستغرب اليوم إذا وصفت بعض الحركات ممارساتها العدمية في مقاربة السياسة على أنها ممارسات ثورية، ولن نستغرب كذلك أن نرى نظار القبائل يتكلمون في قضايا الثورة والسياسة عبر مزيج غريب عجيب لا يضخ إلا تشويشاً مضللاً، ويشكك عامة الناس في أي إمكان لعمل سياسي سوي في المجال العام.
إن ما نراه اليوم من تعاط عدمي ومشوش للممارسة السياسية من طرف بعض الكتل الحزبية أو من تصورات عبثية تنشط في المجال العام لبعض الكيانات السياسوية هو جزء خطر من أزمة التعبير عن الثورة، من أطراف لا تريد أن تعترف حتى الآن أن بنياتها وممارساتها تلك هي في الحقيقة شكل من أشكال ممارسات النظام القديم للمزايدة السياسية، تم تعميمها أسلوباً للعمل العام لـ 30 عاماً.
وعلينا أن نتذكر، على سبيل المثال، أنه حتى تلك الحركات المسلحة التي حاربت نظام البشير سنوات طويلة، ظلت باستمرار تدخل مع نظام الإخوان في اتفاقات عبثية فاشلة أكثر من مرة، ثم تخرج منها إلى درجة أصبحنا فيها عاجزين عن فهم ما إذا كانت تلك الحركات والأحزاب التي تشببها لا تزال غير مصدقة أن ثمة تغييراً هائلاً أحدثته الثورة في نفوس السودانيين، وأن ثمة معادلات إستراتيجية فرضتها أجندة الثورة فأصبحت اليوم جزءاً من حقائق الحياة السياسية في سودان ما بعد الثورة، ونعني بذلك أن أحد أهم قناعات ثورة الـ 19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018 التي رسخت في وجدان الشعب السوداني أنه أصبح من المستحيل اليوم أن يسمح بأي عودة لحكم العسكر أو "الإخوان المسلمين" ولو ترتب على ذلك حرب أهلية.

بطبيعة الحال أفرزت الثورة السودانية فاعلين سياسيين جدداً كانوا في البداية كتلة واحدة حملت عنوان "قوى إعلان الحرية والتغيير" التي قادت الثورة إلى سقوط رأس النظام في الـ 11 من أبريل 2019، ثم فوضها الشعب تفويضاً بحكم الأمر الواقع لتولي السلطة بعد اتفاق الـ 17 من أغسطس (آب) 2019.
لكن ما إن انكشفت الحقائق التي عادة ما يتفاجأ بها الفرقاء السياسيون بعد أن تواجههم منعطفات السياسة وأزماتها، حتى حدثت اختلافات خرجت بموجبها بعض الأحزاب، مثل الحزب الشيوعي، في البداية من تحالف "قوى الحرية والتغيير" ثم لحقت به بعض القوى الأخرى حتى تفاجأ الجميع بلحظة انقلاب الـ 25 من أكتوبر (تشرين الأول)2021 الذي فض الشراكة السياسية بين "قوى الحرية والتغيير" والعسكر.

كانت تلك التجربة القاسية من ناحية ثانية فرصة لإعادة التموضع والالتفات إلى مصالح الشعب الذي أفرز معادلاته الثورية وظل يعكف على حراستها والنضال من أجلها،
واليوم وبعد أن أجرت "قوى الحرية والتغيير - المجلس المركزي" (قحت) مراجعات جادة وتقييماً نقدياً لتجربة الشراكة مع العسكر بموجب الوثيقة الدستورية لاتفاق الـ 17 من أغسطس 2019، يمكن القول إن "قحت" المركزي هي الأقرب للعنوان السياسي الذي يعبر عن محتوى عقلاني للثورة في صيرورة متقلبة للواقع السياسي عادة ما تحدث إثر الثورات، فتحالف ما يسمى بـ"التغيير الجذري" الذي يعبر عنه الشيوعيون والبعث وبعض المتحالفين معهم كتجمع المهنيين - فرع الحزب الشيوعي وآخرون، يشق طريقه الثوري اليوم محدداً سقفاً عالياً لهدفه وهو إسقاط انقلاب العسكر، لكن عبر إستراتيجية غير واضحة المعالم سوى أنها تعبير عن حراك أبدي قائم على الحشود والتظاهرات المستمرة من دون أي أفق لعمل سياسي يقرأ تحولات الواقع السياسي في ضوء متغيرات وموازين قوى وتقديرات نسبية تفرض باستمرار أجندتها على سياسة متغيرة للثورة، كما لو أن الثورة في عرف هؤلاء هي تحفيز دائم للتوترات من دون أن يتم النظر إليها كصيرورة تختبر في ضوء أهدافها معطيات الواقع الممكنة والمتغيرة كافة لتحقيق تلك الأهداف. ولن نجانب الصواب إذا قلنا إن تلك الرؤية لإسقاط النظام عبر حراك بلا أفق هي ضرب لمقاربة طهورية حيال تحولات واقع متغير، ونتصور أن قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) لا سيما بعدما استعادت بعض الأحزاب عضويتها فيها مرة أخرى، تعبر اليوم عن عنوان سياسي واضح للثورة من حيث تعاملها مع الوقائع السياسية واختبارها آليات مختلفة عبر أكثر من أسلوب في التعاطي مع الواقع المحلي والإقليمي والدولي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ففي ضوء واقع مترد مثل الذي خلفه نظام كلي الإجرام مثل نظام "الإخوان المسلمين" دام 30 عاماً وأحدث خراباً عظيماً وخللاً كبيراً في جهاز الدولة السودانية، قد لا تنفتح ممكنات التعبير والتخطيط السياسي للثورة بحسب ما تتمناه خيالات الثوار وأحلامهم، بل بقدر ما يتصل الأمر بتقدير موضوعي في قراءة متغيرات الواقع ومعادلاته، وتجريب العمل في ضوء أهداف الثورة، مما يظنه دعاة تيار التغيير الجذري مساومة وميوعة سياسية، كما لو أن هناك قدرات خارقة للبشر على اكتشاف "الغيب السياسي".

 لهذا كان واضحاً أن الصمود الذي أبداه قادة تحالف قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) في رفضهم لكل محاولات العسكر بعد خروج أولئك القادة من السجون والحراك السياسي المتعدد الذي طوروا عبره مواقف فاعلة وجادة، سمح بها انفتاح الساحة السياسية إثر الضغوط التي واجهت الانقلابيين عبر تظاهرات الشعب المستمرة وضغوط المجتمع الدولي، فكل تلك الخطوات تعكس لنا اليوم المبرر السياسي لفعل الثورة في رؤية قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، لأن الثورة تتحرك في واقع سياسي تلعب مؤثرات كثيرة في تحولات وقائعه باستمرار.
وها نحن اليوم نرى أن التفسيرات المتماسكة لتحليل واقع الثورة والحراك السياسي في خطاب قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) هي الأكثر إقناعاً في حدود ما هو ممكن وقابل للعقلنة السياسية في التفاعل مع معطيات واقع محلي وإقليمي ودولي معقد.
إن القدرة على رسم إستراتيجيات الملامح العامة لتطورات الواقع والتفاعل معها في طرح قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) من حيث النظر في ترتيب أولويات ومراحل وحدود ممكنات الواقع السياسي، هي الأنسب تعبيراً والأكثر عقلنة وتأطيراً للتحليل، فيما ينظر كثيرون ممن ذكرناهم من قبل، سواء كانوا دعاة التغيير الجذري أو الحركات المسلحة أو الأحزاب ذات الصبغة القبائلية، للواقع السياسي بطريقة انتقائية مجردة أو بطريقة لاعقلانية أو برؤية أيديولوجية نسقية، مما يعكس لنا إلى أي مدى أصبحت طبيعة التنازع في ادعاء احتكار الثورة في تلك المنظورات الثلاثة للقوى المذكورة آنفاً سبباً لضخ تشويش كبير في أذهان العامة والبسطاء، ناهيك عن الخطاب الماكر لفلول النظام القديم وسرديته الإسلاموية التي لا تزال تجد لها أساساً في تصورات بعضهم بفعل خطاب إعلام حكومي تسلط على توجيه الشعب لـ 30 عاماً.

وفي ظل تعقيدات مأزومة كالتي تكشف عنها تعبيرات احتكار الحديث باسم الثورة في خطاب المكونات السياسية التي وصفنا سردياتها، يمكن القول إن العنوان السياسي لخطاب الثورة هو اليوم أقرب إلى الطرح الذي تحاول قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) أن تقاربه بمستوى حراك يرصد إيقاع حياة سياسية سودانية مضطربة بفعل تجريف إجرامي للسياسة على مدى 30 عاماً، وهو تجريف أصبح اليوم أكثر عبئاً على مجتمع دولي يحاول قدر الإمكان التقاط خطوط السياسة وعقلنتها في طروحات الفرقاء السياسيين، ويختبر أكثر تلك الطروحات واقعية لاستئناف مرحلة انتقالية جديدة قد تنقذ البلاد من حافة الهاوية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل