Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أين أخطأت روسيا؟

هل يمكن لموسكو أن تتعلم من إخفاقاتها في أوكرانيا؟

مثلما بالغ الغرب في تقدير قدرات روسيا قبل الغزو، قد يقلل من شأنها اليوم (ألفارو بيرنيس)

ملخص

لماذا لم تنتصر روسيا في #أوكرانيا؟ لماذا أخرجت من المدن الكبرى؟ الإجابة، تنطوي على عناصر كثيرة، فاعتماد السرية لم يمنح القوات والقادة وقتاً كافياً للاستعداد، مما أدى إلى وقوع #خسائر_فادحة.

قبل ثلاثة أشهر من الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، عقد مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، والسفير الأميركي لدى روسيا، جون سوليفان، اجتماعاً في موسكو، مع نيكولاي باتروشيف، وهو مستشار متشدد ومتطرف للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. آنذاك، أبلغ كل من بيرنز وسوليفان باتروشيف أنهما على علم بخطط الغزو الروسي، وأن الغرب سيرد بإجراءات وخيمة في حال باشرت روسيا تنفيذ خططها. ووفقاً لبيرنز، لم ينبس باتروشيف ببنت شفة عن الغزو، وعوض ذلك، نظر مباشرة في أعينهما، ونقل ما اعتبره بيرنز رسالة مفادها أن الجيش الروسي يستطيع فعل ما يريده.

وما إن عادا إلى وطنهما، حتى أبلغ بيرنز وسوليفان الرئيس الأميركي جو بايدن أن موسكو اتخذت قرارها. وبعد وقت وجيز، بدأت واشنطن تحذر العالم علانية من أن روسيا ستهاجم أوكرانيا. وقبل ثلاثة أشهر من الغزو، كان الكرملين يعلم أن الولايات المتحدة اكتشفت خططه الحربية وأن العالم سيكون مستعداً للهجوم. وعلى رغم ذلك قرر بوتين إنكار نواياه أمام القوات الروسية ومعظم قادتها الكبار، وهم لم يعلموا بالغزو إلا قبل شنه بأيام، أو حتى ساعات معدودة. والحق أن السرية كانت غلطة. فهو، في تخطيطه للهجوم مع مجموعة ضيقة من المستشارين، قوض ميزات ومواضع قوة من المفترض أن تتمتع بها بلاده.

ومواضع نقاط القوة تلك كانت ضخمة. واعتبر الجيش الروسي، قبل الغزو، أكبر وأفضل تجهيزاً من الجيش الأوكراني، وتمتعت قواته بخبرة قتالية أكبر بالمقارنة مع جيش كييف، على رغم أن كليهما قاتل في الأراضي الشرقية لأوكرانيا، لذا افترض المحللون الغربيون، في معظمهم، أن الأوكرانيين لن يتمكنوا من الصمود أمام الهجوم مدة طويلة إذا استخدمت القوات الروسية ميزات تفوقها بحكمة.

ومن أهم الأسئلة التي باتت تطرح على نطاق أوسع في كل من السياسة الخارجية الأميركية والأمن الدولي، هو لماذا لم تنتصر روسيا؟ لماذا وئدت في مهدها وأخرجت من المدن الكبرى وحشرت في موقف دفاعي. أما الإجابة، فتنطوي على عناصر كثيرة. واعتماد السرية المفرطة في الداخل لم يمنح القوات والقادة وقتاً كافياً للاستعداد، مما أدى إلى وقوع خسائر فادحة. فروسيا رسمت خطة غزو مليئة بالافتراضات الخاطئة، والتوجيهات السياسية المتعسفة وأخطاء تخطيط انحرفت عن المبادئ العسكرية الروسية الرئيسة. وشن الغزو الأولي هجوماً على خطوط متعددة من دون توفير قوة لمتابعة الهجوم، ووجه الجيش إلى أهداف عملياتية مفرطة الطموح قياساً على حجمه. وفي الأثناء، ظن الكرملين مخطئاً أن خططه الحربية سليمة، وأن أوكرانيا لن تقاوم كثيراً، وأن دعم الغرب لن يكون قوياً بما يكفي لإحداث فرق. وكان أن صدمت روسيا عندما واجهت قواتها تصميم أوكرانيا المدعومة بالمعلومات الاستخباراتية والأسلحة الغربية. وهكذا، تعرضت القوات الروسية لهزائم متكررة.

ولكن مع استمرار الحرب في عامها الثاني، ليس من المفترض أن يركز المحللون على إخفاقات روسيا فحسب. فالأداء العسكري الروسي أكثر دقة مما توحي به روايات كثيرة تناولت الحرب في وقت مبكر. والقوات المسلحة الروسية لا تعتبر عديمة الكفاءة بالكامل أو غير قادرة على التعلم، بل في إمكانها تنفيذ أشكال من العمليات المعقدة، مثل الضربات الجماعية التي تعطل البنية التحتية الحيوية لأوكرانيا. وهي تجنبتها في الجزء الأول من الغزو، عندما كانت موسكو تأمل في الاستيلاء على الدولة الأوكرانية سليمة في معظمها. ويلاحظ أن الجيش الروسي تعلم من أخطائه، وأجرى تعديلات كبيرة، مثل تقليص أهدافه، وتعبئة جنود جدد، فضلاً عن التعديلات التكتيكية، مثل استخدام أدوات الحرب الإلكترونية التي تعوق الاتصالات العسكرية الأوكرانية من دون التأثير في الاتصالات العسكرية الروسية. والقوات الروسية قادرة أيضاً على المحافظة على قدرة قتالية أكثر حدة وكثافة قياساً على معظم الجيوش الأخرى. واعتباراً من ديسمبر (كانون الأول)، كان الجيش الروسي يطلق 20 ألف طلقة مدفعية يومياً أو أكثر (على رغم أن هذا الرقم انخفض إلى خمسة آلاف في أوائل عام 2023، وفقاً لشبكة (سي أن أن CNN). ومنذ الانتقال إلى وضعية الدفاع، في أواخر عام 2022، شرع يعمل بمزيد من التنسيق والاستقرار، صعب التقدم على القوات الأوكرانية.

إلا أن روسيا لا تزال غير قادرة على كسر إرادة القتال الأوكرانية، أو عرقلة الدعم الغربي في المواد والاستخبارات. ومن غير المرجح أن تحقق هدفها الأولي وهو تحويل أوكرانيا إلى دولة دمية، ولكنها تستطيع الاستمرار في تعديل استراتيجيتها، وترسيخ وجودها في الأماكن التي احتلتها في الجنوب والشرق، وأن تنتزع في النهاية نوعاً من الانتصار الضامر من بين فكي الهزيمة.

عام على حرب أوكرانيا
في 24 فبراير 2022، شنت روسيا هجوماً عسكرياً واسعاً على أوكرانيا، لمواجهة خطط توسع حلف شمال الأطلسي. بعد مرور عام، العالم بأسره يعاني من تداعيات الحرب فيما لا تلوح في الأفق أية نهاية قريبة للنزاع.
Enter
keywords

 

جهد هائل ولكن غير كاف

قبل بدء الحرب في أوكرانيا، واجه الجيش الروسي عدداً من المشكلات الهيكلية المعروفة، والمشكلة الواحدة منها قوضت قدرته على شن غزو كبير. فمنذ أكثر من عقد من الزمان، فككت موسكو جيشها عمداً، وحولته إلى قوة أصغر تقوم بعمليات الاستجابة السريعة، وقد تطلب هذا التحول تغييرات هائلة. وبعد الحرب العالمية الثانية، حافظ الاتحاد السوفياتي على قوة ضخمة مصممة لشن حروب متواصلة وواسعة في أوروبا وجند ملايين الجنود وأنشأ صناعة دفاعية ضخمة تهدد الناتو، وفرض الحكم الشيوعي في الدول الحليفة. وفي مرآة الاستعادة، عانى الجيش السوفياتي من الفساد المستشري، وكافح لإنتاج معدات على مستوى تلك التي ينتجها الغرب، ولكن حجمه، واتساع انتشاره جعلا من الحرب الباردة تحدياً هائلاً.

وعندما انهار النظام السوفياتي، لم يتمكن القادة الروس من إدارة مثل هذا الجيش الكبير أو تبرير وجوده. وتوارى احتمال نشوب حرب برية مع الناتو في طيات الماضي. واستجابة لهذا الوضع، بدأ قادة روسيا عملية الإصلاح والتحديث في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وكان الهدف هو إنشاء جيش أصغر حجماً، وأكثر احترافية وجهوزية، وعلى استعداد لقمع الاضطرابات في محيط روسيا بسرعة.

واستمرت هذه العملية، على نحو متقطع، في الألفية الجديدة. وفي عام 2008، أعلن الجيش الروسي عن برنامج إصلاح شامل يسمى "الزي الجديد" New Look، ويهدف إلى تجديد هيكلة القوة من خلال حل الوحدات، وتسريح الضباط المتقاعدين، وإصلاح برامج التدريب والتعليم العسكري، وتخصيص مزيد من الأموال لأمور مختلفة بما في ذلك زيادة عدد المجندين المحترفين، والتجهيز بأسلحة أحدث. واستبدلت روسيا، جزءاً من هذه العملية، بالفرق السوفياتية الكبيرة المصممة لخوض حروب برية كبرى ألوية أصغر حجماً، ومجموعات من الكتائب التكتيكية. وفي موازاة ذلك، قللت موسكو اعتمادها على المجندين قسراً.

فشلت جهود التحديث العسكري الروسي في استئصال الفساد

 

وفي عام 2020، بدا أن الجيش التزم عدداً من المعايير المطلوبة. وأعلن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن 70 في المئة من معدات بلاده كانت جديدة أو حدثت. وكان لدى البلاد ترسانة متنامية من الذخائر الدقيقة التقليدية، وصار عدد المجندين المحترفين في الجيش أكبر من المجندين قسراً. ونفذت روسيا عمليتين ناجحتين، واحدة في سوريا، دعماً لنظام بشار الأسد، والأخرى للاستيلاء على أراضٍ في شرق أوكرانيا.

ولكن غزو أوكرانيا عام 2022 الشامل كشف عن أن هذه الإصلاحات غير كافية، إذ إن عملية التحديث أهملت نظام التعبئة على سبيل المثال. ولم تؤد محاولات روسيا بناء أسلحة أفضل وتحسين التدريب إلى زيادة الكفاءة في ساحة المعركة، وبعض المعدات الجديدة ظاهراً، والتي أنتجتها المصانع الروسية، تشوبها عيوب كبيرة. وتعتبر نسبة إخفاق الصواريخ الروسية عالية، وتفتقر كثير من دباباتها إلى المعدات الدفاعية المناسبة، مما يجعلها شديدة الضعف تجاه الأسلحة المضادة للدبابات. وفي الوقت نفسه، قليلة هي الأدلة التي تشير إلى أن روسيا عدلت برامجها التدريبية قبل غزوها في فبراير (شباط) 2022 على نحو يعد القوات للمهام التي تنتظرها في أوكرانيا. والحق أن الخطوات التي اتخذتها روسيا استعداداً (للحرب) جعلت التدريب المناسب أكثر صعوبة. وحرم نشر عدد كبير من الوحدات بالقرب من الحدود الأوكرانية، قبل عام من الحرب تقريباً، والاحتفاظ بالمعدات في الميدان، الجيش الروسي وجنوده من القدرة على التدرب على المهارات المناسبة وإجراء صيانة للمعدات المطلوبة.

وفشلت جهود التحديث الروسية كذلك في استئصال الفساد، ولا تزال جوانب كثيرة من الحياة العسكرية الروسية تعانيه. وكثيراً ما عمدت القوات المسلحة، قبل الحرب، إلى تضخيم عدد الجنود في الوحدات الفردية، وذلك استيفاءً للنسبة المطلوب تجنيدها، مما سمح لبعض القادة بسرقة الأموال الفائضة. وإلى ذلك، يعاني الجيش نقصاً في المستلزمات، وتقارير التسلسل القيادي، من الرتب العليا والدنيا، غير موثوقة، فاعتقدت القيادة الروسية أن قواتها كانت أفضل من حالها فعلاً، من حيث العدد والكفاءة في بداية الغزو.

 

وربما ساعد التحديث روسيا في غزوها الأصغر لأوكرانيا [شرق البلاد] وحملاتها الجوية على سوريا في عام 2014، ولكن يبدو أنها لم تستفد من تجربتها العملياتية في أي من الصراعين. وفي كليهما، على سبيل المثال، كان لدى روسيا فرق من القوات الخاصة الأرضية مهمتها توجيه الضربات القادمة، وهو أمر تفتقر إليه في الحرب الحالية. وأنشأت روسيا آنذاك قيادة عمليات موحدة لم تشكلها في الغزو الحالي إلا بعد عدة أشهر من بدئه.

وفي حالة واحدة في الأقل، كانت جهود التحديث غير متناغمة في شكل فعال مع الحرب العنيفة. وكجزء من مخططه القاضي ببث الثقة في نفوس السكان الروس بعد حروبه في الشيشان، منع الكرملين المجندين الإجباريين الجدد من الخدمة في مناطق الحرب. وهذا يعني أن روسيا سحبت جنوداً محترفين من معظم الوحدات في جميع أنحاء البلاد، ونشرتهم على صورة مجموعات كتائب تكتيكية BTG لدعم غزوها أوكرانيا. وكانت هذه الخطوة في حد ذاتها قراراً مثيراً للشكوك والتساؤلات: حتى فرقة الكتيبة التكتيكية المجهزة بكامل عديدها وعتادها ليست قادرة على القتال مدة طويلة وبحدة على خطوط مواجهة تمتد على نطاق واسع، كما لاحظ عدد من الخبراء، بمن فيهم المحللان في الجيش الأميركي، تشارلز بارتلز وليستر غراو. ووفقاً للوثائق التي عثر عليها الجيش الأوكراني في الغزو، كثير من الوحدات التي غزت أوكرانيا عانى نقصاً في عدد العناصر، أي إن المعدات الروسية الأكثر حداثة وقدرة من الناحية الفنية لم تعمل بكامل طاقتها، إذ إن الطاقم الذي كان يشغلها لم يكن كاملاً. ولم يكن لدى الدولة ما يكفي من قوات المشاة والرصد والاستطلاع لتأمين الطرقات بشكل فعال وتجنب الأكمنة.

وربما فاجأت الإخفاقات المتحققة أشخاصاً كثيرين في أنحاء العالم، لكنها في المقابل لم تفاجئ عدداً كبيراً من الخبراء الذين يراقبون الجيش الروسي، فهم علموا من تقييم هيكل القوة في البلاد أنه لم يكن من المناسب إرسال قوة قوامها 190 ألف عنصر إلى دولة جارة كبيرة عبر خطوط هجوم متعددة، لذلك دهشوا حين أمر الكرملين الجيش بأن يفعل ذلك بالضبط.

توقعات عظيمة

ولفهم كيف أسهم تخطيط روسيا السيئ في تقويض أدائها ومزاياها، من المفيد أن نتخيل كيف كان غزو أوكرانيا ليبدأ لو اتبعت موسكو استراتيجيتها العسكرية المعتادة. فوفقاً للعقيدة الروسية، إن حرباً مثل هذه بين الدول يجب أن تبدأ بأسابيع من الهجمات الجوية والصاروخية على بنية العدو التحتية العسكرية والحيوية، في ما يسميه الاستراتيجيون "مقدمة الحرب". ويعتبر المخططون الروس هذه المدة مرحلة حاسمة في الحرب، وينفذون عمليات جوية وضربات صاروخية، تستمر ما بين أربعة وستة أسابيع، هدفها تقويض إمكانات العدو العسكرية وقدرته على المقاومة. ووفقاً للنظرية الروسية، بعد أن تكون القوات الجوية والهجمات الصاروخية أصابت عدداً كبيراً من أهدافها، تنشر القوات البرية عادة من أجل ضمان أمن هذه الأهداف.

وشنت القوات الجوية الروسية (VKS) ضربات على المواقع الأوكرانية في بداية الحرب، ولكنها لم تهاجم البنية التحتية الحيوية في شكل منهجي، ربما لأن الروس اعتقدوا أنهم سيحتاجون إلى إدارة أوكرانيا بسرعة، وأرادوا الحفاظ على منشآت قيادة سليمة وشبكة كهرباء شغالة، وتجنب ردود فعل (عدائية) من السكان الأوكرانيين. ولسوء حظه، أرسل الجيش الروسي قواته البرية في اليوم الأول، عوضاً عن الانتظار والقيام بالعملية بعد تأمين الطرق، وشل الوحدات الأوكرانية. فكانت النتيجة كارثية، وسارعت القوات الروسية إلى تلبية ما اعتقدت أنه أوامر بالوصول إلى مناطق معينة في أوقات محددة، وتخطت قدراتها اللوجيستية، ووجدت نفسها محاصرة من قبل الوحدات الأوكرانية في مواضع محددة، ثم تعرضت للقصف بلا هوادة بالمدفعية والأسلحة المضادة للدروع.

وقررت موسكو أن ترسل جميع قواتها المحترفة البرية والجوية تقريباً في هجوم واحد متعدد المحاور. ويتعارض هذا مع تقليد الجيش الروسي الذي يستخدم القوات من سيبيريا والشرق الأقصى الروسي كخط هجوم ثانٍ، أو كاحتياطي استراتيجي. ولم يكن هذا القرار منطقياً من الناحية العسكرية. وفي محاولة الاستيلاء على أجزاء عدة من أوكرانيا في وقت واحد، وسعت روسيا نطاق أنظمة الدعم واللوجيستيات إلى حد الانهيار. ولو شنت روسيا ضربات جوية وصاروخية قبل أيام أو أسابيع من إرسال قوات برية، وهاجمت على خط جبهة أقل نطاقاً، واحتفظت بقوات احتياطية كبيرة، لربما بدا غزوها مختلفاً. وفي هذه الحال، كانت اللوجيستيات الروسية لتكون أبسط، ونيرانها مركزة، ووحداتها المهاجمة أقل انكشافاً، وربما كانت لتهزم مجموعات الدفاعات الجوية الأوكرانية المحلية.

وسعت موسكو نطاق أنظمتها اللوجيستية وأنظمة الدعم إلى حد الانهيار

 

الصعب أن نعرف على وجه الضبط لماذا انحرفت روسيا بشدة عن مبادئها العسكرية (وعن المنطق). ويبدو أن هناك سبباً واحداً واضحاً وهو تدخل الكرملين السياسي. وبحسب المعلومات التي حصل عليها صحافيون في واشنطن بوست، لم يخطط للحرب إلا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأقرب المقربين إليه في أجهزة الاستخبارات والقوات المسلحة والكرملين. ووفق هذه الروايات، دعا هذا الفريق إلى شن غزو سريع على عدد من الجبهات، والاندفاع الأهوج إلى كييف من أجل تحييد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، إما اغتيالاً وإما خطفاً، وبناء شبكة من المتعاونين الذين يتولون إدارة حكومة جديدة، وهي خطوات، لو علمت بها مجموعة أوسع وأكثر خبرة من المخططين، لأوضحت أنها لن تنجح.

ومن الواضح أن أفكار الكرملين كانت غير فعالة. وعلى رغم ذلك، أرجأ تصحيحات مهمة في مسار الحرب، ربما لأنه اعتقد أنها لن تحظى بشعبية سياسية في الداخل. فعلى سبيل المثال، حاول الكرملين جذب متطوعين موقتين في أوائل الصيف وسد الثغرات الناتجة عن الخسائر الفادحة في ساحة المعركة بهم، وهذا الجهد اجتذب عدداً قليلاً جداً من الأفراد. ولم تأمر موسكو بالتعبئة إلا بعد انهيار الجبهة العسكرية في خاركيف في سبتمبر (أيلول). وفي وقت لاحق، لم يسمح الكرملين بانسحاب القوات الروسية من مدينة خيرسون إلا بعد أشهر من عجزها عن الدفاع عن مواقعها، مضحياً بأرواح الآلاف من العناصر.

كيف خدعت روسيا نفسها؟

وقبل الحروب وفي أثنائها، تعتمد الدول على أمن العمليات، أو ما يعرف بـOPSEC، من أجل الحفاظ على سرية الجوانب الحاسمة في خططها وتقليل نقاط ضعف قواتها. وفي بعض الأحوال، يستلزم ذلك الخداع. وفي الحرب العالمية الثانية، على سبيل المثال، وضع الحلفاء قوات ومعدات زائفة على مجموعة من الشواطئ في جنوب المملكة المتحدة لإرباك تخمين النازيين الموقع الذي سيستخدم لشن هجوم. وفي أحوال أخرى، يقتضي أمن العمليات الحد من نشر خطط الحرب داخلياً من أجل تقليل أخطار فضحها علناً. وعلى سبيل المثال، استعداداً لـ"عملية عاصفة الصحراء" Operation Desert Storm، تلقى الطيارون الأميركيون الذين كلفوا لاحقاً بالقضاء على الدفاعات الجوية العراقية تدريباً لعدة أشهر من أجل تنفيذ مثل هذه الضربات، ولكن لم يبلغهم أحد ما أهدافهم المحددة إلا قبل أيام من بدء الهجوم.

وعلى خلاف ذلك، أعلن عن خطط الكرملين الحربية قبل أشهر من الحرب. وكما أفاد عدد من المنصات الإخبارية، بما في ذلك صحيفة نيويورك تايمز وصحيفة واشنطن بوست، كشفت وكالات الاستخبارات الأميركية عن مخططات تفصيلية ودقيقة لخطط روسيا، ثم شاركتها مع وسائل الإعلام، وكذلك مع الحلفاء والشركاء. وعوضاً عن إلغاء الغزو، أصر الكرملين أمام الصحافيين والدبلوماسيين على أن المجموعات الكبيرة من القوات المحتشدة على حدود أوكرانيا كانت هناك بهدف التدرب، ولا تنوي مهاجمة جارتها. وهذه المزاعم لم تخدع الغرب، بل خدعت معظم الروس، بمن فيهم أولئك الملتحقون بالقوات المسلحة. وحجب الكرملين خططه الحربية عن المعنيين العسكريين على مختلف المستويات، من الجنود والطيارين إلى الضباط العامين، وتفاجأ عدد من جنود القوات والمسؤولين عندما تلقوا أوامر بالغزو. وفي هذا الإطار، أصدر المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، وهو مركز بحوث بريطاني متخصص في شؤون الدفاع والأمن، تقريراً حديثاً استند إلى عمل ميداني مكثف ومقابلات مع مسؤولين أوكرانيين، وجد أنه حتى كبار أعضاء هيئة الأركان العامة الروسية لم يطلعوا على خطط الغزو إلا قبل وقت قصير من بدئه.

 

 

وبما أن معظم القادة العسكريين لم يشاركوا في التخطيط سوى في اللحظة الأخيرة، لم يتمكنوا من تصحيح الأخطاء الجسيمة. ويبدو أن الحكومة لم تمر في ما يشار إليه في الاستراتيجية الروسية بـ"وقت خاص"، أي الوقت المخصص لتصنيف الموارد وتخزينها وتنظيمها في سبيل خوض حرب كبرى، وذلك لأن مخططيها لم يعلموا أنهم يحتاجون إلى الاستعداد لها. كانت السرية المفرطة تعني أن موسكو فوتت عدداً من الفرص الرئيسة التي تخولها إعداد قطاعها الدفاعي وإنتاج الذخيرة الأساسية وتخزينها. وحتى بعد تجمعها بالقرب من أوكرانيا، لم تزود الوحدات الروسية بالمقادير المناسبة من العناصر أو الإمدادات، وذلك على الأرجح لأن المخططين اعتقدوا أن القوات كانت تجري عمليات تدريبية. وبما أن الجيش لم يكن لديه الوقت الكافي لتنسيق أنظمة حربها الإلكترونية الخاصة، شوشت على اتصالاتها عندما حاولت القوات الروسية التشويش على الاتصالات الأوكرانية.

وأدت السرية قبل الحرب إلى وقوع مشكلات تجلت بوضوح في النطاق الجوي. فقبل الغزو، اكتسب الطيارون الروس خبرة قتالية في سوريا، ولكن العمليات هناك جرت على أرض غير متنازعة، وغالباً في الصحراء. إذاً، لم يكن لدى الطيارين أي خبرة تقريباً على القتال في بلد أكبر مليء بالغابات، ناهيك بمواجهة خصم قادر على ضرب طائراتهم بدفاع جوي متعدد المستويات. وكان تدريبهم على تكتيكات من هذا النوع، قبل الغزو، قليلاً أو معدوماً. وهذا النقص في الخبرة يعتبر إلى حد ما سبب عدم قدرة روسيا على تفكيك القوات الجوية الأوكرانية أو الدفاعات الجوية، على رغم تحليقها أحياناً بمئات المهام يومياً. وكان العامل الآخر هو الطريقة التي قررت بها روسيا استخدام قواتها. ونظراً إلى أن القوات البرية الروسية تعرضت لخطر شديد طوال أيام، أعيد تغيير مهمة القوات الجوية الروسية VKS، بسرعة، من شل الدفاعات الجوية الأوكرانية إلى توفير دعم جوي قريب، وفقاً لتحليل المعهد الملكي للخدمات المتحدة. وفي الواقع، أسهم هذا التعديل في منع روسيا من التفوق جواً، وأجبر الروس على التحليق على ارتفاعات منخفضة، وفي مرمى صواريخ ستينغر الأوكرانية. ونتيجة لذلك فقدوا مروحيات وطائرات مقاتلة كثيرة.

ولم تكن السرية والأكاذيب قبل الحرب هي الطريقة الوحيدة التي خدع بها الكرملين نفسه. فما إن اندفعت القوات نحو كييف، فقدت موسكو القدرة على إنكار حقيقة أنها تشن غزواً. واستمرت أشهراً في التعتيم على الصراع، أو تأخير قرارات مهمة بأساليب أضرت بعملياتها. وأساساً، رفضت روسيا تصنيف الغزو حرباً، وعوضاً عن ذلك وصفته بأنه "عملية عسكرية خاصة". وهذا القرار الذي اتخذ إما لتهدئة الشعب الروسي، وإما لأن الكرملين افترض أن الصراع سينتهي في سرعة، منع البلاد من تنفيذ قواعد إدارية كانت لتسمح بالوصول السريع إلى الموارد القانونية والاقتصادية والمادية التي تحتاج إليها في دعم الغزو. وخلال الأشهر الستة الأولى في الأقل، أسهم هذا التصنيف الخاطئ للغزو في تسهيل استقالة الجنود أو رفضهم القتال من دون مواجهة تهم بالفرار.

تجاهل ولا مبالاة

ويبدو أن الحكومة الروسية افترضت أن الأوكرانيين لن يقاوموا، وأن الجيش الأوكراني سوف ينهار، وأن الغرب لن يكون قادراً على مساعدة كييف في الوقت المناسب. ولم تكن هذه الاستنتاجات واهية بالكامل. ووفقاً لصحيفة واشنطن بوست، أجرت أجهزة الاستخبارات الروسية استطلاعات رأي سرية خاصة قبل الحرب تشير إلى أن 48 في المئة فقط من السكان كانوا "على استعداد للدفاع" عن أوكرانيا. وبلغت نسبة تأييد زيلينسكي أقل من 30 في المئة عشية الحرب. وكان لدى وكالات الاستخبارات الروسية شبكة تجسس واسعة داخل أوكرانيا تعمل من أجل تشكيل حكومة متعاونة (اعتقلت أوكرانيا لاحقاً 651 شخص  بتهمة الخيانة والتعاون مع العدو، بما في ذلك عدد من المسؤولين في أجهزتها الأمنية). وربما افترض المخططون الروس أيضاً أن القوات الأوكرانية لن تكون جاهزة لأن الحكومة الأوكرانية لم تعلن حال الحرب إلا قبل أسابيع قليلة من الغزو. ومن المحتمل أنهم اعتقدوا أن ذخائر المدفعية الأوكرانية ستنفد بسرعة. وقياساً على رد الغرب على ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، وتوافر كمية أسلحة قليلة نسبياً في المدة التي سبقت الحرب في عام 2022، ربما افترضت موسكو، في شكل معقول، أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تقدما دعماً كبيراً لأوكرانيا، أو في الأقل ليس في الوقت المناسب.

والحق أن الكرملين قوم مجموعة البيانات التي أتاحت له ببساطة رؤية ما يرغب في رؤيته. والاستطلاع نفسه الذي أجرته أجهزة الاستخبارات مثلاً نبه إلى أن 84 في المئة من المشاركين الأوكرانيين سيعتبرون أن القوات الروسية هي قوات احتلال وليست قوات تحرير. والولايات المتحدة وحلفاؤها نشروا خطط روسيا، ومحاولاتها المختلفة الرامية إلى افتعال ذريعة للغزو، وحذروا روسيا في السر والعلن من أن البلاد ستواجه تداعيات هائلة إذا بدأت الحرب. وعلى رغم ذلك، فمن الواضح أن أحداً في الدائرة المقربة من بوتين لم يقنعه بضرورة مراجعة نهج روسيا والاستعداد لصراع من نوع مختلف وأكثر صعوبة: صراع قد يبدي فيه الأوكرانيون مقاومة ويتلقون مساعدة غربية كبيرة.

يسعى بوتين بجهد إلى إطالة أمد الحرب

وفعلاً، هذا هو الصراع الذي حدث على وجه الضبط. فاحتشد الأوكرانيون للدفاع عن سيادتهم، والتحقوا بالجيش، وأنشأوا وحدات دفاع عن أراضيهم قاومت الروس. أما زيلينسكي، وهو لم يكن يحظى بشعبية على المستوى المحلي قبل الغزو، فارتفعت معدلات الأصوات المؤيدة له واعتُرف به عالمياً قائداً في زمن الحرب. ونجحت الحكومة الأوكرانية في الحصول على مساعدات تاريخية من الغرب. ومنذ أواخر يناير 2023، قدمت الولايات المتحدة 26.8 مليار دولار كمساعدة أمنية لأوكرانيا منذ الغزو الروسي، وأسهمت الدول الأوروبية بمليارات أخرى. وإلى ذلك، زود الأوكرانيون بالدروع الواقية من الرصاص، وأنظمة الدفاع الجوي والمروحيات ومدفعية أم777 M777، وأنظمة الراجمات الصاروخية العالية الحركة (هيمارس) (HIMARS). وحصلوا على دبابات غربية. ومكن توفير هذه الأسلحة الضخمة والمتنوعة القوات الأوكرانية من التفوق على قوات موسكو من زاوية معرفة ميدان الحرب في أثناء اندفاع روسيا الأولي إلى كييف، وسمح لأوكرانيا بشن ضربات دقيقة على المستودعات اللوجيستية الروسية ومراكز القيادة في مناطقها الشرقية.

وفي الأثناء، بدأت واشنطن تقدم إلى كييف سيلاً مما وصفته كاثلين هيكس، نائبة وزير الدفاع الأميركي، بالمعلومات الاستخباراتية "الحيوية" و"العالية الجودة". واعتبر مدير وكالة استخبارات الدفاع الأميركية أن تبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا كان "ثورياً" [غير مسبوق] بطبيعته. وفي المقابل، قال مدير إدارة الأمن القومي والقيادة الإلكترونية الأميركية بأنه لم يشهد قط مثالاً أفضل لمشاركة المعلومات الاستخباراتية خلال 35 عاماً من الخدمة الحكومية (وأعلن البنتاغون أن الولايات المتحدة لا تنقل معلومات استخباراتية عن مواقع كبار القادة ولا تشارك في قرارات الهجوم الأوكرانية).

واعتبرت مشاركة المعلومات الاستخباراتية هذه فائقة الأهمية في مسائل محورية في الحرب. وفي شهادة أمام الكونغرس، قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بيرنز، إنه أبلغ زيلينسكي بالهجوم على كييف قبل الحرب، وأن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين حذر زيلينسكي شخصياً من التهديدات الروسية التي تطاله. وأعطت هذه التنبيهات أوكرانيا وقتاً لإعداد دفاع كان ضرورياً من أجل حماية العاصمة وزيلينسكي. ووفقاً لمسؤولين دفاعيين كبار، دعمت الولايات المتحدة التخطيط والمحاكاة الحربية في الهجومين الأوكرانيين المضادين في سبتمبر، في خاركيف وخيرسون، وكلاهما تكلل بنجاح هائل.

الدب الروسي يتعلم

وكان لمناصري أوكرانيا أسباب كثيرة تدعوهم إلى الاحتفال في عام 2022، وظهرت مشاهد مفرحة في الأراضي الأوكرانية المحررة. وتبع ذلك مشاهد صعبة. فكشف محققون أوكرانيون ودوليون عن أدلة على وقوع جرائم حرب في مدن حررت مثل بوتشا وإيزيوم وخيرسون. وعلى رغم الآمال بحدوث ذلك، فمن السابق لأوانه القول إن حملة روسيا ستنهار. ومن المؤكد أن بوتين يسعى جاهداً في إطالة أمد الحرب. وعلى رغم عطب الجيش الروسي، فهو لا يزال قادراً على القيام بعمليات معقدة، وعلى التعلم والتكيف، وتحمل مستوى من القتال لا تستطيع سوى قلة من الجيوش في العالم تحمله. والحرب الطويلة، والشديدة الحدة، والعالية الاستنزاف، التي تستخدم فيها كل الأسلحة معاً، تعد حرباً صعبة للغاية. ومقارنة بدول أخرى في العالم، اكتسبت روسيا وأوكرانيا تجربة فريدة في هذا النوع من الحروب.

فلنأخذ، على سبيل المثال، القوات الجوية الروسية. فعلى رغم أن طياريها فشلوا في القضاء على الدفاعات الجوية الأوكرانية، على المحللين أن يتذكروا أن مهام من هذا النوع صعبة وتستغرق وقتاً طويلاً، على ما لاحظ الطيارون الأميركيون. والقوات الجوية الروسية تتعلم دروساً وتستفيد منها. فعوضاً عن الاستمرار في إهدار الطائرات وإرسالها في مهام أكثر دقة وأقل فاعلية، تحاول هذه الطائرات إضعاف الدفاعات الجوية الأوكرانية من طريق استخدام صواريخ منزوعة الرؤوس الحربية، من الحقبة السوفياتية، وطائرات "شاهد" من دون طيار ابتيعت من إيران.

ويبدو أن الجيش الروسي يحسن أداء واحدة من أخطر المناورات العسكرية على الإطلاق: عبور الأنهار تحت مرمى النيران. وتقتضي مثل هذه العمليات انسحابات مدروسة، وانضباطاً، وخططاً لحماية القوات، وتسلسلاً دقيقاً لا تتطلبه سوى قلة من المناورات الأخرى. وإذا نفذت هذه العمليات بشكل سيئ، فقد يقتل كثير من الجنود. وفي مايو (أيار) 2022، دمر الجيش الأوكراني كتيبة تكتيكية روسية أثناء محاولتها عبور نهر دونيتس، ولكن انسحاب الجيش في نوفمبر (تشرين الثاني) عبر نهر دنيبر كان سلساً نسبياً. ويرجع ذلك، جزئياً، إلى أنه كان مدروساً بشكل أفضل. وعلى رغم تعرضهم لنيران المدفعية، نجح آلاف المجندين في القوات الروسية من الانسحاب شرقاً.

وتعلمت روسيا تصحيح أخطاء الماضي في مجالات أخرى. وفي أواخر الربيع، نجحت القوات الروسية أخيراً في التشويش على الاتصالات الأوكرانية من دون التشويش على اتصالاتها الخاصة. وخلال شهر سبتمبر، أعلن الكرملين عن تعبئة جزئية تعوض النقص في عدد عناصر الجيش، وضم 300 ألف مجند إجباري إلى القوات المسلحة. وكانت العملية فوضوية، ولم يتلق هؤلاء الجنود الجدد تدريباً جيداً، ولكن هذه القوات الجديدة ترابط اليوم في شرق أوكرانيا، حيث تعزز المواقع الدفاعية، وتساعد الوحدات المنهكة في مهام بسيطة وحيوية. وتسعى الحكومة إلى تهيئة الاقتصاد الروسي لحال الحرب تدريجاً، وهذا يسهم في إعداد الدولة لصراع طويل.

والحق أن هذه التعديلات تؤتي ثمارها. وربما تتعرض القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية لضغوط بسبب العقوبات وقيود الاستيراد، ولكن مصانعها سليمة، وتعمل على مدى الساعة لمواكبة الطلب. ومع أن روسيا تعاني نقصاً في الصواريخ، إلا أنها وسعت مخزونها بواسطة تعديل صواريخ كروز المضادة للسفن وصواريخ الدفاع الجوي بما يناسب حاجاتها. ولم ينجح الجيش الروسي بعد في تحسين عملية تقييم أضرار المعركة، أو في تعزيز قدرته على إصابة أهداف متحركة، لكنه أصبح قادراً على ضرب الشبكة الكهربائية الأوكرانية بدقة. ومنذ يناير 2023، دمرت الضربات الروسية ما يقرب من 40 في المئة من بنية الطاقة التحتية في أوكرانيا، مما أدى، في وقت من الأوقات، إلى انقطاع التيار الكهربائي عن أكثر من 10 ملايين شخص.

وكانت وتيرة التعلم لدى الأوكرانيين سريعة كذلك، فتمكنوا بالتجربة من إبقاء القوات الروسية في حال من الاختلال. وأظهر الجيش إبداعاً في تخطيطه، وضرب القواعد الجوية الروسية وأسطول البحر الأسود. واكتسب الطيارون والجنود الأوكرانيون، مثلهم مثل الروس، خبرة قتالية استثنائية وفريدة من نوعها. واستفادت أوكرانيا من الدعم الخارجي أكثر من روسيا.

 

يطمح الكرملين إلى القيام بأكثر من مجرد الاحتفاظ بالأرض التي سبق أن استولى عليها

 

ولكن القوات الروسية نجحت في التكيف والتجربة عندما اتخذت وضعاً دفاعياً. وبعد أسابيع من هجمات هيمارس HIMARS المدمرة في أثناء صيف عام 2022، نقلت روسيا مواقع قيادتها وعدداً من مستودعات الخدمات اللوجيستية خارج مرمى النيران. وأظهرت القوات الروسية كفاءة في الدفاع أكثر منها في الهجوم، لا سيما في الجنوب، حيث أنشأت دفاعات متعددة المستويات كان من الصعب على القوات الأوكرانية اختراقها. وكان الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي عين قائداً عاماً للقوات الروسية في أكتوبر (تشرين الأول)، يشغل في السابق منصب قائد مجموعة العمليات الجنوبية. ونقل هذه التجربة إلى مناطق أخرى تحتلها روسيا جزئياً، فقامت القوات بحفر خنادق عريضة وأنشأت مواقع دفاعية أخرى.

وروسيا لم تنسحب من مدينة خيرسون وتنتقل إلى الدفاع إلا بعد تعيين سوروفيكين قائداً للحرب. وشرع بوتين في الاعتراف بأن الصراع سيكون صعباً حال تولي سوروفيكين زمام الأمور. وتشير هذه التغييرات إلى أن بوتين ربما تلقى تقويماً أقرب إلى الوقائع في أوكرانيا في عهد سوروفيكين.

وفي يناير 2023، خفضت رتبة سوروفيكين ليحل مكانه الجنرال فاليري غيراسيموف. وعلى رغم أن أسباب هذا التغيير في القيادة غير واضحة، وقد لا يكون لذلك علاقة بفشل محدد في قيادة سوروفيكين، ويتعلق بمكائد القصر ومحسوبياته. ولم يتمكن أي قائد روسي من كسر إرادة أوكرانيا القتالية على رغم استمرار روسيا في إطلاق صواريخ تسبب المعاناة للشعب الأوكراني، ولكن عمليات القصف والتحصين قد تقوض قدرة أوكرانيا، وتجعل من الصعب على البلاد استعادة مزيد من أراضيها.

مجهولات معروفة

يطمح الكرملين إلى القيام بأكثر من مجرد الاحتفاظ بالأرض التي سبق أن استولى عليها. وأوضح بوتين أنه يريد جمع المقاطعات الأربع التي ضمتها موسكو في شكل غير قانوني في سبتمبر، أي دونيتسك، وخيرسون، ولوغانسك، وزابوريجيا. وفي اجتماع متلفز في ديسمبر الماضي، أشار إلى أنه مستعد لخوض "عملية طويلة" للحصول عليها. وتظهر أهداف بوتين التي أصبحت أكثر تواضعاً، والصراحة المفاجئة في شأن وقت الحملة، أن الكرملين قادر على التكيف مع وضعه المتراجع وتهيئة مواطنيه لحرب طويلة. إذاً، وعلى هذا، فإما أن روسيا تتطور أو تكسب الوقت إلى أن تتمكن من تجديد قواها. والسؤال هو هل ستكون تلك التغييرات كافية؟

وثمة أسباب تدعو إلى الاعتقاد أن هذه التغييرات لن تنقذ وضع روسيا العسكري، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن هناك أشياء كثيرة في حاجة إلى التعديل، ولا يفسر عامل واحد لماذا سارت حرب روسيا على هذا النحو السيئ إلى اليوم. ويشمل التعليل مشكلات من العسير معالجتها لأنها مستعصية على الحل في إطار النظام الروسي، مثل الخداع المدمر للذات الذي يظهر في قرار الكرملين التمسك بأولوية السرية والاستقرار الداخلي على حساب التخطيط المناسب.

وأصرت موسكو على إسكات المناقشات الصريحة حول الصراع، حتى إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك، فجرمت تخمين عدد القتلى في المعارك وتوقعات ما سيحدث في الحرب. وعلى رغم أنه يمكن للمسؤولين الكلام بأمان في بعض القضايا، على غرار دعوة القادة العسكريين الروس إلى زيادة عدد القوات المسلحة، فإن مسائل أخرى لا يزال تناولها محظوراً، بما فيها القضايا الكبرى مثل عدم الكفاءة ورداءة أطر القيادة المؤدية إلى المشكلات الفظيعة التي واجهها الجيش داخل أوكرانيا. وهذه الرقابة تجعل من الصعب على الكرملين الحصول على معلومات دقيقة عن مكامن الأخطاء في الحرب، وهذا يعقد الجهود الرامية إلى تصحيح المسار.

وبعض المشكلات الرئيسة التي تعانيها روسيا هي إلى حد بعيد، خارج نطاق سيطرة موسكو. فعزيمة أوكرانيا ضد روسيا تشتد، وهذا أمر لا يمكن أن يسيطر عليه الجيش الروسي، على رغم وحشيته. وروسيا لم تقدر أو لم ترغب في اعتراض تدفق الأسلحة الغربية أو المعلومات الاستخباراتية إلى أوكرانيا. وطالما أن هذين العاملين، أي العزم الأوكراني والدعم الغربي، قائمان، فلن يتمكن الكرملين من تحويل أوكرانيا إلى دولة دمية، وهو ما كانت تسعى إليه في الأصل.

مثلما بالغ الغرب في تقدير الروس، يمكنه الآن التقليل من شأنهم.

لكن الجيش الروسي صحح بعض المشكلات المهمة. ولأجل التغلب على خطة سيئة، أصلح هيكله القيادي، وغير عدداً كبيراً من تكتيكاته. وعزز مواقعه في أوكرانيا بعد خسائر فادحة، وجند في الوقت نفسه مزيداً من الجنود، مما يجعل الهجمات المضادة الأوكرانية أكثر كلفة. وعلاوة على ذلك، أعلن القادة العسكريون الروس عزمهم على إعادة عدد كبير من الوحدات الأكبر التي كانت موجودة قبل إصلاحات عام 2008 لكي تصحح جزئياً مشكلات هيكل القوة. وفيما يستعد الاقتصاد الروسي لهذه المرحلة، يمكن للقاعدة الدفاعية أن تنتج بشكل أفضل مزيداً من المعدات لتعويض خسائر الحرب. وفي غضون ذلك، تستنزف الصناعات الدفاعية الغربية جرار المطالبة المستمرة والمتجددة بدعم أوكرانيا. وقد يتبين من الحسابات التي تجريها روسيا أنها تستطيع تعزيز موقعها بينما تماطل، وتكسب الوقت إلى أن تنفد الإمدادات الغربية أو يمضي العالم قدماً.

وعلى المحللين توخي الحذر في شأن التنبؤ بالنتائج. فالقول المأثور التقليدي قد يصح: في الحرب، غالباً ما تكون التقارير الأولى خاطئة أو مجتزأة. والوقت وحده كفيل بإعلامنا ما إذا كانت روسيا قادرة على إنقاذ غزوها أو ما إذا كانت القوات الأوكرانية ستنتصر. لقد انتهج الصراع بالفعل مساراً لا يمكن التنبؤ به. وعلى الغرب تجنب إصدار أحكام متسرعة في الخطأ الذي حدث في حملة روسيا، خشية تعلم الدروس الخاطئة، أو وضع استراتيجيات غير دقيقة، أو الحصول على أنواع خاطئة من الأسلحة. ومثلما بالغ الغرب في تقدير قدرات روسيا قبل الغزو، قد يقلل من شأنها اليوم. ويمكنه أيضاً أن يبالغ في تقدير نظام مغلق، على غرار الجيش الصيني، على النحو نفسه. ويستغرق الأمر وقتاً قبل معرفة كيف يتكيف المقاتل ويغير تكتيكاته.

ولكن ينبغي ألا يتخلص الخبراء من الأدوات التي يستخدمونها الآن لتقويم القوة العسكرية. فكثير من المعايير والمقاييس الموحدة، على غرار الطريقة المعتمدة في هيكلة القوة والمواصفات الفنية الخاصة بأسلحتها وجودة برامجها التدريبية، لا تزال صالحة. ولكن، على رغم أهمية هذه العوامل، إلى عوامل أخرى مثل عقيدة الجيش والعمليات السابقة، فإنها ليست بالضرورة تنبئية. وكما أوضحت هذه الحرب، وغيرها من النزاعات الأخيرة، فإذا كان المحللون يريدون أن يتوقعوا حجم القوة بدقة، وأن يخططوا للصراعات المستقبلية، فهم يحتاجون إلى طرق أفضل يعتمدونها في قياس العناصر غير الملموسة للقدرة العسكرية، مثل ثقافة الجيش، وقدرته على التعلم، ومستوى الفساد، ورغبته في القتال.

ولسوء الحظ، من المحتمل أن يحظى المحللون بمتسع من الوقت من أجل تطوير هذه المقاييس وصقلها. لأنه على رغم حال عدم اليقين المسيطرة، بات من الواضح أنه مع استمرار روسيا في الإعداد والاستباق، ومع ثبات كييف وأنصارها على مواقفهم، من المتوقع أن تطول الحرب.

*دارا ماسيكوت هي باحثة بارزة في السياسات في مؤسسة راند للبحوث والتطوير RAND. وقبل انضمامها إلى راند، عملت كمحللة بارزة للقدرات العسكرية الروسية في وزارة الدفاع.

مترجم من فورين أفيرز، مارس (آذار)/ أبريل (نيسان) 2023

المزيد من آراء