أعادت زيارة وزير الخارجية الروسي #سيرغي_لافروف الأخيرة إلى #السودان قضية القاعدة العسكرية البحرية الروسية على ساحل البحر الأحمر شرق البلاد، بقاعدة "فلامنغو" السودانية، مرة أخرى إلى واجهة الأحداث، كقضية قديمة متجددة ما يزال يلفها كثير من الغموض، وسط مؤشرات توحي إلى أن خطوات المضي بالمشروع إلى الأمام تواجه عقبات سياسية وعراقيل وتعقيدات قانونية، من جانب السودان.
فما مصير وفرص إتمام قيام هذه القاعدة؟ وهل ينتقل موقف السودان من التجميد إلى صرف النظر عنها بصفة نهائية في ظل الضغوط والصراع الروسي - الغربي والتطورات السياسية المرتقبة؟
تهافت ومناورات
وكانت زيارة لافروف الأخيرة إلى الخرطوم، قد عادت بالمشروع إلى الأضواء من جديد بعد طول غموض وصمت وتكتم، وتزامنت مع زيارة مشتركة لعدد من المبعوثين الغربيين الدوليين من كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للسودان.
ويرى محللون ومراقبون أن الرغبة الروسية الملحة في إقامة قاعدة عسكرية بحرية على ساحل البحر الأحمر في السودان، لا تنفصل عن سياق مخطط تغلغلها في العمق الأفريقي، والرغبة الروسية تنسحب على طموح الأميركيين بتعزيز نفوذهم داخل القارة الأفريقية بوصفها سوقاً للسلاح ومصدراً مستقبلياً ضخماً للموارد والثروات الطبيعية.
ويعتبر البعض أن تعلل الحكومة السودانية بحجة ضرورة المصادقة التشريعية على الاتفاقية في ظل غياب المجلس التشريعي نفسه، نوع من المماطلة والتملص منها، بخاصة في ظل الضغوط الأميركية والغربية التي تواجهها الخرطوم بشأن هذا الاتفاق الذي أثار مبكراً غضب تلك الدول. ويرى أن الحكومة الانتقالية السابقة إنما هدفت من التوجه ألأخير شرقاً نحو روسيا إلى المناورة ولفت نظر الولايات المتحدة كونها لم تقدم عوناً محسوساً لحكومة الانتقال حتى تتمكن من تجاوز أزماتها الاقتصادية والسياسية، لكن الحكومة حرصت في الوقت نفسه على عدم إثارة غضب الولايات المتحدة، ما يشير إلى أنها تنظر للأمر من زاوية تكتيكية أكثر منها استراتيجية بعيدة المدى، باعتبار أن مصالح السودان ظلت ترتبط بشكل وثيق بالنفوذ الغربي منذ أمد بعيد.
ماذا بعد التجميد؟
في السياق ذاته، قال المتخصص بإدارة الأزمات الباحث في الشؤون العسكرية إسماعيل مجذوب، إن روسيا كانت قد شرعت بالفعل في بناء القاعدة اعتماداً على تعهدات والتزام الرئيس السوداني المعزول عمر البشير، والتأكيد على الاتفاق بمنحها مساحة في قاعدة "فلامنغو" البحرية بالبحر الأحمر خلال زيارة بعض المسؤولين في مجلس السيادة الانتقالي الحالي إلى روسيا في العامين الماضيين.
وأضاف "في ضوء ذلك، وصلت إلى المنطقة قوات وخبراء من روسيا (حوالى 300 عنصر) بدأوا بخطوات التنفيذ عبر نصب المعدات الخاصة بهوائيات الاتصالات، إلا أن قراراً صدر لهم بإخلاء القاعدة، ثم تطور الأمر إلى أن صرح رئيس هيئة الأركان السوداني الفريق أول ركن محمد عثمان الحسين أن الاتفاقية جمدت على أن تعرض على المجلس التشريعي بعد تكوينه".
وأكد الباحث في الشؤون العسكرية أن الاتصالات بين البلدين لم تتوقف مدعومة بالزيارات التي قام بها بعض المسؤولين السودانيين إلى روسيا، منهم وزيرة الخارجية السابقة مريم الصادق المهدي، ووزير الدفاع ياسين إبراهيم ياسين للمشاركة في مؤتمر الأمن الدولي، أعقبتها زيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي) في بدايات الهجوم الروسي على أوكرانيا، ويبدو أن هناك تعهدات قدمت للجانب الروسي خلال كل تلك الزيارات الثلاث، بالتالي، قام برفع الأمر إلى مجلس الدومة الروسي الذي قام بدوره بإقرار الاتفاقية ورفعها للرئاسة، وبالفعل صادق عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بصفة نهائية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع مجذوب أن روسيا كدولة عظمى، ترى أنها قدمت للسودان من الخدمات ما يؤهلها للحصول على قاعدة لوجستية لصيانة قطعها البحرية المتواجدة في البحر الأحمر، كما تعتقد أنها أوفت بالتزاماتها وقدمت المقابل الذي اتفق عليه، وهو غير معرف حتى الآن، وما إذا كان عبارة عن معدات عسكرية أو مقابل مادي أو معنوي بمساندة السودان في المحافل الدولية.
مطالب ومساس بالسيادة
وأشار المتخصص بإدارة الأزمات إلى أن روسيا باتت الآن تتحدث بصوت عال بعد الوفاء بكل التزاماتها، وترى أن على الجانب السوداني الإيفاء بالتزاماته والسماح لها بإقامة القاعدة البحرية والمركز اللوجستي، غير أن حكومة السودان تواجه على أرض الواقع إشكالات عدة تحول دون تحقيق المطلب الروسي، في مقدمها مساس مطلب موسكو بالسيادة الوطنية.
ولفت مجذوب إلى أن الشروط المسبقة التي قدمتها روسيا لا تخلو من الإجحاف في حق السودان، سواء في شرودها بالنسبة إلى مدة الاتفاقية المحدد لها أن تستمر 25 عاماً قابلة للتجديد 10 أعوام إضافية، مع عدم منح أي قوة أو دولة أخرى مركزاً لوجستياً مماثلاً على ساحل البحر الأحمر، فضلاً عن شرط أكثر قساوة هو ألا تكون للسودان أي ولاية قانونية داخل منطقة القاعدة، فضلاً عن تقديم القاعدة الخدمات لسفن ذات طبيعة نووية، بكل ما في ذلك من خطورة لمثل تلك السفن والحوادث التي يمكن أن تحدث بسببها
وتابع "تضمنت الشروط كذلك إقامة إنشاءات على الأرض المحاذية لساحل القاعدة بحوالى 50 كيلومتراً إلى الداخل السوداني، ستنصب فيها هوائيات وأجهزة تصنت، وهي من الأمور التي تمس السيادة السودانية بصورة مباشرة في غياب الحديث عن أي مقابل مادي متفق عليه أو معلن عنه في هذا الصدد حتى الآن".
ضغوط وتعقيدات
ولم يستبعد الباحث العسكري أن تتكثف الضغوط الروسية من أجل إتمام الأمر عبر الحكومة الحالية التي ترفض هذه الاتفاقية نهائياً، فضلاً عن الضغوط الغربية التي يواجهها السودان لمنع قيام القاعدة الروسية، منوهاً أن إرجاء الاتفاقية إلى حين تكوين المجلس التشريعي سواء الانتقالي أو المنتخب سيستغرق زمناً طويلاً على الأرجح، آملاً ألا يكون هذا الملف عقبة أخرى أمام إتمام التسوية السياسية الجارية، ووصف مجذوب الملف بالشائك والمعقد بخاصة أنه ينطوي على تعقيدات وارتباطات إقليمية ودولية، بالنظر إلى وجود اتفاقية أمنية بين الدول المشاطئة للبحر الأحمر تمنع أي تواجد على شواطئ الدول الموقعة عليها، وترأست هذه الآلية السعودية.
وكانت وكالة "أسوشيتد برس" نقلت، مطلع فبراير (شباط) الحالي، عن مسؤولين سودانيين لم تسمهم، أن الجيش أكمل مراجعة الاتفاق مع روسيا لبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر، وبات الأمر ينتظر تشكيل حكومة مدنية وقيام الهيئة تشريعية للتصديق عليه قبل أن يدخل حيز التنفيذ، وتابعت الوكالة أن موسكو لبت أحدث مطالب السودان، بما في ذلك توفير مزيد من الأسلحة والمعدات.
وفيما لم تصدر أي تعليقات رسمية من الجيش السوداني حول هذه الأنباء، إلا أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أوضح إبان زيارته الأخيرة إلى الخرطوم، أن اتفاق القاعدة البحرية لا يزال بحاجة إلى تصديق الهيئة التشريعية السودانية التي لم تتشكل بعد.
انعدام فرص التنفيذ
وفي سياق متصل، استبعد اللواء معتصم عبد القادر الأستاذ بالأكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية أن يكتمل قيام القاعدة البحرية الروسية، لأن السودان يريد الاستفادة من موقعه الجيوستراتيجي المميز لزيادة مكاسبه، وبات الآن أقرب إلى المعسكر الغربي منه إلى الشرقي، وقال إنه لا يرى أي مستقبل لإكمال المشروع سواء استمر الحكم العسكري أو جاء حكم مدني، لأن السودان يقع تاريخياً ضمن مناطق النفوذ الغربي، لكنه فقط في بعض الأحيان يلوح بالورقة والعصا الروسية أمام الغرب.
ورجح عبد القادر أن روسيا تدرك التعقيدات التي يعيشها الواقع السوداني الراهن، بالتالي، فهي لم تعمد إلى طلب التشييد الفوري للقاعدة البحرية في الوقت الراهن، بقدر ما تحرص على إبقاء هذا الملف ساخناً ومفتوحاً إلى حين تشكيل المجلس التشريعي (البرلمان) السوداني صاحب الحق في الإجازة والمصادقة على مثل هذه الاتفاقات، ما يكسبها الشرعية والاستدامة.
الطموح الروسي
وأضاف اللواء معتصم عبد القادر "يبدو أن روسيا شديدة التطلع لإيجاد طريق من أراضيها عبر إيران والعراق وسوريا ومن ثم البحر الأبيض المتوسط فالبحر الأحمر عبر قناة السويس، ثم من طريق البر إلى دول الساحل الأفريقي حتى المحيط الأطلسي، وهو ما يفسر تزامن زيارة وزير الخارجية الروسي الأخيرة إلى السودان مع زياراته لكل من موريتانيا ومالي، ضمن مساعي التعاون مع الأنظمة على طول الطريق البري بين البحر الأحمر والمحيط الأطلسي ".
وأوضح أن الموافقة النهائية على الاتفاق بإنشاء القاعدة من عدمه أمر يتعلق بالسودان وليس روسيا باعتباره صاحب الحق في ذلك، غير أن وجود قاعدة روسية في منتصف البحر الأحمر يمكن أن يقدم خدمات مختلفة لسفنها بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى نشاط وعمليات جمع المعلومات والمسح الاستخباري للبحار.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد وقع في 16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، بنود اتفاقية تنص على إنشاء قاعدة بحرية روسية على ساحل البحر الأحمر شرق السودان قادرة على استقبال سفن حربية تعمل بالطاقة النووية، تكون قادرة على استقبال أربع سفن في آن واحد، وحوالى 300 عنصر، وتستخدم في عمليات الإصلاح وإعادة الإمداد والتموين واستراحة لأفراد البحرية الروسية.
وتعود قصة هذه القاعدة إلى زيارة الرئيس السوداني المعزول عمر البشير إلى موسكو في أواخر عام 2017، مستنجداً بالرئيس الروسي لإنقاذه من العقوبات الأميركية والدولية التي كانت تطبق بشدة على نظامه، ووقع، مقابل ذلك، اتفاقيات للتعاون العسكري والتدريب.