كل الحروب ضارة إلا حروب الأدب
كل الحروب سيئة ولا تجرّ على مُعْلِنيها أو المُعلَنة ضدهم سوى الخراب والكراهيات والأحقاد، إلا الحروب الأدبية وحدها هي نعمة على الثقافة وسلّم صعود نحو الرقي الحضاري على مُشْعليها وعلى الحقل الذي فيه وله تشتعل.
الحروب الأدبية في كل تاريخ الثقافات الإنسانية كانت دائماً قفزة نحو تجديد الوعي الجمالي والأدبي والتاريخي الفردي والجماعي.
الحروب الأدبية هي تجديد بارود الأسئلة الفلسفية والثقافية والسياسية في مرحلة تاريخية معينة.
حرب الأدب فيها المنتصر وفيها المنهزم، فيها الجرحى والمعطوبون والموتى، ولكن المنتصر الأكبر هو الفكر والمجتمع.
حين نتأمل اليوم حال الحقل الأدبي العربي والمغاربي نشعر بالركود الذي يشبه الموت غير المعلن، الأدباء يعيشون كـ "الدهماء" من دون خاصية تميزهم عن بقية مكونات المجتمع، يعيشون من دون أجراس تقرع ومن دون ضجيج قادر أن يوقظ العام والخاص. بارودهم مبللٌ وأسلحتهم صدئة وألسنتهم في جيوبهم.
عندما كانت أرض الثقافة الأدبية العربية والمغاربية تمتد من قرطبة إلى البصرة، كانت معارك الأدباء مشتعلة عن بعد وعن قرب أيضاً، ألم يخلّد النقد العربي العبارة التاريخية التالية "هذه بضاعتنا ردت إلينا" والتي تؤكد صلب النقاش في معنى المركز والهامش في الإبداع، والتابع والمتبوع في الأنتلجنسيا.
ألم تلعلع مدافع حرب اللغة بين نحويّي "مدرسة البصرة" و"مدرسة الكوفة" ودامت قروناً ولا تزال نارها مشتعلة بين جحافل اللغويين التقليديين حتى يوم الناس هذا؟
ألم يسجل التاريخ الأدبي والثقافي المعركة الكبيرة التي أشعلت نيرانها جماعة الديوان التي كان يقودها العقاد والمازني وعبد الرحمن شكري والتي التأمت في رؤية فلسفية حول كتاب "الديوان في الأدب والنقد" من تأليف العقاد والمازني، الذي صدر عام 1921، ضد جماعة الإحياء والتي مثلها شوقي وحافظ والرافعي.
في عام 1932، ظهرت مدرسة أبولو بقيادة زكي أبي شادي لتكون ثكنة الجمال لشعراء تحلّقوا حول مجلة "أبولو" ليقلقوا بنية الشعر العربي كأبي القاسم الشابي وإبراهيم ناجي وإيليا أبو ماضي، وكانوا في جبهتهم هذه ضد الصوت التقليدي في الخطاب الشعري.
وفي عام 1920، من أميركا ظهرت الرابطة القلمية كصوت أدبي متميز لكتاب المهجر من السوريين واللبنانيين من أمثال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ونسيب عريضة وإيليا أبو ماضي وآخرين. فغيروا اللغة وضفاف الكتابة وروحها.
وبين هذه المدارس كانت نيران المعارك مشتعلة وطلقات المدافع تطلق من كل الجهات والاتجاهات من التقليديين والمحافظين والليبراليين والمعاصرين والمجددين على الطريقة الغربية، وكل صوت كان يريد أن يحقق وجوداً لفلسفته ورؤيته للحياة والكتابة والجمال.
وكان المستفيد من كل هذه الحروب الباردة تارة والساخنة طوراً آخر هو الأدب العربي والمغاربي ومن خلفه المجتمع برمته لأن ما كان يحدث من نقاشات ودفاعات ومرافعات كان غير منفصل عن بنية المجتمع السياسية والثقافية، خصوصاً أن المثقف في تلك المرحلة كان يحمل صورة "النبي" الذي لم يوحِ إليه، كما أن كل الذي يجري على أرض المعارك كان الإعلام ينقله بل ويساعد على تأجيجه وهو العامل الذي ساعد على تحريك الراكد في العقل وفي السلوك الجمالي والاجتماعي.
وكان في هذه المعارك فرسان من كل القوميات والعقائد التي تعايشت في المنطقة العربية والمغاربية، مسلمون بكل أطيافهم، مسيحيون، يهود، دروز وإيزيديون، عرب وبربر وأكراد وشركس وأرمن وآخرون. ولم تكن قضية العقيدة أو الانتماء القومي محط تبجيل أو إقصاء، بل كان الإبداع في بعده الإنساني والتجديدي هو الغاية من المعارك التي يشترك فيها الجميع على اختلاف انتماءاتهم ضد الجميع الآخر على اختلاف انتماءاتهم.
أسباب موت الحرب الجميلة
ربما كانت من أواخر الحروب الأدبية الكلاسيكية التي أثرت بشكل كبير في بنية العقل العربي فكرياً وجمالياً، ما جرى بين طه حسين ومناصريه من جهة وخصومه من جهة ثانية، أي بين دعاة العقل والتنوير والانفتاح من جهة وفلول المدرسة الإصلاحية المحافظة السلفية من جهة ثانية، كل هذه الحرب كانت تجري على أرض "الأدب والشعر"، وكيف يمكن قراءته والعيش فيه وله، وكل طرف كان يدافع عن موقع تاريخي واجتماعي وسياسي معين لكن باستعمال الخطاب الأدبي الذي يوصل إلى مواقع أخرى.
بعد مدة على هذه المعارك، ظهر كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" عام 1926. ويبدو أن المعركة بين الفلسفة التنويرية العقلانية التي تبناها ودافع عنها طه حسين وزمرته من جهة والتيار المحافظ من جهة أخرى الذي قاده الرافعي ومحمود شاكر ولطفي جمعة وغيرهم انتهت للأسف في آخر المطاف لمصلحة التيار الإصلاحي التقليدي.
يجب الاعتراف بأن الانتكاسة الثقافية والسياسية التي يعيشها العالم العربي والمغربي بدأت بشكل واضح يوم انهزم طه حسين فكراً تنويرياً ورؤية حداثية ومقاربة إنسانية، لقد خرج الفكر الأزهري التقليدي منتصراً من واقعة "في الشعر الجاهلي". والدليل على ذلك الانحدار الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية والمغاربية في التعليم والمتميزة بغياب العقل من جهة واستعمال خطابات قروسطية لمخاطبة محيطنا المتوسطي والعالمي من جهة أخرى.
لقد انتصرت البلاغة الفقهية على العقل الفلسفي.
وبانتصار الفكر الأزهري التقليدي في الثقافة والأدب اختفى عامل مهم وإيجابي لطالما كان المحرّك المجدّد لبنية الثقافة والأدب واللغة ألا وهو التيار الثقافي الأدبي الذي قادته أنتلجنسيا العربية المسيحية (سوريا ولبنان وفلسطين) وهو الذي قاد عملية تحديث اللغة العربية وتثوير النص وقاد انقلاباً ضد البلاغة التقليدية والإنشاء الفقهي في الأدب.
عندما تتحول الأيديولوجيا إلى طوق نجاة للثقافة والأدب
مع انتصار الفكر المحافظ الإصلاحي على الفكر التنويري العقلي دخل المجتمع في سبات خطير محفوف بيأس سياسي وثقافي، حتى دقت أجراس هزيمة 1967، لتتحرك الأنتلجنسيا ثانية، لكن هذه المرة سيكون خطابها من داخل السياسي والأيديولوجي المرتبط مباشرة بجرح "الهزيمة".
فمعركة طه حسين وعلي عبد الرازق والطاهر الحداد وقاسم أمين وجبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم وأبو القاسم الشابي وغيرهم كانت معركة أدبية قائمة على الفكر والأدب واللغة وحضارية في رسم معالم العلاقة مع الآخر كنموذج أو كمرآة. أما معركة الثقافة والمثقفين في مرحلة ما بعد 1967 فكانت سياسية وأيديولوجية حتى وإن اتخذت من الأدب ساحة حرب وأرض صراع.
يمكن اعتبار الكتاب المشترك "الأدب والأيديولوجيا" لنبيل سليمان وبوعلي ياسين الصوت الجديد الذي فتح الأدب والثقافة على معارك أدبية ساخنة (صدر الكتاب عام 1974)، ويمكننا اعتبار هذا الكتاب وما تركه من أثر في الحوارات الثقافية في العالم العربي والمغاربي شبيهاً إلى حد ما من حيث الأصداء وردود الفعل بكتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين، ويمكننا تلمس حجم هذا الأثر الذي خلفه كتاب "الأدب والأيديولوجيا" في حجم المقالات والدراسات والمتابعات والحوارات التي تابعت الكتاب من معسكر النيران الصديقة أو العدوة وقد جمعت في كتاب بعنوان "المعارك الثقافية في سوريا" أشرف عليه نبيل سليمان وبوعلي ياسين ومحمد كامل الخطيب، وصدر عام 1979.
وبالعودة إلى هذا الكتاب كصورة نموذجية عن المعارك الثقافية والأدبية يمكننا القول بأنه جاء إلى حد ما للتعبير عن النكسة الثقافية التي عرفها التنوير منذ هزيمة طه حسين، وبالتالي البحث عن أسباب الانهيار الاجتماعي في النصوص الأدبية. وهو في الوقت نفسه مواصلة لمعركة العقل والتنوير من باب الاشتغال على السياسي وتغليبه على الحضاري، حتى وإن كان الأدب هو القاسم المشترك.
جبهات الحروب الخاسرة
ومرة أخرى كما انهزم فكر طه حسين أمام الفكر الإصلاحي الأزهري في معركة "في الشعر الجاهلي"، انهزم أيضاً فكر الثنائي نبيل سليمان وبوعلي ياسين في معركة "الأدب والأيديولوجيا" أمام صعود التيار الإخواني الذي أسس لما سمي "الأدب الإسلامي" بكتابه ومنظماته ومنصاته.
وبتفشي ظاهرة "الأدب الإسلامي" الذي كان اللسان الأدبي لتنظيم الإخوان المسلمين بكل مشتقاتهم السياسية في البلدان العربية والمغاربية، انتقلت الحروب الثقافية والأدبية من حروب ومعارك جمالية وحضارية إلى أخرى "دعوية"، قادها بعضهم ممن بدأ أديباً ثم تحول إلى "داعية" أو منظرٍ للعنف والتطرف.
واتخذت الحروب والمعارك الثقافية بمجرد "أخونتها" منصاتٍ جديدةً لها، وانسحب الصراع والنقاش من عالم الشعر والرواية وعاد مرة أخرى إلى التراث الديني، واشتعلت حروب بين الدعاة أنفسهم، كل يريد أن يكون له القطيع الأكبر من الرواد والزبائن والمعجبين والمعجبات، واشتعلت الحروب على منصات القنوات التليفزيونية أولاً ثم انتقلت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، وظهرت عندنا ثكنات بجيش عرمرم ضد الثقافة والأدب والفكر التنويري.
في ظل هذه الحرب التي بدأت ثقافياً وانتقلت إلى معسكر "التكفير" و"التخوين" عرف العالم العربي والمغاربي في الربع الأخير من القرن الماضي أولى ضحايا هذا التطرّف من أمثال فرج فودة وحسين مروة وصبحي الصالح ومهدي عامل ونجيب محفوظ وعبد القادر علولة والطاهر جاووت والجيلالي اليابس وبلخنشير وبوسبسي ومحمد البراهمي وشكري بلعيد وآخرين، الذين كانوا ضحايا حروب ثقافية انزلقت نحو التعصب وغذى نارها فكر الفتنة والتحجر ومعاداة الاختلاف وكراهية الآخر ورفض فلسفة العيش المشترك.
وسمحت وسائط التواصل الاجتماعي كمنصات "شعبوية" تكنولوجية بإشاعة الفوضى في القيم واختلط الحابل بالنابل. وكما دخل الخطاب المتطرف الديني والدروشة على خط الثقافة والأدب والفلسفة، دخل إلى النقاش أيضاً حمقى منصات التواصل الاجتماعي وأصبح لهم الحق في إبداء الرأي من دون تحفظ في ما يعلمونه وما لا يعلمونه قطعاً، شعراً ورواية وفقهاً.