مع رحيل المخرج #عبد اللطيف_بن_عمار، تطوي #السينما_التونسية صفحة من سيرتها تزامناً مع مئويتها التي احتفلت بها مؤخراً. 80 سنة عاشها بن عمار كرس معظمها للشاشة، قبل أن يمضي تاركاً خلفه بضعة أعمال قليلة يمكن التعويل عليها لفهم #الواقع_التونسي. كان الراحل ناشطاً حتى بعد تجاوزه منتصف السبعينات من عمره، وإن توقف عن الإخراج قبل أكثر من عقد. قبل عام ونصف عام، حظي بتكريم من مهرجان الإسكندرية، وتحدث خلاله عن هواجسه كفنان ينظر إلى الواقع بشيء من الأسى، قائلاً إن السينما ثقافة وهوية في آن واحد، ولا يكفي استخدامها لأغراض ترفيهية.
كان بن عمار في السابعة والعشرين عندما بدأ بصنع الأفلام. إنجاز فيلم في تونس السبعينيات ما كان سوى مغامرة. لم تكن صناديق الدعم منتشرة كما هي الحال في أيامنا هذه. كانت هناك أفلام تونسية، ولكن لم تكن السينما التونسية قائمة بعد، كما هي عليه اليوم. لم تكن بدايات التأسيس سهلة، إذ كان بن عمار المخرج الذي يسعى بنفسه لتأمين مصادر التمويل اللازم للإنتاج. ففن الشاشة مكلف على عكس مَن يكتب الرواية أو يمارس الرسم، ودائم الإرتباط بالإمكانات المادية. ولذلك كان بن عمار يزور هذا المسؤول أو ذاك، لإقناعه بأهمية فيلمه وبضرورة انتاجه وإفساح المجال لسينمائي من تونس بالتواجد في المحافل الدولية... لكن، للأسف، في النهاية، وأمام تجاهل شبه شامل، كان يلجأ إلى منتج أجنبي. وبهذا المعنى، عكست أفلامه شيئاً من المناخ الثقافي السائد في تونس والعالم العربي، حيث يتم تهميش المثقف على حساب أولويات أخرى.
التخصص الأكاديمي
درس بن عمار الرياضيات، لكنه تخلى عنها لمصلحة السينما التي أحبها بشدة. فتوجه إلى باريس ليلتحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية، المدرسة التي تخرج منها كبار السينمائيين الفرنسيين، ونال منها شهادة في التصوير السينمائي، وهو في الثانية والعشرين. عند عودته إلى وطنه، عمل مصوراً في "الشركة التونسية للإنتاج والتنمية السينمائية"، وراح يصور الأفلام القصيرة. بيد أن ما علّمته السينما هو احتكاكه بالكبار، اذ عمل مساعداً لعدد من المخرجين من مثل الأميركي جورج كوكور والفرنسي كلود شابرول والإيطالي روبرتو روسيلليني في بعض أفلامهم، كما عمل مديراً للإنتاج لفرنكو زيفيريللي في "يسوع الناصري". هذا كله جعله يتعلم السينما على أرض الواقع، بعيداً من النظريات.
أنجز بن عمار مجموعة أفلام قصيرة وحفنة من الأفلام الروائية الطويلة أبرزها، "حكاية في غاية البساطة" (1970) الذي شارك في الإختيار الرسمي لمهرجان "كان" السينمائي، وهو أول فيلم تونسي يدخل المهرجان الفرنسي. الفيلم عن مخرج تلفزيوني يُدعى شمس الدين يقرر تصوير وثائقي عن عمال توانسة ذهبوا إلى فرنسا للعمل ثم عادوا إلى الوطن. الفيلم هو عن الصعوبة التي يجدها بن عمار لتصوير تقريره الوثائقي هذا، بالإضافة إلى العلاقة المأزومة بين شخصيتين يتعقبهما وبين خطيبته الفرنسية التي تلعب دورها الممثلة الفرنسية الراحلة جولييت برتو. بعد مرور أربع سنوات على "حكاية في غاية البساطة"، يقدّم المخرج "سجنان" أشهر أفلامه ونال عنه "التانيت البرونزي" في مهرجان قرطاج.
هذا العمل يعود بنا إلى مطلع الخمسينيات، فنتعرف من خلاله على شاب تائه بين حياته العاطفية وحبه لابنة رب عمله التي تستعد للزواج من شخص آخر، وبين مواقفه السياسية المناهضة للاستعمار في تونس. مع بداية الثمانينيات، جاء بن عمار بـ"عزيزة" الذي منحه "تانيتاً" ثانياً من قرطاج ولكن ذهبياً هذه المرة. الفيلم يتحدث عن حرفي عجوز ينتقل من البيت الكائن في مدينة تونس العتيقة والذي عاش فيه طوال حياته، إلى ضواحيها حيث يكتشف حياة جديدة في ظل التحولات التي تشهدها البلاد خلال تلك الفترة. ولكن نكتشف شيئاً فشيئاً قصة عزيزة، قريبة الرجل العجوز، والتي تتعرف إلى ممثلة صاعدة، فتنشأ بينهما علاقة متينة. في الألفية الثالثة، اكتفى بن عمار بفيلمين: "الناعورة" (2002) وهو نوع من فيلم طريق يتمحور حول الغرام واليأس، نذهب معه عبر طرق تونس القاسية والجافة، و"النخيل الجريح" عام 2010 الذي ختم مسيرته التي انطلقت قبل 40 عاماً.
الجيل الجديد
ظهر بن عمار في فترة اكتشاف الجيل الجديد من التوانسة للسينما، وكان هو وأبناء جيله، يملكون احتراماً للخلق الفني، أكثر ممّا كان موجوداً في مصر، حيث تسود القواعد التجارية. كلّ فيلم جديد لبن عمار كان تحدياً ومحاولة لإسقاط القناع عن وجه المجتمع التونسي. يُقال إنه فعل كل ما في وسعه حتى يمنع المتحكمين بالمال في تونس من احتكار الشاشة، محاولاً إيجاد نوع من التطابق بين المنتج والمخرج. أحد العناصر الذي لفت الأنظار في سينماه هو شكل السرد المختلف كلياً عمّا عودتنا عليه السينما المصرية. إنه سرد يجعل ما يتوقعه المُشاهد يأخد مسرحاً له خارج الفيلم. وهذه التقنية تتجلى بوضوح في "عزيزة" حيث ما يحدث لعائشة، يحدث خارج الفيلم، أي قبل ان يبدأ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الناقد الراحل سمير نصري من أوائل الذين كتبوا عن بن عمار في الصحافة العربية. يعتبر نصري أنه سعى في أفلامه إلى عدم إنشاء نوع من حوار مباشر بينه وبين المتفرج كما في أفلام عربية كثيرة، أي أنه رفض أن يظهر الفيلم أشياء معينة للجمهور بهدف تشكيل وعيه. فأفلامه، بحسب نصري، بعيدة كل البعد عن الوعظ والخطاب الأخلاقي المباشر، وهي نتيجة مشاهدات وتأملات فكرية اختارت نوعاً آخر من البنية الدرامية التي لم تلجأ يوماً إلى سرد يحاول أن يثبت شيئاً، فتظهر لنا البؤس حتى نعي أن هناك بؤساً.
على هذه القاعدة العزيزة عليه، حاول بن عمار تشييد أعماله، وعلى هذا الوعي العربي الذي كان لا يزال يتشكل، بعيداً من الأفكار التي يعلمها الجميع. كان يؤمن أننا لسنا في حاجة الى الديماغوجية في مجتمعاتنا بل إلى "فلسفة الأمور". واختياره لإظهار عملية بناء الوعي بدلاً من وصف الوضع الراهن أدى إلى اختلاق أساليب سردية جديدة. في أفلامه يحلو له إظهار صراع الشخصيات ومعركتها للحصول على حقوقها المسلوبة. فلا شيء يأتي من العدم ويجدر النضال يومياً من أجل تحقيق الذات والأحلام. مراراً صوّر حيرة الشخصيات بين البقاء والرحيل، وهذا أكثر المواضيع تكراراً عنده. مثير أيضاً تعامله مع الأماكن: في سينماه تشع الأماكن برمزية خاصة بها.