Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الرسام الأكثر سوريالية حين يرسم طفلين يهددهما عندليب بعنوان شاعري

الفرنسي الألماني ماكس إرنست في لعبة توازن برهافة بين اللغة والبشر والألوان

ماكس إرنست (1891 – 1976) (غيتي)

لعل أول ما يمكن أن يقال عن الرسام الفرنسي من أصل ألماني #ماكس_إرنست، إن تكاملاً مثالياً قد قام دائماً بين اللغة والتشكيل في لوحاته. وبالتحديد في مرحلة الذروة من مساره الفني #السوريالي. وبصورة عامة كان إرنست واحداً من قلة من فناني أواسط القرن الـ20 تمسكوا بالسوريالية حتى نهاية حياتهم ومسارهم، بل كان هو من خلد حس الجماعة لدى السورياليين من دون أن يحيد عن مساره، منذ رسم تلك اللوحة الشهيرة التي جمع فيها رفاقه من أصحاب الاتجاه نفسه وحققها في عام 1922 وكان بالكاد قد انتقل إلى صفوفهم ليهيمنوا معاً، وتحت عباءة أندريه بريتون، على الحياة الأدبية والفنية في زمنهم. وقد كان مهد لذلك بانتمائه أول الأمر إلى الدادائية. ففي تلك اللوحة المعنونة "موعد الأصدقاء"، حدد إرنست من هو السوريالي ومن كان خارج التيار مفرداً مكاناً مميزاً للمؤسس بريتون الواقف في مركز الثقل من اللوحة كعراب حقيقي. والواقع أن السورياليين الأقحاح بحسب لوحة إرنست كانوا قلة، لكنهم كانوا على أي حال نواة لمسار مقره في باريس، لكنه منتشر بالتدريج حول العالم. ونعرف بالطبع أن كثراً من أفراد تلك النواة ستتفرق بهم الدروب سياسياً وفنياً وفكرياً. أما هو، ماكس إرنست فلن يحيد عن سورياليته، بل سيقدم نفسه من خلالها حتى حين كانت مشاركته مباشرة قبل وفاته، بلوحة قدمها لفلسطين في المعرض البيروتي الشهير في عام 1977، الذي شارك فيه إرنست عشرات من كبار فناني العالم دعماً للقضية واعترافاً من الفن العالمي بحق الفلسطينيين في دولة ووجود. وكان السورياليون أنفسهم قد باتوا خارج السياسة منذ زمن طويل. غير أن هذا ليس موضوعنا هنا.

الأكثر سوريالية

موضوعنا هو واحدة من لوحات ماكس إرنست المميزة في المواد التي استخدمها لتحقيقها، كما المميزة ليس فقط بشاعرية عنوانها، بل كذلك في غرابته التي تؤثر في المتفرج، بقدر ما يفعل المشهد الغريب "المرسوم" ضمن إطار ذلك البعد السوريالي الحقيقي الذي يكاد يبدو هنا، كما في معظم لوحات إرنست على أي حال، وكأنه توليف يجمع سوريالية رينيه ماغريت وسوريالية دي كيريكو مع إطلالة على عوالم إيف تانغي. وكأن هذا التوليف في حد ذاته قد حدد الثلاثة الأكثر سوريالية ووفاء لها بين مئات الرسامين الذين ساروا على خطى تعاليم "الأب المؤسس"، بريتون. ولنضف إلى هذا منذ الآن تميز إرنست في هذا السياق بشعور الرعب الذي بثه من خلال لوحته، وتحديداً من خلال عنوانها "طفلان يهددهما عندليب". والحقيقة أن في مقدورنا أن نفترض هنا أن البعد الأساسي المثير في اللوحة، الذي يحمله بعد الرعب فيها، إنما هو التكامل الحتمي بين مشهد اللوحة وعنوانها، على نسق ما كان سيغموند فرويد يسميه "الغرابة المقلقة" الذي نجده بالتأكيد، وبصرف النظر عن تكامل العناوين مع المشاهد، في العدد الأكبر من لوحات الإيطالي جورجيو دي كيريكو الذي سبقت الإشارة إليه والذي تزامن نشاطه مع نشاط ماكس إرنست.


أين الخطر؟

مهما يكن من أمر فلا بد هنا من أن نلفت النظر إلى أن مشاهد لوحة إرنست لا يمكنه تصورها وتصور غرابتها إلا بمشاهدتها معلقة ومنذ زمن طويل في "متحف الفن الحديث" (موما) في نيويورك وذلك تحديداً لأننا هنا لسنا في إزاء لوحة بل أمام ما يشبه المجسم، حيث بقياس لا يزيد على نحو 70 سنتيمتراً ارتفاعاً و57 سنتيمتراً عرضاً، وأكثر من 11 سنتيمتراً عمقاً، تتسم هذه اللوحة ببعد مسرحي أكثر مما ببعد تشكيلي معهود. وليس أدل على هذا من ذلك السياج المفتوح على المزرعة المرسومة هنا ومدخل هذا السياج الذي ينفتح بابه ليصل إلى خارج المشهد عابراً الإطار الأيسر. وكذلك حال ذلك الزر الأحمر المعلق على الناحية الأخرى من الإطار إلى جهة اليمين، علماً أن الجانب الأسفل من الإطار يحمل عنوان اللوحة، بوصفه جزءاً مكملاً لها وقد حفر بخط اليد، ولكن ليقول لنا ماذا؟ على الأقل ليفترض أن ثمة ها هنا ذلك الخطر المهدد لطفلين. ولئن كان التهديد يتمثل في طائر بالكاد يمكن رؤيته وهو يحلق بعيداً في الفضاء، ولئن كان الرجل الغامض يعتلي سطح الكوخ الخشبي المرسوم في اللوحة ليضغط على الزر الأحمر معلناً عن وجود ذلك الخطر المهدد للطفلين، والذي لا بد من تكرار أن المتفرج ما كان في استطاعته أن يفهم "الحكاية" لولا العنوان، فإن السؤال يبقى: وماذا عن الطفلين، ولماذا يتعرضان للمجازفة لمجرد عبور ذلك الذي يعتبر من أرق الطيور وأنبلها وأرقها صوتاً؟ ذلك هو بالطبع السؤال الذي لا يملك الرسام أي جواب عليه، ولا يمكن الوصول إلى أي تفسير تاريخي أو أسطوري أو حتى اجتماعي لمضمونه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


الجواب من طريق الفن

فالجواب الوحيد الممكن هنا إنما هو جواب فني جمالي لا أكثر ولا أقل. إنها الغرابة المطلقة يحملها فنان كان عبوره من الدادائية التي ترفض المعنى، عبوراً طبيعياً بل "منطقياً" على قلة ما يهتم الدادائيون ومن بعدهم السورياليون بالمنطق. لا بد من أن نلاحظ هنا، ويبدو حديثنا عن ماكس إرنست وسورياليته المكان المناسب أكثر من أي مكان آخر للإشارة إلى هذا الأمر، أن ليس ثمة من فارق بين التيارين، لا سيما إن نظرنا إليهما من خلال ازدواجية خيارات إرنست، ومع ذلك لا يمكن تجنب العثور على ما يشبه التكامل بينهما، تكاملاً وصل إلى حد أن الدادائية انتهت تماماً في عام 1922 وهو العام الذي ولدت فيه السوريالية وانتقل فيه إرنست من التيار الأول إلى الثاني. ففي نهاية الأمر كان التياران قد ضجرا على الطريقة نفسها، من رتابة العالم المعاصر فأراد الدادائيون التعبير عن ذلك الضجر من خلال تدمير العالم ممثلاً بمشهديته، فيما أدرك السورياليون أن من المستحيل تدمير العالم إلا إذا كان تدميراً يؤدي إلى تغييره. ومن هنا في مقابل الخواء الفكري لكل ما نادت به الدادائية، كانت الخطوات التالية للسورياليين البحث عن عالم جديد وكان ذلك البحث هو الذي أوصل كثراً منهم، وعلى رأسهم أراغون وبيكاسو وبول إيلوار إلى الاستجابة لمغريات النضال السياسي في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي، فيما أوصل أندريه بريتون إلى التروتسكية، ولكن سيكون من الصعب أن نرى في فن ماكس إرنست وتحديداً في لوحته الأشهر "طفلان يهددهما عندليب"، ما يوضح هذا ويستوعب ذلك الانتقال الذي سيصيب ذلك التيار بأول شرخ في مساره هو الذي سيعاني شروخاً متتالية ربما نتج معظمها عن الخيارات السياسية، وربما أحياناً عن نرجسية بريتون نفسه.

بعيداً من الصخب المجنون

يبقى أن ماكس إرنست (1981 – 1976) المولود في ألمانيا قبل أن يتحول ليعيش بقية حياته في فرنسا مع فترة منفى أمضاها في الولايات المتحدة الأميركية، لا سيما في أريزونا حيث أوحت له الطبيعة الجرداء هناك بعدد من اللوحات التي ستبدو خارج مألوف نزعته السوريالية لكنها ستضحى من أشهر لوحاته وتخلد علاقته الغريبة بالطبيعة، ماكس إرنست هذا يبقى خارج كل تلك الانشقاقات وقد فضل أن يفصل إلى حد كبير بين مواقفه السياسية وخياراته الفنية. ولعل تفرده تقريباً، في سلوك درب هذا الفصل هو ما أسهم في العزلة التي عاشها مكرساً حياته لفنه بعيداً من العلاقات الاجتماعية والغوص في زحام الحياة الفنية في فرنسا في زمن كانت فيه تلك الحياة تصل إلى أعلى ذرى صخبها. والحقيقة أن هذا الابتعاد عن الزحام، الذي كان إرنست يعتبره زحاماً مجنوناً ومسبباً للجنون، كان في خلفية غزارة إنتاجه وانتقائه مواضيعه بل حتى تنوع إنتاجه بين لوحات ومحفورات ومنحوتات ظل يعتبرها أمينة لتراثه السوريالي هو الذي كان من النادر له أن يتحدث عن بداياته الدادائية معتبراً أنها كانت مجرد "تمرينات في انتظار السوريالية".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة