Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كان اسمها "هنا لندن" وشهرتها "القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية"

ميخائيل نعيمة تحت شباك العمة أنيسة مستمعاً إلى نشرة الأخبار

كانت إذاعة لندن تأتي بالعالم إلى بيوتنا الجبلية البعيدة من هموم الدنيا (غيتي)

الراديو المتربع في صدر الدار بدا كبيراً ونحن صغار. كنا نزداد طولاً، وكان ينقبض حتى أصبح سمّاعة في الأذن. وراء واجهة من قماش مزركش وزجاج مكتوب عليه أسماء دول وعواصم، كانت تدور أحداث هذا العالم، وتخرج من هذا #الصندوق_السحري أصوات وأغانٍ، في حين كان #الراديو "ملكاً عاماً" بإدارة أبي. وعن "ظهر قلب" حفظ أبي برامج الإذاعات: بعد ظهر الخميس أم كلثوم على "صوت العرب"، و"فيروزيات" صباحية على "إذاعة لبنان" من بيروت، و"العالم هذا المساء" من لندن... برامج إذاعة لندن كانت المفضلة لديه، ومنها "قول على قول"، ولازمة المذيع وهو يقول "من القائل؟ وما المناسبة؟". بتأنٍّ يدير أبي "الزر"، وبشوق ينتظر المستمعون. فراديوهات أيام زمان احتاجت إلى نحو الدقيقة لتدب الحرارة في "اللمبات"، ثم جاء زمن الترانزستور، وخسر أبي "امتيازه الإذاعي". كان للراديو احترامه. نادراً ما قاطع مستمع نشرة أخبار. وجارنا المهذب كان ينتظر نهاية النشرة ليسأل، "شو قالو عن السنغال؟". كان ابنه مغترباً هناك.

"أبولو 11"

في صيف 1969 وتحديداً  20 يوليو (تموز) كان الولد الذي كُنته، ابن سنوات تسع، يسترق السمع لهذا النداء الطالع من شباك الجيران، "هنا لندن، القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية". كان العالم في هذا اليوم مشدوداً إلى اللحظة التي نطق بها رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ " إنها خطوة صغيرة لإنسان وقفزة جبارة للإنسانية".  كنت متيقناً من أن المُنادي من إذاعة لندن هو النبي إيليا، حيث توجد على اسمه الكنيسة المجاورة لبيتنا في بسكنتا، إحدى أعلى بلدات جبل لبنان. إيليا بوقاره ومهابته، ها هو ينطق على الملأ، ووحدي، أعرف صاحب الصوت المستتر. لا مجال للشك بصحة صوت "النبي إيليا" المنطلق من ذلك الصندوق الذي يُقارب المتر طولاً. وليست من قبيل المصادفة أن تهبط "مركبة النسر" الأميركي على القمر، تحديداً، في يوم عيده أي 20 يوليو!

هذا الراديو المحتل صدارة الدار لا يقل رهبة عن المستتر في داخله. شارة من فضة لماركة "فيليبس"، وخشب جوز، وخيوط ذهب، ومفاتيح متعددة الحلقة، وزجاج بألوان قوس قزح، وراءه إبرة كلما تحركت جذبت إلينا مدناً وبلداناً وجزراً من أقاصي الأرض.

تحت شباك العمة أنيسة، أستقصي أخبار "أبولو 11" الذي يقترب من القمر. تحت الشباك، أذني على لندن، وعيني على القمر الجلي في سماء بسكنتا، ذلك العصر من يوليو (تموز). مأخوذاً إلى المركبة الفضائية بسحر صوت المذيع، وجدت نفسي رائداً فضائياً يقود الصاروخ، ويميل به نحو جبل صنين، وجبين بسكنتا، ليتأكد أن ابنة الجيران الشقراء وفت الوعد، وها هي على القمة، قرب "المزار"، تلوح لي. مشهد خيالي يكفي ليعود الصاروخ إلى مداره بسرعة مضاعفة مشحوناً بابتسامة البنت الشقراء. سرعة بلغ من قوتها أن تجاوز الصاروخ عربة النار التي يركبها النبي إيليا في رحلاته إلى السماوات.

وقار الأصوات

كيف حل عليّ سحر إذاعة لندن؟ لا أحد يدري. هل هو وقار الأصوات؟ هل هي تلك الحشرجة التي ترافق البث، فتأتي وتذهب تماماً كما الموج؟ المهم: رفاقي الصبية اقتصرت أعمالهم الشريرة على سرقة زجاجات مرطبات "جلول" من دكان ساسين، وزدت عليها سيئتين: استراق السمع إلى "لندن"، وقراءة كتب حاتم خوري الجنسية. كان للاستماع إلى "إذاعة لندن" في بعض الليالي مفعول "خادش للحياء" أيضاً، "والآن ننتقل بكم مستمعينا الكرام إلى الموجة القصيرة وطولها... بذبذبة مقدارها...". كانت كلمة ذبذبة تشبه عاريات كتب حاتم خوري. بعد أن شببت وشبت، عرفت أن "إذاعة لندن" تنبهت إلى أخطار كلمة "ذبذبة"، فاختارت بدلاً منها كلمة "تردد".

العمة أنيسة صاحبة الراديو والمتحكمة بمفاتيحه، ضاهت "إذاعة لندن" تحفظاً وتزمتاً. عاشت عزباء، وماتت وما لثم فمها إلا أمها وسيجارة "يننجي". مرة عرج عليها، في نزهته، ابن بلدتها ميخائيل نعيمة مع رهط من أصحابه ليستمع إلى نشرة الأخبار، فلم يستطع اقتحام أسوار غرفة الراديو. ميخائيل نعيمة كان شبه قديس عند أهل بسكنتا، وطبقت شهرته بلاد العرب و"الأميركان"، لكن العمة أنيسة مانعت أن يدخل بيتها جمع من الرجال، فتتناول الألسن عفاف بنت الستين خريفاً. لا كياسة ميخائيل نعيمة شفعت له ولا لوم. بعد منازلة كلامية من وراء الباب، عرضت العمة أنيسة حلاً خضع له ميخائيل نعيمة وصحبه. الحل كان أن يقف رهط الرجال في الحديقة، تحت شباك البيت، وأن تنقل أنيسة الراديو إلى الشباك. المشهد لا يزال في الذاكرة. أنيسة على كرسيها، تضع ساقاً على ساق، وسيجارة بين الشفتين. بين خبر وخبر، يعلو صوتها: "سامعين"؟ فيأتي الجواب من تحت: "إيه إيه، سامعين".

ملكة الإنجليز

في عودة إلى "أبولو 11"، قرر الصبية الانتقال إلى بيت آخر، اجتمع فيه كل "حي البلاطة" قبالة التلفزيون ليشاهدوا هبوط "الأميركان" على سطح القمر. كانت الصورة مشوشة، ومتقطعة، وسوداء على بياض خفيف، لكن سحرها على المشاهدين الكبار والصغار كان رائعاً. كنت هادئ النظرات، ولم أقبل أن يضارع التلفزيون سحر "إذاعة لندن" ورهبتها. وفياً لـ"لندن" كنت، وأبقى. وما زاد في الوفاء، صورة الملكة إليزابيث الثانية في صدر دار بيت رفيق الطفولة "عبدو". إنها ملكة لندن وجميلة، وكنت موقناً أن البنت الشقراء ستكون على صورة ملكة الإنجليز عندما تكبر، وستحمل التاج ذاته عندما نقف في الكنيسة عروساً وعريساً! ما الذي جاء بصورة الملكة إليزابيث إلى بيت "عبدو"؟ كان أبوه مهاجراً في نيوزيلندا ومحارباً في الجيش الإمبراطوري، وكان إنجليزياً في كل شيء. صموت، وقور، ويحب حمامات الشمس. قلما عاش مع عائلته. تزوج في عمر متأخر بعلبكية في عمر الورد. على منوالها تزوجت ابنتاها قبل الثامنة عشرة. لم تنتظرني الشقراء منهما. ربما لأنها لم تعرف أن ابن الجيران نصبها ملكة على عرش حبه الدفين.

رحلت

المهم، في بيت "عبدو" دار لا تفتح إلا في المناسبات. فرش على الطراز الفيكتوري، وصورة لرحلة الإنسان من المهد إلى اللحد، وصور للوردات وفرسان إنجليز منهم تستقي "إذاعة لندن" الوقار والمهابة. كان والد "عبدو" في جيش الكومنولث، وكان والدي في الجيش الفرنسي قبل أن ينضم في الحرب العالمية الثانية إلى الفرقة اللبنانية "القناصة". على رغم ذلك لم أشعر بعظمة فرنسا "الأم الحنون" للبنان، وتمسكت بلندن وإذاعتها حتى بعد أن سمعت بـ"إذاعة مونت كارلو"! وكيف للإيقاع السريع لـ"مونت كارلو" أن يداني هذا الصوت الصارخ في برية بسكنتا، "هناااااا لندن، القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطااااانية". هكذا خضعت لنبلاء الإنجليز وإذاعتهم، وانكسر حبي السري لبنت بسكنتاوية نيوزيلندية برازيلية بعد أن خطفها بسكنتاوي آخر وغادر إلى بلاد السامبا. تبدلت على كبر مشاعري، لكن "المشاعر تتبدل، أما الذكريات فلا". اليوم، بعد أكثر من أربعين سنة، علمت أن البنت الشقراء صعدت إلى قمة جبل في رحلة اللاعودة إلى السماء. بكيت في سري. كم تمنيت لو أمسكت مرة بخيط طائرتي الورق... مغادرة ملاعب الطفولة ليست أمنية جميلة، إذا كانت بنت الجيران شقراء وجميلة، وتتقن إثارة الفوضى في حواس ابن السنوات التسع.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات