Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جون كيندي يهذي في قصص يسري الغول

شخصيات تاريخية راحلة وأخرى حية تلتقي فانتازياً في مقهى المثقفين 

غرائبية الرسام ماغريت (متحف ماغريت)

يقول أحد شخوص قصص يسري الغول "الأساطير والقصص والأخبار التي نخلقها من أجل قتل الوقت". فهل نخلق هذه العناصر الثلاثة حقاً كي نقتل الوقت؟ لكنها لا تبدو كذلك في قصص يسري الغول، هي ليست لقتل الوقت، بل ذات وظيفة تخدم موضوع القصة وجمالياتها، لذا فهو يوظف كثيراً منها بأسلوبه، ويمنح لكل منها حضوره ووظيفته. وحتى في هذيانات كاتب من شخوصه نجده يقول "استنفدت كل وقتي في قراءة الآداب والأساطير وتاريخ من سبقونا... سافرت وجلت أصقاعاً كثيرة"، وهذه مصادر ثقافته وإبداعاته.

في مجموعة القاص والروائي الفلسطيني يسري الغول الجديدة "جون كينيدي يهذي أحياناً" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2023) ثمة مناخات قصصية جديدة، بل حديثة، تجمع الواقعي والمتخيل إلى التاريخي، وربما الوثائقي، في تناول عدد كبير من الشخصيات التاريخية الواقعية، الرئيسة والثانوية. فمنها ما تحمل القصة اسمه عنواناً لها، ومنها ما تحضر عبر القصص على نحو هامشي. وكما يبدو من عنوان المجموعة، فإن جون كينيدي يحمل عنوان القصص جميعاً، لا مجرد قصة واحدة، مما يثير توقعات القارئ بعمل يتمركز حول هذه الشخصية (الرئيس الخامس والثلاثون لأميركا عام 1961)، لكنه في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها، يبدو مثل شخصيات أخرى، وربما بدا أقل أهمية من شخصيات أشد حضوراً في المجموعة.

عشرون قصة

من خلال عشرين قصة يتراوح كل منها بين خمس وتسع صفحات يبدو أن شخوص الكاتب كلها، وليس كينيدي وحده، يعيشون في حال الهذيان حد الهلوسة، ذلك أننا، منذ البداية، حيال شخصية رجل ميت هو من يقود السرد ويوجهه، وهذا الشخص في الغالب يحكي بلسان الكاتب نفسه الذي يحضر باسمه هنا (يسري الغول) في عدد من القصص "أنا يسري الغول من مخيم الشاطئ"، أو من خلال ظل الكاتب و"تعلقه بالأدب وقراءة أعمال الروائيين الفلسطينيين المحاصرين في غزة أصابه بالخبل"، أو السارد الذي يحمل وجهة نظر الكاتب لكنه يترك للشخوص أن تتحدث وتتحاور حوارات عبثية، كما لو أننا مع شخوص صموئيل بيكيت، على رغم أن الشخصيات هي لمبدعين أو سياسيين ذوي مكانة وازنة.

لا تستطيع هذه القراءة الإلمام بعشرات الأسماء الواردة في القصص، ولا حتى المشاهير منها، فالكاتب يطلق العنان لخياله ليتخيل ما يفوق المخيلة نفسها. ومن تهويماته في عالم أدب أميركا اللاتينية، عالم يوحي بتأثر الكاتب به وبمبدعيه، وأبرزهم ربما غابرييل غارسيا ماركيز، مروراً بنيرودا ولوركا. واستدعاء شخصيات سياسية لا حصر لها، من غيفارا وكاسترو وياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين ورابين وشارون وغولدا مائير ونتنياهو، كما يستحضر صومعة ابن الأرقم، وقلنسوات ابن رشد، وسيوف علي بن أبي طالب والقعقاع، والعز بن عبد السلام ولطفي بوشناق وهمنغواي والرومي، والتبريزي الذي يقول "القذارة الحقيقية تقبع في الداخل، أما القذارة الأخرى فهي تزول بغسلها"، وعمر الخيام وغسان كنفاني وحنا مينه والطيب صالح وصوت ياسر عرفات وبوتين وحرب أوكرانيا، "موسيليني يصافح يسري الغول لأنه لم يطلب منه المشاركة في هذا العبث"، نيرودا وسلفادور ألليندي يلتقيان مع يسري الغول في المقهى بحضور البياتي... وهكذا. وفي خطاب ألليندي الأخير يخاطب نيرودا ويسأله "هل بكيت على أطفال غزة الذين سقطت الصواريخ فوق رؤوسهم؟"، كما تحضر قصائد نيرودا ضد الإمبريالية والاستعمار الكولونيالي، وتحضر الروائية إيزابيل ألليندي، وصولاً إلى فيروس كورونا المستجد.

وفي واحدة من أجمل قصص المجموعة، وهي "ماركيز يصفق بحرارة"، يدور حوار بين الروائي الكولومبي (الحائز على نوبل) وصحافي فلسطيني مغمور ومتطفل، فيظهر في الحوار "نيرودا يتغنى بفتاة تشبه شيرين أبوعاقلة -ربما تكون هي- لست أدري"، ويجلس فوكنر مع رضوى عاشور والكفراوي والبساطي وسميرة عزام، وسوف يطلب ماركيز من الصحافي أن يكتب شيئاً عن شيرين "عليك أن تكتب قصة سوريالية أو تجريدية لفتاة تشبه الملائكة ستضرب بلفور بالحذاء بعد قليل أمام بيكاسو ودافنشي وناجي العلي".

وعلى رغم أن بعض الشخوص ينقل عن السارد/ الكاتب رأياً عجيباً حول الكتابة، كقوله "كلنا نهرب من الواقع بكتابة القصص، ننتقم من الحكام بطريقتنا الخاصة"، إلا أن ثمة النقيض الذي ستقوله على لسان الأرشيدوق تشي غيفارا، وربما يكون من كتاب سيرته "مذكرات شاب على دراجة نارية"، حيث يقول غيفارا إنه يعيد "صياغة التاريخ". وفجأة يقفز إلى فقرة مختلفة "حزين لأن الألمان يدافعون عن إسرائيل، على رغم أنهم يعرفون جرائمها. عقدة الذنب يجب أن تنتهي".

خيال وهذيان

الجامع بين هذه الشخصيات هو مقهى يجمع المثقفين والكتاب، ولكن يرتاده السياسيون أحياناً، وهؤلاء جميعاً من الموتى، ويعيشون في جحيم لا يختلف عن جحيم دانتي أو المعري، لكن تداخل الأزمنة والأمكنة يجعل ممكناً لقاء الشرق بالغرب، والمتدين بالملحد، وغير ذلك كما سنرى. فمن هذيانات كينيدي ارتباطه بعلاقات فاجرة مع فتيات الليل، وبعملية غزو خليج الخنازير الشهيرة في كوبا، ولكن ما الذي يربطه بالحروب على غزة، والحرب الأهلية اللبنانية، وغزو العراق، وتفجير ميناء بيروت، وحتى بهزيمة ألمانيا بكأس العالم في قطر؟ إنه الخيال "الهذياني" الذي يحكم مسار القصص جميعاً.

وبالعودة إلى ما قبل البداية يجد القارئ نفسه مع شخصية ميت يطالب بحرق جثمانه، بدل دفنه في التراب، لأن من يدفنون تحت الأرض هم بشر من الدرجة الثانية أو الثالثة. ويقول على لسان السارد/ الميت: "نحن سماد الأرض"، وهذا السماد يغدو وقوداً لطائرات صانعي التوابيت قاتلي أطفالنا، كي يدفن هؤلاء الأطفال ويصبحوا بدورهم وقوداً لطائرات قادمة، وقوداً لأي معركة خاسرة". إنه مقدمة كاشفة عن طبيعة الصراع الذي يحتل مساحة في قصص المجموعة، صراع القوي المستبد مع الضعيف المضطهد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع القصة الأولى "دير شبيغل المرآة"، فهي تبدأ مع الميت الذي وجد قبره مفتوحاً فهرب، يلبس جناحين ويحلق، يلتقي المرأة، ضالته، كما يستعيد حكمة الجدة "الحياة... ثوان معدودات، فاحمل نفسك وهاجر إلى قلب تحبه"، لكن الرجل يضيع ما بين الموت والحلم والكوابيس، والموتى جميعاً أصحاب قصص حقيقية أو حلمية، ويتداخل فيها الواقعي بالخيالي، وغالباً يجري ذلك لمجرد تغريب الشخص عن واقعه اليومي المباشر، سياسياً كان أم اجتماعاً، وتحويل هذا الواقع إلى مادة للسخرية.

ويكثر الكاتب الغزي من ذكر غزة في مواقف شتى، وفي غير قصة. ففي استحضاره حالات أشخاص من غزة فقدوا سيقانهم يقول "غزة لا أشجار فيها لنصنع الآلاف من السيقان التي بترت. غزة ليست بلداً أو حتى مدينة أو قرية، إنما قطعة من جحيم لا لون فيها غير الأسود". وفي استعادة صور البؤس "آه لو كان لنا مطار يا فانيا، لو كان لنا ميناء، لو كانت لدينا نصف حياة، لاخترت العيش في إسبانيا والتقيتك عند مدخل الحمراء. الزمن في غزة خارج حسابات المجرة". ولعل الأقسى هو ما يرد في قصة "عالم بلا أحلام" حيث تموت الأحلام. ويرى طبيب دماغ وأعصاب محاصر، في غزة الخطر القادم المتمثل في اضطرابات النوم. ويرى كيف أن "كتاب الحياة أغلق"، ويكتبها الكاتب بالإنجليزية ثم الفرنسية، لكنه مع ذلك يرى انهيار دولة إسرائيل من الداخل. ويرى نشوء عهد جديد لإنسان بلا خطيئة.

في ذلك كله، نحن حيال عالمين، عالم المهمشين في مقابل عالم المسؤولين، ويبوح واحد من الشخوص/ الموتى بكيفية موته "مت بعد أن سقطت هراوات رفاق السلاح على رأسي لأنني متمرد على قصيدة الزعيم". ويذهب في انتقاد عالم المتدينين المتخلفين، منتقداً "فكرة الخلود بعالم ميتافيزيقي لا نعرف عنه شيئاً. هل تظن أن الله يطلب منك أن تظل بلا عمل، وتلبس ملابس رثة باسم الدين؟".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة