Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الربع الخالي بوصفه آخر موطن للبدو كما وصفه وعاشه تيسيجر

كبير الرحالة الإنجليز يمضي خمس سنوات بين الرمال العربية ويطرح أسئلة البشر

ويلفريد تيسيجر (1910 – 2003) وسط الصحراء (الموسوعة البريطانية)

ذات عام من أواسط سنوات السبعين أجرت أسبوعية "الأوبزرفر" البريطانية استطلاعاً للرأي شمل العشرة الأكثر شهرة وأهمية بين كبار الرحالة الإنجليز ويدور من حول سؤال واحد: من هو أكبر الرحالة المعاصرين في العالم في القرن العشرين؟ فكان الاسم الذي جاء الإجماع عليه من دون أي تردد هو ويلفريد تيسيجر (1910 - 2003). صحيح أن اسم تيسيجر كان معروفاً لكنه بالتأكيد لم يكن يعتبر الأشهر على الإطلاق، بل إن كتبه الأساسية لم تكن لها شهرة سلفه الكبير لورانس ولا شهرة عدد من كبار ممارسي ذلك التجوال في العالم الذي اشتهر به الكتاب الإنجليز ولا سيما خلال القرنين الأخيرين، غير أن ذلك الإجماع من قبل رحالة ومؤلفين كبار في هذا المجال لفت الأنظار حقاً إلى درجة أن كثراً من القراء راحوا يشترون نسخاً من كتابيه الرئيسين "الربع الخالي: صحراء الصحارى" و"عرب الأهوار"، قبل أن يكتشفوا أنه أصدر في عام 1987 تحديداً كتاب مذكراته بعنوان "الحياة التي اخترتها"، فدهشوا متسائلين عما كان قد حجب كتاباته عنهم قبل ذلك. ومنذ تلك اللحظة بات تيسيجر الكاتب الرحالة المفضل لدى القراء الإنجليز في وقت راحت كتبه تترجم تباعاً. ولقد كان من حسن حظه أنه عاش نحو ربع قرن بعد ذلك مستمتعاً ولكن إلى حد ما بـ"إعادة اعتبار الجمهور العريض" له، ولكن أكثر من ذلك بوصول "الرسالة" إلى ذلك الجمهور. وكانت رسالة في منتهى البساطة: تعالوا أحدثكم عن الشعب الأكثر حرية في هذا العالم!

منذ فجر التاريخ

والشعب الأكثر حرية بالنسبة إلى مؤلف "الربع الخالي" إنما كان سكان تلك المنطقة من العالم: البدو، ولكن قبل أن تهجم عليهم الحضارة في رأيه. الحضارة التي أمضى حياته وهو يخشى هجمتها. أو فلنقل: أمضى السنوات الأساسية من تلك الحياة وتحديداً منذ أواسط سنوات الأربعين، وهو يتابع أحوال هؤلاء البدو الذين سيقول في كتابه عنهم إنه ما عرف شعباً أكثر كبرياء وأنفة منهم إلى درجة كتب معها يقول "ما من إنسان في العالم يمكنه بعد أن عاش الحياة التي عشتها بين بدو الربع الخالي، يمكنه أن يبقى على الحال التي كان عليها في السابق. فالمرء بعد أن يعيش تلك الحياة سوف يظل مطبوعاً إلى الأبد باللقاء الذي عاشه مع الصحراء، الصحراء التي يعيش البدوي إلى الأبد بدوره موشوماً بها وكأنها طبعة على جبينه حفرت بحديد ملتهب، وذلك لأن هذه الأرض القاسية قادرة على أن تحيط كلياً بسحرها كل من يجرؤ على المجازفة بالدخول إليها، هي التي بأكثر كثيراً مما قد تفعل أية منطقة أخرى على وجه البسيطة، تتسم بالرحمة أكثر منها بكثير". ويخبرنا الكاتب الرحالة منذ مفتتح الفصل الأول من كتابه، حتى وإن كان فصلاً يحمل عنواناً يبدو للوهلة الأولى غير ذي علاقة بما سيرويه لنا من شغف بالصحراء، بأن ذلك الشغف "الذي لا برء منه" قد استبد به خلال صيف عام 1946 فيما كان يجتاز وعلى قدميه كحاله في معظم الأحيان أو في أحسن أحواله، على ظهور الجمال، منطقة الحجاز، مضيفاً "وكنت قبل ذلك بشهور قد وصلت نزولاً إلى تخوم صحراء الصحارى، حيث تمكنت وقد هدني الجوع والعطش من أن أشارك بدو المنطقة حياتهم القاسية التي لا ترحم وهي حياة تبدو يسيرة على رفاقي هؤلاء بالنظر إلى أنهم معتادون عليها منذ يولدون". وهنا يعترف لنا تيسيجر بأنه طوال الطرق والمسالك التي لا تنتهي وتتسم برتابة مرعبة ومضجرة، التي شاطرهم إياها كان يشعر بالتعب والألم، ولا سيما "أننا كنا نعيش توتراً متواصلاً" فحتى حين كان النوم يبتعد عن أعينهم كان تيسيجر ورفاقه يقبضون على بنادقهم متفرسين في الأفق متحسبين لأي طارئ.

على خطى لورانس!

وإزاء هذا الذي يرويه الكاتب بكل هذه البساطة على طول ما يزيد على 400 صفحة، سيتساءل القارئ من دون أدنى شك عما جعله يبدي إذاً كل ذلك الشغف بذلك المكان؟ حسناً لا شك أن على المرء أن يتابع القراءة هنا ولا يتوقف عند تلك الانطباعات الأولية ويتناسى الجوع والعطش والتعب والإحباط التي كان من شأنها أن تقتل عزيمة أي رحالة عادي، لكن تيسيجر الذي كان حينها شاباً في مقتبل عمره لم يكن إنساناً عادياً. فهو الإنجليزي الذي ولد في أديس أبابا ولسوف يهدي كتاب مذكراته "الحياة التي اخترتها" إلى "صاحب الجلالة الإمبراطور هيلاسيلاسي" الذي يحكي لنا في مذكراته كيف أنه حضر حفل تتويجه في العاصمة الإثيوبية، وكيف كان رد فعله حين غزت قوات موسوليني الإيطالية ذلك البلد. وهو لئن كان قد توجه وقد بلغ الرابعة والعشرين إلى لندن كي يكمل دراساته العليا، فإنه سرعان ما عاد إلى أفريقيا التي سيرتبط بها ارتباطاً محكماً، وفي الأقل حتى حلت الصحراء وسكانها البدو مكانها كموضوع لشغفه لاحقاً. وهذا على أية حال هو موضوع "صحراء الصحارى" الذي يحمل في أصله الإنجليزي عنوان "رمال عربية" الذي لا شك أنه كان في خلفية الربط الذي أقامه المعلقون بينه وبين كتابات لورانس. ففي شكل أو آخر كان لا بد أن يرتبط الاسمان، ويعتبر تيسيجر نوعاً ما مستكملاً لحديث لورانس في "أعمدة الحكمة السبعة"، إذ يتناول تلك الصحارى التي لم يطأها لورنس والواقعة طبعاً جنوب المناطق التي تحرك فيها "الأفاق" الإنجليزي الأشهر.

ثبات منذ فجر الكون

كالعادة ينطلق تيسيجر في كتابه هذا من صيغة المتكلم، ليروي أولاً وأخيراً حكاية تلك الرحلات الاستكشافية التي قام بها، بين عام 1945 وعام 1950 في تلك المنطقة المعروفة بـ"الربع الخالي"، والتي يخبرنا أن سكانها يسمونها "الرمال" لا أكثر ولا أقل. والحال أن ما يلفت في الكتاب أكثر من أي أمر آخر هو كون الكاتب لا يهتم بالمناظر التي يمر بها أو يعيش فيها، قدر اهتمامه بالبشر أنفسهم. وهؤلاء وليست الرمال التي لا تنتهي وتعيش كما هي تحت رحمة رياح وتقلبات مناخية لا تبدل من طوبوغرافيتها كثيراً منذ فجر الكون، أو هكذا كانت حالها في الأقل حتى زارها، وتمنى ألا تتبدل أبداً بنظرته الرومانطيقية، وهو الذي اعتبر أن ديمومتها وأبديتها هما ما صنع أولئك البشر الذين أدهشوه، وراح يفكر متأملاً بحيرة وتعمق كيف أن أولئك البدو الذين يلبسون كيفما اتفق ويأكلون ما تيسر لهم وقد ينامون في أي مكان وجدت لديهم تلك اللغة التي حملها الفاتحون وسور القرآن إلى شعوب الأرض المنتشرة من أواسط آسيا إلى المحيط الأطلسي وأبعد. بالنسبة إلى تيسيجر كانت تلك هي المعجزة الحقيقية: معجزة الإسلام والأخلاقيات والمعارف التي حملها منطلقاً من تلك الصحراء إلى عالم تلقاها بعد أن كان قد تجاهل حضارات أكثر ازدهاراً بكثير. ولما كانت المعجزة قد أضنته بتساؤلاته من حولها، فكر تيسيجر كيف أن الفاتحين لم يحملوا معهم الرمال ولا التحف الفنية. حملوا اللغة وحسب، ولكن أين وكيف انوجدت تلك اللغة؟ انوجدت كما يقول لنا في أوساط هؤلاء البدو وفي تفاهماتهم وقواعد حياتهم وفي كبريائهم وتعاملهم مع الطبيعة وكأنها جلد لصيق بجلدهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

دعوة الصحراء

والحقيقة أن هذه العلاقة التي أقامها تيسيجر بين هذا الشعب الذي عجنته الصحراء وقسوة الحياة هي التي إذ بدت واضحة في "صحراء الصحارى" وعلى رقعة "الرمال العربية" لم يعد من الصعب كثيراً للقارئ أن يفهم وربما للمرة الأولى، دعوة الصحراء كما تلقاها كبار من أبناء جلدة كاتبنا هذا وفي مقدمتهم ريتشارد بورتون وريتشارد داوتي وحتى الجنرال غلوب "باشا" وصولاً إلى ديفيد لين، حين صور الصحراء في فيلمه "لورانس العرب" وكأنه يقوم بجولة في متحف اللوفر! لكن "صحراء الصحارى" تجاوز ذلك، إذ نقل نظرته من المكان إلى أهل المكان، ففهم المكان على ضوء فهمه لأهله وفهم هؤلاء على ضوء علاقتهم بالمكان. ولعل هذا أهم ما في هذا الكتاب الذي ما دنا أي نص آخر دنوه من هؤلاء البدو بخيرهم وشرهم برحمتهم وقسوتهم، ليبدو في نهاية الأمر وكأنه نشيد هيام بـ"شعب لا يماثله شعب في العالم".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة