Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مجمع التحرير" من سفينة السياسة إلى بحور الاستثمار

تأسس على شكل مركب نهري ضم مصالح البلاد وشهد البيرواقراطية وقصص الحب وأوجاع الحياة و"الفندق" مآله المرتقب

وضع "مجمع التحرير" على قائمة التغيير أصبح واقعاً وليس مجرد تكهنات (صورة متداولة لمشروع تطوير مجمع التحرير- مواقع التواصل)

الصبية والمراهقون الذين يتوافدون مساء على الساحة المواجهة لـ"مجمع التحرير" ينهمكون في تلك الرياضة المستجدة نسبياً حيث التزلج على ألواح صغيرة، أو ينصرف بعضهم نحو الانخراط في قصة حب ناشئة على أريكة خشبية هنا أو التدريب على رقصة على أنغام موسيقى عجيبة نابعة من هاتف أحدهم هناك.

الغالبية العظمى منهم لا تلتفت إلى المبنى الشاهق الذي يمكنهم من التجمع عند سفحه، وهذه القوة الفتية المتزلجة والراقصة والباحثة عن مغامرة عاطفية عابرة لم تعاصر زمن سطوة المجمع باعتباره "بعبع" المصريين البيروقراطي وأيقونة التعطيل ورمز التعذيب الممارس من "عبد الروتين" على العباد والإبقاء على البلاد في خانة "دولة الموظفين"، كما أنها لا تتذكر وقت تحول المبنى القبيح إلى شاهد عيان على أحداث الـ18 يوماً، قيل في حينها إنها الأروع في التاريخ الحديث، لكن سرعان ما وجدت نفسها منعوتة بأنها ملعونة وسبب الخراب وليتها ما كانت.

حياة تليق بالمراهقين

هذه الانتفاخة الشبابية لا تعي أنها تلهو وترقص وتبحث عن حياة تليق بالمراهقين عند أقدام التاريخ الذي سيتحول إلى فندق في المستقبل القريب، وفي أقوال أخرى إنها ربما تشهد الأيام الأخيرة قبل تغيير الملامح الباقية للميدان الذي شهد "ثورة" تم اختزالها إلى أحداث ووصفها تارة بالمؤامرة من حيث المنشأ أو بحكم ما آلت إليه أوضاعها.

وضع "مجمع التحرير" على قائمة التغيير أصبح واقعاً وليس مجرد تكهنات أو توقعات، وقبل ساعات وافق المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية على الطلب المقدم من "صندوق مصر السيادي للاستثمار والتنمية" بتغيير استخدام مبنى مجمع التحرير ليصبح فندقاً، وتحويل مبنى وزارة الداخلية السابق في "حي لاظوغلي" القريب من ميدان التحرير ليصبح مجمعاً خدمياً.

يشار إلى أن صندوق مصر السيادي تأسس عام 2018 بهدف جذب الاستثمارات الخاصة وتشجيع الاستثمار المشترك في الأصول المملوكة للدولة لزيادة قيمتها وفاعليتها الاقتصادية. كما أصدر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عام 2020 قراراً ينص على إزالة صفة النفع العام عن عدد من المنشآت المملوكة للدولة، ونقل ملكيتها إلى صندوق مصر السيادي، ومن بينها أرض ومبنى "مجمع التحرير". ورغم أن الاجتماع شهد قرارات وموافقات عدة طاولت إخضاع مناطق أخرى للتطوير وإعادة التخطيط، لكن "مجمع التحرير" وحده الذي ترأس قمة الـ "ترند"، والـ "ترند" على "تويتر" اليوم وأمس وفي الأغلب غداً من نصيب "مجمع التحرير".

لولا الحرج

لولا الحرج من أهرامات الجيزة ومعابد الأقصر وكنائس ومساجد مصر القديمة، لتم تنصيب "مجمع التحرير" علامة فارقة وأيقونة صارخة في حياة المصريين، لكن العلامات أنواع والأيقونات أشكال، بعضها يحظى بإعجاب الجميع والآخر يتحول إلى نقطة شد وجذب بين الفرق المتناحرة والمجموعات المتناقضة، و"مجمع التحرير" علامة وأيقونة مثيرة للجدل ومثار للخلاف، لكنه يبقى شاهد عيان على عقود فارقة في حياة المصريين. العقد الفارق الأول كان سنة البناء، ويقول الكاتب الراحل مكاوي سعيد في كتابه "القاهرة وما فيها" أنه في عهد الملك فاروق لم يكن مسموحاً ببناء كنائس من دون توقيع شخصي منه، وتدخل أحمد حسنين باشا لدى الملك الذي وافق على بناء كنيسة في منطقة "غاردن سيتي" المتاخمة لميدان التحرير، وتم وضع حجر الأساس لها عام 1947. وانتهى البناء عام 1950 لكن الملك فاروق استشاط غضباً حين رأى الكنيسة تتوسط ميداناً مهماً في العاصمة، وهو الذي كان يحلم بأن يكون خليفة المسلمين بعد انتهاء عصر الخلافة في تركيا عام 1923، فأمر فاروق بتشييد مبنى حكومي ضخم إضافة إلى مسجد في ركن آخر من الميدان حتى لا تكون الكنيسة مهيمنة على المشهد. وكانت النتيجة التي غالباً لم يتوقعها الملك فاروق هو أن المبنى الذي أمر بتشييده لم يهيمن فقط على مشهد الكنيسة بل هيمن على البلاد والعباد والأحداث والحوادث لنحو سبعة عقود كاملة، إن لم يكن فعلياً عبر تحوله أيقونة البيروقراطية فعبر صوره الذهنية المتناقضة ودوره في أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011 وما تلاها.

"صنايعي" مجمع التحرير

مصمم المبنى هو المعماري المصري الراحل الملقب بـ "شيخ المعماريين" محمد كمال إسماعيل الذي صمم المبنى على شكل سفينة تحتل 28 ألف متر مربع بارتفاع 14 طابقاً تحوي 1300 غرفة وبكلفة 1.2 مليون جنيه مصري، وهو مبلغ طائل في هذا الوقت.

ويلقب إسماعيل حتى الوقت الراهن بـ "صنايعي مجمع التحرير"، وهو الذي يحظى بشهرة العالم الإسلامي كله، فهو من وضع المخطط الهندسي لتوسعة الحرمين المكي والنبوي عام 1953.

وربما لم يدرك إسماعيل وقت افتتاح "مجمع الحكومة" عام 1952 أن "السفينة" الخرسانية التي شيدها ستصبح عاصمة البيروقراطية لكن هذا ما حدث. "عاصمة البيروقراطية" بكل ما تعنيه البيروقراطية من معان سلبية ومؤثرات صادمة هو أحد التسميات الحركية لـ "مجمع التحرير"، فهو "جمهورية الموظف" صاحب عبارة "فوت علينا بكرة يا سيد" مسوف الإجراءات ومؤجل الإمضاءات ومعقد التسهيلات ومغلق الأبواب المفتوحة، وهو ملهم عدد من الروايات والأفلام الناقدة لأوضاع أوجعت المصريين على مدى عقود، ورسخت ثقافة أن الداخل إلى المبنى مفقود والخارج منه مولود.

 

 

ولادة المجمع الحقيقية لم تحدث في عهد الملكية بل في عهد من أطاحها، وتم افتتاح المبنى في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عقب ثورة يوليو (تموز) عام 1952، وبالطبع تغيرت المخططات المعمارية والتي كان مقدراً لها أن تحوي تمثالاً للخديوي إسماعيل وأن يحمل المبنى اسم "مجمع الحكومة".

اكتسب المبنى اسم "مجمع التحرير"، لكنه ظل "مجمع الحكومة" بكل ما يعنيه المسمى من معان ملتبسة حول طبيعة علاقة الحب - الكراهية المزمنة التي تجمع بين الطرفين، الحكومة أي حكومة، والمواطن أي مواطن.

علاقة غريبة فريدة

أي مواطن من جيل الألفية وما فوق، أي من مواليد أوائل التسعينيات وما قبل ذلك تجمعه بالمجمع علاقة غريبة فريدة، غرابة العلاقة تكمن في اضطرار كل شخص في حياته اللجوء إلى هذا المبنى مرة واحدة على الأقل، وربما مرة أخرى من قبل الورثة بعد وفاته.

خدمات إدارية، نقل طلاب المدارس الحكومية، استخراج جوازات سفر، تجديد تأشيرات إقامة لغير المصريين، شرطة الآداب، التقديم على وظائف تابعة لوزارة القوى العاملة، الأسر المنتجة، خدمات الشباب والرياضة، خدمات وزارة الشؤون الاجتماعية (التضامن الاجتماعي حالياً)، إدارة الإنفاق، بعثات تعليمية وشؤون ثقافية، رعاية الأحداث (الخارجين على القانون دون السن القانونية)، شؤون صحية، مباحث أموال عامة، مكاتب تابعة لهيئة قضايا الدولة وغيرها كثير، توليفة عجيبة غريبة لم ينجح أحد في شرح سر تجميعها تحت سقف مبنى واحد، ولا حتى الجيش الجرار وقوامه نحو 10 آلاف موظف وموظفة يمثلون أحد أعتى وأعند موظفي الحكومة الممسكين بتلابيب البيروقراطية والغارقين في غياهب الروتين لدرجة تسمية بعضهم بـ "عبدة الروتين". وليس أدل على ذلك من تحول "مدام عفاف في الدور الثالث" إلى رمز يجمع بين الكوميديا والتراجيديا للموظف الحكومي المتخصص في تكدير حياة المواطنين عبر توقيف مراكب الإجراءات السائرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عقود من عبادة الروتين

مجمع التحرير على مدى عقود عبادته للروتين وتقديسه للبيروقراطية وتمدده من دون سبب مقنع أو مخطط واضح ليشغل 12 طابقاً عبر مئات الغرف ومصاعد أتلفتها عقود من الصعود والهبوط، وسلالم نحرها الانفجار السكاني لم يكتف بالتمدد الرأسي، بل نافس تمدده الأفقي أعتى الأسواق وأقوى التجمعات التجارية والخدمية المولودة من رحم الحاجات الشعبية.

صور فورية بكاميرات أكل عليها الزمان وشرب، خدمة ملء نماذج الطلبات الرسمية والتظلمات الحكومية، سندوتشان فول وفلافل صباحاً و"كبده ومخ زين والفاتحة للحسين" ظهراً، مع ضمان شاي في الخمسينة في ما بينهما.

وفي أزمنة القيود المفروضة على العملات الأجنبية كان ممثلو عصابات السوق السوداء يرتعون بخفة وذكاء، وفي أوقات الرخاء والاستقرار يحاول بائع ورد ممارسة ضغط على محب مشتاق يلتقي الحبيبة بعيداً من الأعين مختفياً وسط زحام الآلاف، أو يستغل آخر "على باب الله" لحظات خروج الجيش الجرار من الموظفين وكتائب المواطنين الحالمين بالحصول على توقيع نقل الأولاد أو الختم العزيز القريب إلى كل "عبد روتين"، ألا وهو ختم النسر.

ختم النسر

ختم النسر والسعي إلى الحصول عليه باعتباره شرطاً رئيساً لإنجاز كل صغيرة قبل كل كبيرة في حياة المواطن المصري ألهب خيال الكتاب والروائيين، وسيظل فيلم "الإرهاب والكباب" الذي كتبه الراحل وحيد حامد وقام ببطولته عادل إمام ويسرا وصلاح الشناوي وأشرف عبدالباقي علامة فارقة لا في السينما المصرية فقط، بل في توثيق حقيقة العلاقة الملتبسة بين المجمع والمواطن، وربما أيضاً التنبؤ أو شرح العوامل التي أدت ضمن عوامل أخرى إلى اشتعال أحداث يناير في الميدان الذي يشرف عليه "مجمع التحرير".

الكاتب محمود قاسم يشرح جوانب من هذه العلاقة في كتابه "الفيلم السياسي في السينما المصرية"، يقول "عقب الاستيلاء غير المقصود على مجمع التحرير يترأس وزير الداخلية بنفسه عملية التفاوض مع الأشخاص الذين يعتقد أنهم استولوا على المبنى، وردد الوزير جملة محورية في الفيلم إذ قال "كل الوزراء على قلوبهم مراوح ويتمتعون بسمعة إعلامية جيدة ويعلمون أقل، وأما وزير الداخلية فإنه في كد دائم".

المواطن البسيط (عادل إمام) الذي ظل يتوجه إلى مجمع التحرير أياماً متواترة في محاولة للوصول إلى مكتب الموظف المتخصص بإجراءات نقل أبنائه من مدرسة حكومية إلى أخرى من دون جدوى، وذلك بسبب شدة زحام المواطنين أصحاب المصالح وطواف الآلاف وكأنهم في الحج بطرقات المجمع الدائرية ولقائه مجموعة من المواطنين الآخرين الذين تصادف وجودهم في المجمع لأسباب مختلفة.

امرأة (يسرا) كانت في طريقها مقبوضاً عليها إلى شرطة الآداب، ماسح أحذية يسترزق بتلميع أحذية الموظفين والمواطنين، عسكري مجند يخدم "البيه الضابط" وزوجة "البيه الضابط" وابن "البيه الضابط" وغيرهم.

عندما سألت الحكومة عن مطالب من اعتقدت أنهم استولوا على المبنى، حار المواطنون فاتفقوا في النهاية على طلب كباب وكفتة.

شيطنة المبنى

يقول بعضهم أن فيلم "الإرهاب والكباب" شيطن المجمع، لكن المجمع لم يكن في حاجة إلى من يشيطنه.

شيطنة إضافية حصل عليها المجمع الأشهر إبان أحداث يناير وفبراير عام 2011 والعامين المحوريين التاليين، 2012 عام صعود جماعة الإخوان للحكم، و2013 عام انقلاب جانب معتبر من الإرادة الشعبية على حكم الجماعة.

ثلاثة أعوام مكثفة من الحوادث والأحداث وقف المبنى العتيق شاهداً عليها من دون أن يفضح أمر هذا أو يكذّب ذاك أو يدلي بشهادة موضوعية عما جرى، وحين وقعت أحداث الغضب عام 2011 تحول محيط المجمع إلى مراكز تجمع لـ "الثوار" وغيرهم، وجدرانه إلى مرسم هواة الـ "غرافيتي" الغاضب، ومداخله ومخارجه إلى نقاط ارتكاز شعبي لتأمين الميدان، ثم ساحة كر وفر بين "الثوار" وغير الثوار، ثم ساحة شد وجذب عنيفين بين أنصار الإسلام السياسي من جهة وداعمي الدولة المدنية من جهة أخرى، ثم وقوعه تارة في أيدي السلفيين وأنصار الإخوان وأخرى في أيدي معارضيهم، وثالثة لجماعات من أطفال الشوارع ورجال ونساء بدا أنه تم استقدامهم من أماكن عشوائية ليسيطروا على الميدان، وذلك قبل أن يتم التخلص فعلياً من جماعة الإخوان وبدء عودة الشوارع والميادين لسيطرة الأمن.

ثوار وأحداث

طوال هذه الأشهر أغلق الثوار المجمع ومنعوا المواطنين والموظفين من الدخول تارة، وهيمن عليه أنصار الإسلام السياسي بهدف الضغط أو إشهار القوة والسطوة تارة أخرى، وتسلل بعضهم لداخله تارة ثالثة بهدف السلب أو النهب أو من باب حب الاستطلاع.

لكن كان هذا في سنوات سابقة، وتبدو السنوات بعيدة وعتيقة وقديمة قدم التاريخ لكنها ليست كذلك، فبالأمس القريب وتحديداً عام 2021، تم إخلاء المبنى من محتوياته البشرية والورقية والمكتبية. ويوم الـ 11 من مارس (آذار) 2021 كان موعد تسليم المبنى الأيقوني خالياً من محتوياته، وهو ما حدث بالفعل وتبعه قطع المرافق من مياه وكهرباء وغيرها عنه استعداداً للمرحلة المقبلة في حياته.

المرحلة المقبلة في حياة "مجمع التحرير" تشير إلى تحوله إلى فندق، وهو التحول الذي تمت الإشارة إليه غير مرة على مدى الأعوام القليلة الماضية، لكن هذه المرة تبدو الإشارة فعلية وقيد بدء التحقق.

آفات التسييس

ولهذا فإن اجترار آلام الاستقطاب واستحضار آفات التسييس لكل كبيرة وصغيرة، وهي الأعراض الجانبية التي تفجرت في مصر عقب أحداث عام 2011، تتجدد مع كل ذكر لأي من علامات "ميدان التحرير" الفارقة.

اليوم وبعد 12 عاماً على أحداث عام 2011 لم تعد الغالبية المطلقة تشير إلى ميدان التحرير باعتباره ميدان الثورة التي أدت إلى تحقيق غاية المنى والمراد وإزاحة الرئيس السابق الراحل محمد حسني مبارك عن الحكم، كما لم تعد شوارع "وسط القاهرة" المؤدية إلى الميدان تحمل "عبق" العيش أو "نكهة" الحرية أو حتى مذاق الكرامة الاجتماعية شعار أحداث يناير 2011.

انقلب كثيرون على العبق والنكهة، واعتبروا إياها نكبة لا سيما في ظل الاستقطاب الشديد الذي شهده المجتمع المصري، وقد وصلت سموم الاستقطاب إلى "مجمع التحرير" الذي ظل حلم اختفائه أو أمنية إزالته أو رجاء استئصاله تداعب مخيلة الملايين من المواطنين الذين عانوا الأمرين في إحدى أكبر وأقسى بقع البيروقراطية في العالم.

بالأمس القريب كان حلم انقشاع "مجمع التحرير" يداعب الملايين التي اعتبرت انتهاء أسطورة "عاصمة البيروقراطية" و"جمهورية الموظفين" و"سطوة مدام عفاف" بداية عصر الخير والرخاء والرفاه، واليوم ومع انتشار خبر الشروع في تحويل المجمع من معقل البيروقراطية إلى فندق فاخر، وجد المصريون أنفسهم حائرين أمام مشاعر متناقضة، حيث حب شديد للمبنى أو ربما ذكريات مرتبطة بالمبنى وكراهية عتيدة له أو ربما لذكريات مرتبطة به.

المزيد من تحقيقات ومطولات