Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ولادة متعثرة للموازنة الأميركية فهل ينتهي العجز بكارثة اقتصادية؟

استمرار المواجهة حول سقف الديون سيؤدي إلى الركود ويضر بهيبة الولايات المتحدة المالية... وسد الفجوة بين الدخل والإنفاق ممكن لكن الخيارات مريرة

كيفن مكارثي رئيس مجلس النواب الأميركي يتحدث للصحفيين بعد اجتماعه مع جو بايدن (أ ف ب)

كما كان متوقعاً، لم ينجح الاجتماع بين الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس مجلس النواب كيفن مكارثي في جسر الهوة الشاسعة بين البيت الأبيض والجمهوريين للاتفاق على كيفية حل أزمة الديون وخفض العجز في الموازنة الأميركية لتحقيق التوازن بين الإيرادات والنفقات، على رغم بعض عبارات التفاؤل الحذر من الطرفين، فما أصل المشكلة؟ ولماذا يصعب التوصل إلى اتفاق في شأن الموازنة التي تبدو مشكلة مزمنة تعانيها الإدارات الأميركية المتعاقبة؟

أزمة ممتدة

بينما كان اجتماع بايدن - مكارثي هو الأول في سياق عملية طويلة من المتوقع أن تستمر حتى أوائل الصيف، إلا أن الرهانات على نجاحه في اتخاذ خطوة أولى لكسر المأزق المتفاقم بين الجمهوريين والديمقراطيين، كانت أقل كثيراً من التوقعات التي اعتبرته مجرد لقاء افتتاحي يرمز إلى رغبة الطرفين في تجنب كارثة تخلف الولايات المتحدة عن تسديد ديونها.

ولهذا كان من الطبيعي أن تعكس البيانات والتصريحات الصحافية نبرة تفاؤل حذرة تجاه المستقبل، فمع انتهاء اللقاء، اعتبر مكارثي أن المناقشة كانت جيدة وهناك فرصة للتوصل إلى اتفاق، لكنه أيضاً اعترف أنه وبايدن لديهما وجهات نظر مختلفة في شأن سقف الديون. وقال في تغريدة له على "تويتر" أن "الديون الأميركية مرتفعة جداً وهناك هدر مالي من الحكومة، والمشكلة تسوء بدلاً من أن تتحسن، ولهذا يجب على الجمهوريين والديمقراطيين العمل معاً لتحديد سقف للديون يضعنا على طريق إحداث توازن في الموازنة".

وفي حين جادل بعض الجمهوريين بأن أي تصويت لرفع سقف الديون يجب أن يشمل تخفيضات في الإنفاق الحكومي، قال بايدن ومسؤولون في البيت الأبيض إن على الكونغرس رفع سقف الديون من دون شروط. وأوضح بيان صحافي للبيت الأبيض أن بايدن كرر لمكارثي أنه لن يتفاوض في شأن الحد الأقصى للدين الأميركي وأن مسؤولية كل زعيم في الكونغرس، ألا يسمح بتخلف أميركا عن سداد ديونها، لكن تغريدة للرئيس بايدن على "تويتر" أشارت أيضاً إلى أنه كان منفتحاً على مناقشة موازية حول قضايا الضرائب والإنفاق مع مكارثي لخفض العجز في الموازنة.

أصل المشكلة

يعود أصل مشكلة الديون الأميركية التي تتراكم بمرور السنين، إلى اعتياد الإدارات الحكومية إلى اللجوء للاقتراض بطرح أوراق الخزانة الأميركية للبيع أمام المشترين المحليين والدوليين، بهدف سد العجز المزمن في الموازنة بشكل سنوي منذ عام 2000، مما يعني أن الحكومة تنفق أكثر مما تكسب من إيرادات، ولهذا السبب تقترض مبالغ ضخمة لدفع كل شيء من رواتب العسكريين والموظفين الحكوميين إلى مزايا الضمان الاجتماعي وبرامج الرعاية الصحية وغيرها من النفقات الحكومية.

وفي ظل الزيادة السنوية للدين الوطني الأميركي، وصل الآن إلى 31.4 تريليون دولار وهو السقف الذي حدده الكونغرس ولا تستطيع معه الحكومة أن تنفق مزيداً من الأموال سوى برفع سقف الديون مرة أخرى، وهو أمر لا يرغب فيه الآن مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون بقيادة مكارثي إلا باتفاق مع البيت الأبيض والديمقراطيين الذين يسيطرون على مجلس الشيوخ، على خفض كبير في الموازنة الحكومية.

خطر الكارثة يقترب

ومنذ وصلت الولايات المتحدة إلى سقف الدين في 19 من الشهر الماضي، اضطرت وزارة الخزانة إلى استخدام مجموعة من "الإجراءات غير العادية" لضمان أن الولايات المتحدة يمكن أن تستمر في دفع التزاماتها المالية المتعددة، بما في ذلك مدفوعات الفائدة للدائنين، لكن في مرحلة ما قد تكون في شهر يوليو (تموز) المقبل، ستحتاج أميركا إلى اقتراض مزيد من الأموال لتمويل التزاماتها.

وإذا لم تفعل، فستستنفد الحكومة الفيدرالية قدرتها على دفع استحقاقاتها، ومن ثم تتخلف عن سداد أصل ديونها وفوائدها أيضاً، الأمر الذي سيسبب كارثة اقتصادية ضخمة، لا تقتصر على انهيار بورصات أوراق المال في أميركا والعالم، وتدهور قيمة الدولار الأميركي وفقدان الثقة به كعملة احتياط دولية تسيطر على أكثر من نصف حجم التجارة العالمية، بل سيمتد التأثير إلى أزمة اقتصادية عميقة تشبه الركود الذي ضرب الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن الـ20.

 

ولهذا حذر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، في مؤتمر صحافي من أن البنك المركزي في البلاد لا يمكنه منع وقوع كارثة اقتصادية إذا لم يوافق المشرعون في الكونغرس على رفع سقف الدين، حتى تتمكن حكومة الولايات المتحدة من سداد جميع التزاماتها.

تبادل الاتهامات

ومع التحذير من العواقب الوخيمة التي تنتظر أميركا، هاجم الجمهوريون الديمقراطيين بسبب ما اعتبروه إنفاقاً جامحاً للحكومة، مشيرين إلى حزمة التحفيز التي وقعها بايدن لتصبح قانوناً، ويلقون بالمسؤولية على هذا الإنفاق في تأجيج التضخم السريع العام الماضي، كما يقول المشرعون الجمهوريون إن مستويات الديون الفيدرالية الحالية يجب ألا تستمر لأنها تهدد بتقويض النمو الاقتصادي، ويطالبون بتخفيضات كبيرة في الإنفاق وإصلاحات في الموازنة في مقابل رفع سقف الديون هذا العام.

وفي المقابل أوضح الرئيس بايدن أنه مستعد لتقليل العجز في الموازنة عن طريق زيادة الضرائب على أصحاب الدخول المرتفعة والشركات الكبرى وهي خطوات يعارضها الجمهوريون، كما حاول الرئيس ومساعدوه دفع الجمهوريين إلى تحديد الأجزاء التي يريدون خفضها من الموازنة الفيدرالية، وراهنوا على رد فعل الناخبين الأميركيين على أي مقترحات تمس البرامج الشعبية مثل الرعاية الصحية الحكومية والتعليم والنفقات الخاصة بالتقاعد.

دروس التاريخ

غير أن ليندا بيلمز أستاذة المالية العامة في كلية هارفارد كينيدي، تشير إلى أن دروس التاريخ تظهر صعوبة تحقيق هدف الجمهوريين في توازن الموازنة الفيدرالية خلال عشر سنوات من الآن بحسب ما يطمحون، لأن ذلك يتطلب من الحكومة الفيدرالية توليد دخل كاف لدفع جميع إنفاقها، وهو أمر تمكنت الولايات المتحدة من تحقيقه مرتين فقط خلال 60 عاماً الماضية.

وفي كلتا الحالتين اشتملت الإجراءات على زيادة الضرائب، التي يكرهها الجمهوريون، فقط تمكن الرئيس ليندون جونسون من تحقيق توازن في الموازنة عام 1969، وخلق الرئيس بيل كلينتون فائضاً امتد من السنوات المالية 1998 إلى 2001، عندما ترك منصبه.

كيف وازن كلينتون الموازنة

وتقول بيلمز التي عملت في وزارة التجارة خلال ولاية الرئيس كلينتون، إنه عندما تولى كلينتون منصبه عام 1993، كان عجز الموازنة في العام السابق أقل من خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في وقت أصدر فيه مكتب الموازنة غير الحزبي في الكونغرس توقعات مالية قاتمة، لكن وصفة الموازنة المتوازنة لكلينتون، كانت عبارة عن مزيج من الإيرادات المرتفعة والإنفاق المنخفض، التي لم تكن لتتحقق من دون اقتصاد مزدهر، والتوصل إلى صفقة بين الحزبين في الكونغرس خلال ولايته الثانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتمثلت وصفة كلينتون في عناصر عدة أبرزها زيادة الضرائب على الأثرياء منذ سنته الأولى في المنصب، ورفع ضرائب الشركات. وأضاف ضريبة على وقود السيارات بلغت 4.3 سنت لكل غالون، كما ألغى عدداً من الخصومات الضريبية، لكن على صعيد الإنفاق، استفاد كلينتون من عائد السلام الذي أعقب انهيار الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات مما أدى إلى خفض الإنفاق الدفاعي من 4.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 1993 إلى 2.9 في المئة بحلول عام 2000.

ساعدت هذه الإجراءات في خفض العجز الكلي إلى 1.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية ولاية كلينتون الأولى، الذي كان أقل عجز في الموازنة الأميركية منذ 22 عاماً، لكن الضرائب المرتفعة أدت إلى خسارة الديمقراطيين وفوز الجمهوريين، الذين حصلوا على أغلبية في مجلسي النواب والشيوخ مع بدء عام 1995 مما اضطر كلينتون إلى الدخول في مفاوضات صعبة مع رئيس مجلس النواب الجمهوري آنذاك نيوت غينغريتش، الذي أجبر الحكومة على الإغلاق في العام نفسه لبعض الوقت.

من عجز إلى فائض

وكجزء من مفاوضات الموازنة، أقر الكونغرس في النهاية قانون الموازنة المتوازنة لعام 1997، الذي أبقى على الزيادات الضريبية الأصلية لكلينتون، لكنه خفض ضرائب أرباح رأس المال وخفض الإنفاق على الرعاية الصحية الحكومية، وفي غضون ذلك توسع الاقتصاد، الذي استفاد من الطفرة التكنولوجية بسرعة خلال ولاية كلينتون الثانية.

وأدت معدلات الضرائب المرتفعة على الأميركيين الأكثر ثراء، والنمو الاقتصادي القوي، واستمرار ضبط الإنفاق الحكومي إلى تحقيق فائض في الموازنة قدره 69 مليار دولار أميركي عام 1998، بينما بلغ الفائض ذروته عام 2000 ووصل إلى 236 مليار دولار قبل أن ينخفض إلى 128 مليار دولار في عام 2001، وسمح هذا الفائض الذي لم تشهده البلاد مرة أخرى منذ ذلك الحين للولايات المتحدة بسداد أكثر من 450 مليار دولار من الدين الأميركي.

خيارات اليوم الصعبة

لكن الدرس الذي ينبغي أن يعيه المشرعون الأميركيون اليوم هو أنهم إذا كانوا جادين في موازنة الميزانية، فسيتطلب ذلك بعض الخيارات الصعبة التي تتطلب تقليص الإنفاق على برامج فيدرالية تحظى بتأييد شعبي أو زيادة الضرائب أو مزيج منهما معاً، فمن ناحية تشكل برامج الإنفاق الإلزامية الفيدرالية مثل الضمان الاجتماعي والرعاية الصحية الحكومية ومزايا المحاربين القدامى، ما يقرب من ثلثي الموازنة الفيدرالية حالياً، ومن الصعب تغييرها بالنظر إلى زيادة عدد الأميركيين البالغين 65 عاماً أو أكثر بنسبة 32 في المئة منذ عام 1993، ما أدى إلى زيادة الطلب على الالتزامات الخاصة بهم.

في الوقت ذاته يستحوذ الإنفاق الدفاعي على 14 في المئة أخرى من دولارات دافعي الضرائب، وهو ما يتجاوز بشكل كبير كل النفقات الأخرى في ما يسمى الموازنة التقديرية، التي تشمل كل شيء آخر من النقل والطاقة إلى مراقبة حركة الطيران والمتنزهات الوطنية والأراضي التابعة للدولة، بينما يعد خفض الإنفاق العسكري أمراً مثيراً للجدل يقاومه عديد من الجمهوريين والديمقراطيين في وقت تكثف فيه الولايات المتحدة المساعدات العسكرية لأوكرانيا ويتصور البنتاغون تهديداً من الصين، وهو ما يختلف تماماً عن عائد السلام في عهد كلينتون.

 

وعلاوة على ذلك، تنفق الولايات المتحدة ثمانية في المئة من موازنتها على دفع فائدة على الدين القومي التي قفزت إلى 31 تريليون دولار اليوم، بينما أدت التخفيضات الضريبية الهائلة خلال إدارتي بوش وترمب، والحروب المكلفة في العراق وأفغانستان والإنفاق العام الهائل للتصدي لتداعيات الأزمة المالية عام 2008 وأزمة وباء كوفيد-19، إلى زيادة الضغوط على الموازنة، التي ينتظر أن تتصاعد من زيادة أسعار الفائدة الأميركية على سندات وأوراق الخزانة واضطرار الولايات المتحدة لدفع شريحة أكبر من الموازنة لتسديد فوائد الديون.

وفي حين قدرت أخيراً لجنة السياسة غير الربحية للموازنة الفيدرالية المسؤولة، أنه إذا كان خفض الإنفاق على الدفاع والمحاربين القدامى والضمان الاجتماعي والرعاية الصحية غير مطروح على الطاولة فسيحتاج الكونغرس إلى خفض جميع أوجه الإنفاق الأخرى بنسبة 85 في المئة للوصول إلى التوازن في الموازنة، مما يعني أنه ليس من المجدي تحقيق أي شيء قريب من موازنة متوازنة من دون معالجة الإنفاق العسكري والبرامج الفيدرالية الإلزامية التي ستتطلب إصلاحات ضخمة مثل زيادة سن التقاعد.

هل يمكن سد الفجوة بين الدخل والإنفاق؟

أصدر مكتب الموازنة في الكونغرس تقريراً يحدد 76 خياراً لتقليل العجز في الموازنة، لكن عديداً من الأفكار تتطلب مزيداً من الخيارات الصعبة التي تنذر بغضب الناخبين، مثل التراجع عن بعض أو كل التخفيضات الضريبية الأخيرة، وزيادة الضرائب على الأثرياء، واعتماد ضريبة القيمة المضافة القائمة على الاستهلاك وضريبة أخرى على الوقود، فضلاً عن الإصلاحات الأساسية للبرامج الفيدرالية الإلزامية على رغم أنها ستكون مريرة وتدفع لاستياء شعبي من المستفيدين منها.

لكن الكونغرس يظهر الآن شهية محدودة لمعالجة مثل هذه القضايا بخاصة بين غالبية الديمقراطيين، وبعض الجمهوريين، وعلى سبيل المثال أصدرت لجنة الدراسة الجمهورية، وهي كتلة تضم أكثر من 160 مشرعاً جمهورياً محافظاً، مخططاً للموازنة في يونيو (حزيران) 2022 يعد بموازنة الميزانية خلال سبع سنوات.

وتقترح هذه الخطة تخفيضات في الإنفاق بمليارات الدولارات، وكثير منها سيكون أصعب على الأميركيين ذوي الدخل المنخفض، وتشمل تقليص الرعاية الصحية (ميديكيد) وتقليص مزايا المحاربين القدامى ورفع سن استحقاقات تقاعد الضمان الاجتماعي الكاملة من 67 إلى 70 سنة، لكن في المقابل تدعو الخطة إلى زيادة الإنفاق العسكري ومزيد من التخفيضات الضريبية، الأمر الذي يتطلب مزيداً من التخفيضات الصارمة لبرامج شبكات الأمان الأساسية.

هل من حلول واضحة؟

يرى كثير من المراقبين أنه من دون خطة جمهورية موثوقة لخفض العجز مطروحة على الطاولة، فمن المرجح أن تستمر المواجهة المطولة حول سقف الديون إلى أسابيع وأشهر مقبلة، مما قد يدفع الاقتصاد الأميركي غير المستقر إلى الركود، ويضر بهيبة الولايات المتحدة المالية.

وفي حين أنه من غير المرجح أن يسمح الكونغرس بالتخلف عن سداد الديون، فإن هذا الشجار من شأنه أن يضيع الوقت والطاقة اللذين يمكن إنفاقهما بشكل أفضل على معرفة كيفية التوصل إلى حلول عملية، بخاصة أن موازنة الميزانية ليست غاية، إذ يتفق معظم الاقتصاديين على أن الحكومات يجب أن تخفض الدين العام خلال فترات الرخاء وتدير العجز في الموازنة لمساعدة الناس عندما يكون الاقتصاد ضعيفاً، وأن ما تحتاج إليه أميركا الآن، ليس مزيداً من الحلول السريعة، بل طريق مستدام لتثبيت الدين الوطني، وهذا يتطلب زيادة الإيرادات وتقليل الإنفاق غير الضروري بطريقة مسؤولة.

المزيد من تقارير