Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سعادة التلاقي الإنساني كما جسدتها عدسة ويلي رونيس

معرض فرنسي شامل لأعمال الفوتوغرافي الرائد الذي رافق سنوات التحول

صورة من تظاهرة النصر الكبير في باريس 1936 (خدمة المعرض)

فور انتهاء فترة الإنعزال الطويلة التي فرضها وباء كورونا، غزا الفرنسيون فضاءات الحرية المتوافرة بكثرة في مدنهم، تحثّهم رغبة التبادل والتقاسم التي تميّز طبيعتهم، وأيضاً ضرورة إعادة ترميم الرابط الاجتماعي الذي انقطع على مدى شهور طويلة. وخيط هذا التلاقي من جديد هو الذي منح القائمين على متحف مدينة "بون أفِن" البروتانية فكرة تنظيم معرض للمصوّر الفوتوغرافي الكبير ويلي رونيس (1910 ــ 2009). فكرة صائبة نظراً إلى طبيعة الصور التي أنجزها هذا الفنان طوال حياته، وتتراوح بين لقطات من الحياة اليومية وأخرى لأحداث كبرى، وتشكّل مجتمعةً كمّاً من الشهادات المؤثِّرة على الهزّات التي اختبرها المجتمع الفرنسي خلال القرن الماضي، وأيضاً على إعادة التحام أبنائه في الفضاءات العامة بعد كل هزّة.

ولمن يجهل هذا الفنان المهم، نشير بدايةً إلى أنه ولد في باريس لأب أوكراني مصوّر وأم ليتوانية موسيقية. ولأنه ترعرع في حضن الموسيقى، كان يطمح إلى ممارستها، لكن القدر قرّر له أن يعانق التصوير الفوتوغرافي، ففعل ذلك وعاش من هذا الفن طوال حياته. علماً أن إحباط دعوته الأولى لم يبدد شغفه بالموسيقى، الذي يظهر بشكل واضح في عمله التصويري، سواء عن طريق توقّف عدسته برقّة عند متسوّل موسيقي على "جسر الفنون" في باريس، أو عبر إيصالها إلى مسامعنا مثل موسيقى المهرجانات القروية ومدن الملاهي والحفلات الشعبية وعيد الموسيقى، بالتقاطه حركة الراقصين والراقصات خلال هذه الاحتفالات.

المصور الملتزم

 

الصالة الأولى من المعرض مرصودة لرونيس المصوِّر الملتزم، إذ نستشفّ في الصور المعروضة فيها أن التلاقي، بالنسبة إليه، هو قبل أي شيء، تلاق حول قضية. ولا عجب إذاً في موضوعات هذه الكليشيهات، التي تتراوح بين مظاهرات خلال عيد العمّال، وتجمّعات نقابية، وإضرابات، ومسيرات في ساحة "الباستيل"، وإحياء لذكرى حملة اعتقالات "فيل ديف" المشؤومة. فلأنه كان ابن لاجئَين، ومن الطبقة الشعبية، وجّه عدسته أولاً نحو الأشخاص المتواضعين ونضالهم ضد عدم المساواة. ومن هذا المنطلق، صوّر الحشود المبتهجة في الشوارع إثر انتصار "الجبهة الشعبية" في الانتخابات عام 1936، مخلّداً في واحدة من أشهر صوره طفلة صغيرة يحملها والدها على كتفيه وترتدي قبعة "ماريان"، رمز "الحرية والمساوة والإخاء".

ولكونه مقرّباً من "رابطة الكتّاب والفنانين الثوريين"، تعاون رونيس بانتظام مع صحيفة "لومانيتي" ومجلة "أنظار" الشيوعيتين، وغطّى، برفقة زوجته المناضلة أكثر منه، معظم احتفالات الحزب الشيوعي والأحداث الكبرى التي كان هذا الأخير يقف خلفها، وغالباً لأرشيفه الخاص لا لتلبية طلب ما. وبقيامه بذلك، لم يكن يسعى خلف يوتوبيا شيوعية بقدر ما كان منجذباً بمثال في الأخوّة، جعله يبقى وفياً حتى نهاية حياته لميول قلبه "اليسارية جداً". فحتى حين كان يلتقط صوراً لأشخاص في وضعيات خمول، أثناء قيلولة على ضفّتي نهر المارن، أو خلال استراحات مسروقة من رب العمل، كان يطمح، وينجح، في تجسيد سعادة متواضعة، سعادة عمّال خلال فاصل من الراحة.

 

ولأن رونيس كان يعشق تصوير الجماهير، التي كان يعتبرها "آلة تنتج العجائب"، فصوره تشكّل سرديات قصيرة تروي مجتمعاً أخوياً واثقاً من نفسه، ومتعطّشاً للحرية بعد أهوال الحرب. لكن يجب ألا تدفعنا النشوة المتصاعدة من هذه الصور إلى خطّ بورتريه مبتهج بإفراط له، فاللمسة التي تميّزه عن سائر مصوّري جيله هي تلك الكآبة التي تطبع العديد من أعماله، وتتجلى بقوة في الصالة الثانية من المعرض.

النظرة التائهة

 

ومن هذه الأعمال، تستوقفنا صورة المرأة العجوز ذات النظرة التائهة التي أنجزها في اليوم نفسه الذي صوّر خلاله السعادة المحرِّرة لراقصين في حيّ جزيرة سان لوي الباريسي. تستوقفنا أيضاً الصورة التي التقط فيها التعب وألم العودة إلى الواقع اللذين يظهران على وجوه راقصين آخرين، يتذوّقون قطعة مثلجات أخيرة قبل استئناف حياتهم اليومية. وكذلك الريبورتاج بعنوان "الحانة التعيسة" الذي يتألف من صور التقطها داخل حانات باريس التي كان الطلاب يترددون عليها، ويبدو هو خارج مسرحها وعلى مسافة كبيرة من الماثلين فيها، تماماً كما هو الحال، في الصور التي أنجزها داخل المهرجانات القروية أو خلال الاحتفالات بعيد فرنسا الوطني، ونستشفّ فيها كآبة عميقة تعكس شعوراً عميقاً ومتأصّلاً داخله.

 

الصالة الثالثة تتوقف عند شغف رونيس بالموسيقى وتداعياتها على عمله كمصوّر. ومن الوثائق والصور المعروضة فيها، نعرف أن هذا الشغف الذي انبثق باكراً جداً، جاء نتيجة تأثّره بوالده الذي كان يعشق الأوبرا، وبأمه التي كانت تعلّم العزف على البيانو وغذّت ثقافة ابنها الموسيقية باصطحابه بانتظام للاستماع إلى حفلات موسيقية سيمفونية. نعرف أيضاً أنه تلقّى في سن السابعة آلة كمان من والديه وتعلّم الـ "سولفيج" بصعوبة، لكنه كان يملك موهوبة في فكّ التدوينات الموسيقية بسهولة، ويواظب على تدوين نوتات القطع الموسيقية التي كان يستمع إليها، في دفتر خاص، ويحلم في أن يصبح مؤلّفاً موسيقياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا أمضى العام 1932 في تأليف الموسيقى، قبل أن يلحق به الواقع ويبعده عن حلمه. إذ ما لبث مرض والده أن اضطّره إلى الحلول مكانه في الإستوديو العائلي، ثم إلى امتهان التصوير، من دون أن يتخلى عن شغفه الأول الذي رافقه في عمله الجديد وطبع ممارسته له، كما تشهد على ذلك الحوارات التي أجريت معه والكتابات التي تركها خلفه. وتتبيّن فيها ثقافته المدوخة في الموسيقى الكلاسيكية والجاز، وأيضاً دورها الكبير في انبثاق تقنيات التصوير التي ابتكرها واعتمدها في عمله، وبالتالي عدم مبالغته في قوله مراراً إنه يصوّر مثل ملحّن.

وفي الصالة الأخيرة من المعرض، نشاهد مختارات واسعة من الصور التي التقطها رونيس في مناسبات خاصة مختلفة واحتفظ بها داخل أرشيفه. أعمال إن دلّت على شيء، فعلى انعدام أي حدود فاصلة بين الصورة الشخصية، وتلك التي تنتمي إلى ربورتاج صحافي. فمع أنه أنجزها تارةً أثناء رحلات تزلّج مع الأصدقاء، وطوراً أثناء نزهات على الدراجة مع زوجته وابنه، أو خلال تخييمه في أحضان الطبيعة، انتهت جميع هذه الكليشيهات منشورة في مجلات خلال زمن كان الميل إلى الرياضة والعيش في الهواء الطلق، قد بات بمثابة قضية وطنية داخل المجتمع الفرنسي.

وسواء في هذه الصور أو في صوره "المهنية"، يتجلى رونيس كمصوّر إنساني إلى أبعد حد، إتبع خيطاً أحمر طوال حياته، خيط الأخوّة، مسائلاً الإنسان وحياته اليومية، بعيداً عن أي هاجس استعراضي، ومروّجاً لمجتمع يكون لكل جيل أو فرد فيه صوته وحضوره، ويكون الحب مصدر اللحمة الأول بين الناس. ومن هذا المنطلق، صرّح يوماً: "ثمة في صوري حبّ للمرأة، حبّ للأطفال، حبّ لأولئك الذي يكدّون...". باختصار، حبّ لكل ما يلهب مشاعرنا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة