Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تاريخ لندن الثقافي بين ديكنز وشابلن كما كتبه بيتر أكرويد

كاتب السير الإنجليزي يتابع تراث جيمس بوزويل في تدوين قصص حياة كبار المبدعين

شارلي شابلن (1889-1977) في فيلم "أضواء المدينة" (موقع الفيلم)

لعل الفضل في تبوؤ اللغة الإنجليزية مركز الصدارة في كون الكتاب البريطانيين اعتبروا منذ قرون سادة الأدب العالمي في كتابة السير، يعود إلى جيمس بوزويل والسيرة المدهشة التي كتبها لبنجامين فرانكلين. وهي سيرة تعد عادة أيقونة في مجالها وتقدم في هذا الفن نموذجاً يحتذى ولا يمكن أن يتغاضى عنه أي كاتب للسيرة منذ تلك الأيقونة، بالتالي كان الفضل لبوزويل في اعتبار هذا الفن فناً إنجليزياً بامتياز. وهي مكانة لا ريب أنها قائمة حتى اليوم، ودائماً عبر مجموعة من كاتبي سير يظهرون في أجيال متعاقبة يحذون حذو بوزويل ويسيرون على خطاه مضيفين دائماً أساليب جديدة أكثر عصرية. ولعل بيتر أكرويد هو آخر العنقود الإنجليزي في هذا المجال، بين عشرات آخرين لا يتوقفون عن مد اللغة الإنجليزية عاماً بعد عام بسير لكل أنواع المبدعين والمشاهير ينكب القراء على اقتنائها وكأنها روايات كبيرة. وكلمة كبيرة هنا تحمل بالتأكيد شتى المعاني بما في ذلك ضخامة حجم السيرة بحيث لا يقل عدد صفحات واحدتها عن 600 إلى 700 صفحة، وقد تصل إلى ما يفوق الـ1000، كما حال السيرة التي كتبها بيتر أكرويد لتشارلز ديكنز، وتلك التي أصدرها بعد هذا الأخير بسنوات لشارلي شابلن لتشغل فيها بداياته اللندنية وحدها العدد الأكبر من نحو 1000 صفحة مكثفة ممتعة ومدهشة.

مزج السيرة بالرواية

ولا غرابة في الأمر. فأكرويد حين يريد أن يقدم نفسه يفضل أن يذكر أنه روائي، حتى وإن كانت بعض أفضل رواياته وأكثرها نجاحاً تكاد تكون بدورها سيراً لمبدعين كبار كالشاعر تي إس إليوت وأوسكار وايلد وتشترتون، علماً أن السير "الحقيقية" التي يكتبها تبدو في نهاية الأمر وكأنها روايات، ولن نذكر سوى أشهرها حتى اليوم كتلك التي وضعها لشكسبير أو لتشوسر أو تورنر، وبخاصة لديكنز، والأخرى التي روت حياة توماس مور، والأحدث من بينها جميعاً: السيرة التي كتبها كما أشرنا لشابلن في لندن، علماً أن لندن شغلت قلم أكرويد ومخيلته إلى حد أنه كتب يوماً واحداً من أقوى الكتب عن التاريخ الثقافي للمدينة بعنوان "لندن: سيرة"، كما أن له كتاباً آخر عن لندن عنوانه "لندن تحترق"، ونعرف أن لندن هي التي يخصها أكرويد بالعدد الأكبر من فصول وصفحات كتابه ذي الأجزاء المتعددة التي يتألف منها سفره "تاريخ إنجلترا" (في ستة أجزاء وبضعة آلاف من الصفحات)، كما يفعل حين يكتب سيرة نهر التيمز، دون أن ننسى أنه أصدر في عام 2004 كتاباً بات معتمداً اليوم عن "مصر القديمة". والحال أننا نجد أنفسنا متوقفين عن استكمال هذه اللائحة هنا لأن مجرد فعلنا هذا يعني استغراق اللائحة المساحة المخصصة لنا. فقط لا بد أن نشير إلى أن أكرويد (المولود عام 1949 في إيست أكتون بلندن)، والذي كتب في عديد من المجالات يفضل أن يعد روائياً وشاعراً أكثر من أي شيء آخر.

سيرة جديدة أخرى

والحقيقة أن هذا واضح في أسلوبه ولغته، ولا سيما في السيرة التي أقدم على كتابتها عن شابلن، والتي منذ أعلن عن اشتغاله عليها تساءل كثر عما يمكن بعد لهذا الكاتب ذي القلم السيال أن يضيف، بعد، إلى أكثر من مئتي سيرة كتبت لمبتكر شخصية "شارلو الصعلوك" الخالدة، جرى إحصاؤها في المرحلة التي صدر فيها هذا الكتاب، لكن الجواب جاء في الكتاب نفسه. فالحال أنه في غمرة انشغال المهتمين والقراء العاديين بالمساهمات الأساسية في تاريخ الفن السابع وتاريخ هوليوود وبقية التواريخ المتعلقة بشابلن، كانوا يمرون مرور الكرام دائماً على تلك السنوات الأولى من حياته، السنوات اللندنية، وهي بالتحديد السنوات التي اشتغل عليها أكرويد بشغف يرتبط بشغفه اللندني. فهنا، وقبل أن يصبح شابلن نجماً أميركيا كبيراً كمنتج وكاتب ومخرج، وزير نساء على الصعيد العالمي بنحو ألفي غزوة نسائية كان محور كثير منها صبايا مراهقات تثير علاقاته مع بعضهن فضائح ما بعد أن من فضائح، وذلك المنادي بقيم ديمقراطية تكاد تنم عن يسارية كان من شأن المعلمين الماركسيين الكبار أن يعتبروها "طفولة يسارية"، وتسببت له في مشكلات مع اليمين الأميركي المتطرف كما مع الإدارة الأميركية انتهت بمبارحته الولايات المتحدة، ولكن – وهذا ما يثير دهشة أكرويد وتساؤلاته – ليس ليستعيد علاقته بلندن، بل ليصبح مواطناً أوروبياً يعيش مع أولاده العديدين في سويسرا كأغنى أغنياء العالم.

من "الكيف" إلى "اللماذا"

وهنا، في هذا السياق لا يبدو غريباً أن يطرح أكرويد ليس سؤال الـ"كيف"، كما يفعل معظم كاتبي السير العاديين مثلاً، بل سؤال الـ"لماذا" مستنداً، ولو مواربة، إلى قراءاته الفرويدية المعمقة. ولعل السؤال الجوهري هنا، بحسب أكرويد في الأقل، يتعلق بما كان يدفع شابلن، وعلى الأقل خارج عبقريته السينمائية، إلى الإكثار من إحاطة نفسه بالنساء وخوض حكايات الحب والعلاقات دون تروي، وحرصه الكبير على الحصول على ثروات ينفقها إنفاق الأثرياء. حسناً، كان الجواب الإجمالي عن كل هذه الأسئلة واحداً: فتش عن الطفولة. فبالنسبة إلى أكرويد لا شك أن طفولة شابلن اللندنية كانت هي ما صنعه وحدد سلوكه خلال المراحل التالية من حياته. ومن هنا كان من الطبيعي لأكرويد أن يعود إلى تلك السنوات التي لن تنتهي إلا مع مجيء العقد الأول من القرن العشرين والرحيل إلى أميركا ليس فقط هارباً من برد لندن والبؤس الذي عايشه فيها حتى سنوات مراهقته، بل من ذلك الماضي نفسه. الماضي الذي لئن كان معروفاً ودائماً ما رواه مؤرخو حياة الرجل بكونه أسس لعديد من مواقفه وأفكاره، إنما دون غوص في التفاصيل، وربما مكتفين أحياناً بالقول إن طفولة شابلن تكاد تكون "طفولة ديكنزية"، ولكن دون الإمعان في تفسير المعنى الحقيقي لهذا التعبير على اعتبار أنه "توصيف عام لا شك يفهمه كل من قرأ رواية من روايات ديكنز"، ولكن الآن لدينا هنا ذلك الكاتب ذو المعرفة الضخمة بعالم ديكنز كما بسيرة لندن، معطوفاً على الروائي ذي الخيال الخصب والأسلوب التوليفي البديع، بالتالي لم يكن من شأن هذا الكاتب إلا أن يلجأ إلى ما لديه من معرفة وما يملكه من مخيلة، ليربط الأمور ببعضها، فيخبرنا مثلاً أن تقديس المرأة الذي نجده في أفلام شابلن ليس إلا تعويضاً عن واقع أن أم ذلك الطفل الذي كانه كانت على الأرجح مومساً. ولم يكن له بالتالي أب حقيقي، ويخبرنا أن الفقر المدقع كان وراء حرصه اللاحق على المال يعيش به تلك الحياة التي طالما عجز حتى عن أن يحلم بأنها ستكون حياته يوماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نسيان متعمد

أما مغامراته النسائية التي لا تعد ولا تحصى فتعود إلى افتقاره إلى الحنان في طفولته ومراهقته. وكذلك، ودائماً بحسب أكرويد، إذا كان قد عرف عن شابلن سيطرته التي تكاد تكون ديكتاتورية على زوجته الأخيرة أونا أونيل، ابنة الكاتب المسرحي الأميركي الكبير يوجين أونيل وعلى أولاده على عكس ما كان يمكن أن يتوقعه متابعو أفلامه فما هذا إلا لأنه كان يموت رعباً من أن يسلك أولئك الأولاد دروب عيش سيئة، بالتالي كان يريد أن يتعامل معهم وكأنه السيد الوحيد والمطلق للعالم الذي يحيط به وبهم. والحقيقة أن ثمة تفسيراً أخيراً يبدو لنا أن أكرويد استنكف عن الدنو منه كما كان يمكن لنا أن نتوقع في هذا السياق نفسه: التفسير المتعلق بامتناع شابلن حين بارح أميركا، مطروداً تقريباً، عن أن يتجه ليعيش في مسقط رأسه، لندن، كما كان يمكن أن يفعل، بل تحاشى ذلك. ويقيناً أن ذلك التحاشي يعود إلى تلك الذكريات الطفولية السئة التي كان يحملها عن مدينته ولم يشأ أن يعود ليحييها من جديد. فما الذي دفع أكرويد إلى موقف التجاهل هذا؟ حسناً سنجيب مستندين إلى أسلوب كاتب السيرة نفسه في التحليل: ربما لأنه كان مغرماً بلندن إلى درجة منعته من الدنو من هذا التفسير بشكل واضح. ولسنا نحاول أن نمزح، إذ نقول هذا، فللكاتب، أي كاتب، حتى ولو كانت له موضوعية أكرويد المطلقة، تفضيلاته ومواقفه انطلاقاً من فكرة يؤمن بها أكرويد، وهي أننا حتى حين نكتب عن آخرين فإننا نكاد نكتب عن أنفسنا أيضاً!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة