Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البالة" ملاذ السوريين من غلاء الملابس

قادمة من منشأ أجنبي وتلاقي رواجاً كبيراً لأسعارها المخفضة وزبائن الطبقة الوسطى يبحثون عن الماركات

الملابس المستعملة سلعة في متناول السوريين (مواقع التواصل)

بين كومة من الثياب فوق بسطة صغيرة احتلت مكاناً على قارعة الطريق، تفتش الشابة السورية هنادي عن قطعة تناسبها بينما تتزاحم نسوة إلى جانبها وقد امتدت أياديهنّ بشكل عشوائي يبحثن عما يناسب أذواقهنّ، ليلتقطن بشكل سريع الملابس ويحدقن بها لثوان معدودات قبل اتخاذ قرار الشراء.

عينا هنادي وكل عيون المشتريات المتحلقات حول كومة الملابس المستعملة لا تتوقف بالتنقيب بين الألوان وأشكال الأثواب، وبصوت رخيم ينادي البائع محفزاً المارة بعبارات متكررة من دون انقطاع يتردد أصداؤها بكل ثقة "الأوروبي بـ 8 آلاف ليرة يا ناس".

قرابة دولار واحد ثمن أية قطعة صغيرة من البضاعة التي يمتلكها هذا البائع، وحين سماعه يتهافت المارة إليه وينبشون للحصول على قطعة من ثياب خاصة بالأطفال سعرها يساوي هذه الأيام ما يعادل قطعة حلوى. تمسك هنادي عدداً من الثياب وبشعور الرضا يختلجها تتحدث عن كسبها للتو ملابس أجنبية بسعر "لا يصدق" خمسة منها تساوي قطعة واحدة يمكنها شراؤها من محال بيع الملابس الجديدة في الأسواق.

بين العرض والطلب

ويلاقي سوق الثياب المستعملة المعروفة بـ "سوق البالة" رواجاً وإقبالاً متزايداً من قبل الشارع السوري بعد غلاء فاحش وصلت إليه أسعار الثياب الجديدة، إذ إن راتب الموظف لا يكفي لجلب معطف يقي صاحبه برد الشتاء.

ولم تكن رؤى وهي أم لثلاثة أطفال من السيدات اللاتي تستهويهنّ فكرة الشراء من الأسواق المستعملة، بل كانت ترفضها بشكل تام، ولعلها منذ سنوات الحرب بدأت تعتاد على زيارة هذه المحال والبسطات المتناثرة على الطرقات قائلة إن "ما يميزها هو أسعار تناسبنا نحن أصحاب الدخل المحدود، فأنا موظفة وكذلك زوجي وما نتقاضاه لا يكفي لسد حاجات أطفالنا من الملابس الجديدة".

أما أبو سليمان، ويعمل مدرساً، فهو يشيد بجودة تلك البضائع قائلاً "علاوة على كونها رخيصة وتناسب أصحاب الدخل المحدود فإنها تتميز بجودتها، ويقال عنها (البالة) أي إنها مستهلكة، لكن هذا الأمر ليس في كل الأحوال، فهناك ألبسة جديدة بين كثير من الثياب التي أشاهدها".

البالة والمخملية

ومع ازدياد الإقبال على هذا النوع من الملابس أخذ التجار على عاتقهم زيادة كميات البسطات والبضائع، ولوحظ معها توسع في مجال العمل ونطاقه، ويرى تاجر الأقمشة المستعملة سامي قصار زيادة في نسبة الإقبال بنحو 25 في المئة، لا سيما في أسواق مدن حدودية مثل اللاذقية، وهي مدينة ساحلية تصل إليها البضائع من الشحن البحري أو درعا جنوب البلاد وهي محافظة حدودية ومنفذ بري باتجاه الأردن.

يقول قصار "أعتقد أن تلك المدن وغيرها مثل إدلب الملاصقة لتركيا أو مدينة دير الزور من جهة العراق ستكون الملابس المستعملة الواردة إليها أرخص بكثير وبأثمان أقل من تلك الأسواق التي تبيع في المدن الوسطى لأسباب كثيرة، ومن أبرزها ارتفاع أسعار شحن البضائع وزيادة كلف إيصالها مع ارتفاع إيجار المحال وزيادة الضرائب".

 

ويلفت النظر إلى "تفاوت بكل من الأسعار والجودة، فالملابس الجديدة المنتجة محلياً ارتفعت أثمانها لأسباب تتعلق بالمنتج وارتفاع كلف الإنتاج وشح المواد الأولية المصنعة، بينما لاقت البالة الاستحسان من المستهلكين في وقت بات يلاحظ مدى جودتها بخاصة أنها صناعة أوروبية المنشأ، وتأتي معبأة في أكياس كبيرة".

وتابع، "نشتريها بالعملة الصعبة ونبيعها بالعملة المحلية عبر بيانات جمركية، واللافت أن البالة فيها قطع من ثياب وأحذية ومعاطف بمختلف الأنواع النسائية والرجالية والولادية، ومنها ما هو جديد بالمطلق، لكن موضته انتهت في بلد المنشأ وأرسل من المخازن إلينا، ولعل كثيرين من أصحاب الطبقة المخملية يتهافتون بالسر للحصول على ملابسهم من عندي".

القوة الشرائية إلى نضوب

وفي المقابل لا تستطيع شريحة من الناس تقطعت بهم سبل العيش ويقفون على حافة الفقر الشراء حتى من سوق البالة بعد ارتفاع الأسعار، ويقول أحد الباعة إن "زبائن كانوا يأتون إلينا لم نعد نراهم بعد الغلاء، وربما يتمكنون من سد رمقهم فالغذاء أولاً، بينما نشاهد زبائن جدداً من الطبقة الوسطى ممن كانوا لا يحضرون إلى سوق البالة سابقاً قبل الحرب، لكن الغلاء أجبرهم على القدوم".

وتعيش سوريا أزمة اقتصادية خانقة انعكست على المشتريات والمنتجات وتسببت بتضخم غير مسبوق، ولم تستطع الليرة التي تتجه إلى مزيد من الهبوط مجاراة ارتفاع الدولار الذي يقارب 6500 ليرة للدولار الواحد، مع تذبذب في سعر الصرف تشهده السوق السوداء أو الموازية بالسعر الرائج، وترك كل ذلك تخبطاً تعيشه معظم الأسواق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأمام بسطة تعج بالملابس يقف البائع أبو بسام ويواصل صمته بعد أن يجيب عن أسئلة المشترين والمتفرجين، وبينما يدس يديه في جيوبه من شدة برودة الجو، يقول "أعمل هنا منذ أكثر من عقدين بهذه المهنة ولدي زبائن يأتون ليأخذوا طلباتهم كل سنة لكن نسبتهم زادت هذا العام".

مفاجآت بـ "الرصات"

ويتفاوت ثمن الأغراض بين محل وآخر وبين بسطة وأخرى، فأسعار الملابس في المحل مرتفعة بحكم أجور العمال وبدلات الإيجار المرتفعة أو بحكم البضائع الأكثر حداثة إلى حد كبير.

 وعلى رغم ذلك ينتقد كثيرون ارتفاعات أخذت تصيب الـ"بالة" خلال الآونة الأخيرة وبخاصة ملابس الشتاء، لا سيما أسعار المعطف الذي يتراوح ثمنه بين 50 إلى 100 ألف ليرة، أي ما يقارب 15 دولاراً، وغيره من الألبسة الصوفية.

ويعزو أصحاب المصلحة ذلك إلى جودة البضاعة، ويختلف ثمنها إذا ما كانت ماركة عالمية ومهما غلت فسعرها مناسب، ويروي أحد تجار البالة قائلاً "حين تصل إلينا الرصة في كيس كبير ومحشو لا نعرف محتواه نشتري الكيس بما حمل، أي أنك تشتري سمكاً في الماء، وفي كثير من الأحيان نذهل مما نشاهد، إذ نجد منتجات لماركات وألبسة مميزة وغالية الثمن، وبالتأكيد لن تباع بسعر بخس لكنها تبقى مناسبة، إضافة إلى تقليد نتبعه ببدء تخفيضات بنسب كبيرة مع نهاية كل فصل".

البيع عن بعد

وثمة نوع من البيع للقطع المستعملة من ملابس وأغراض لا ترتبط كثيراً بسوق البالة، بل هي حاجات شخصية لأناس تدنت حالهم الاقتصادية، وبالتالي أخذوا ينشرون صوراً لألبستهم وأمتعتهم الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

وترى المتخصصة في مجال التسويق جمانة أكتع أن انتشار هذه الطريقة عبر الفضاء الافتراضي دفع إلى إنشاء صفحات لـ "الأغراض المستعملة".

وأضافت، "كانت هذه الصفحات مخصصة لبيع أغراض كثيرة مستعملة مثل السلع الكهربائية والأثاث المنزلي، وهي فكرة منتشرة بالتأكيد في جميع أنحاء دول العالم تجمع بين البائع والشاري من دون وسيط، لكن كثيرين يبيعون ألبستهم للاستمرار في العيش والحياة ولانعدام النقود لديهم، وهناك أناس يبيعون ملابسهم القديمة بهذه الطريقة وإضافة بعض النقود لشراء ملابس جديدة".

ومع كل هذا تبقى الـ "بالة" ملاذاً للجميع، وأزالت مع هذا الغلاء الفروق الطبقية بين أصحاب الدخل المحدود وغيرهم من الراغبين في شراء منتجات أجنبية غالية بأسعار معقولة.

اقرأ المزيد

المزيد من منوعات