Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد ماض مشرق... "ميزان العدل" في لبنان ليس بأفضل أحواله

يعاني القضاء اللبناني التدخلات السياسية والقانون الجديد بانتظار الإقرار

تظاهرة منددة بمدعي عام التمييز في لبنان القاضي غسان عويدات أمام قصر العدل ببيروت، السبت 28 يناير الحالي (أ ف ب)

ظالمة هي الأحكام السلبية التي تنال من تاريخ القضاء اللبناني انطلاقاً من حقبة الانهيار المالي والسياسي في لبنان وبلوغ "قصر العدل" في بيروت أسوأ حالاته بعدما بلغت الأهواء السياسية والطائفية مداها. فالعودة إلى تاريخ "أم الشرائع" بيروت، ينبئ بأن "العدلية" (قصر العدل) كانت حاضنة للباحثين عن المعرفة القانونية والفقهية، ومؤسسة لتطوير القانون وتفسيره على يد كبار الباحثين.
ولا يحتاج الباحث إلى العودة للتاريخ الروماني عندما تأسس أول معهد للحقوق في الشرق، بل يكفي أن نعود إلى المرحلة السابقة، أي تلك اللاحقة لتأسيس معهد الدروس القضائية في عام 1961، التي تعكس الاهتمام الكبير في التكوين الأخلاقي والعلمي والحقوقي للقضاة في لبنان، ليصبح "قوس المحكمة" لاحقاً المختبر الحقيقي لقدرة القضاة على الاسترشاد بقيم العدالة والإنصاف وحماية الملكية الفردية وتأمين حقوق المتقاضين وتحصين هيبة الدولة وحفظ الانتظام العام للمجتمع.
واليوم، بعد ستة عقود، دخل لبنان مرحلة انهيار الهيكل، فبعد انهيار النظام الاقتصادي الليبرالي والنظام المصرفي والاستشفائي 

والتربوي، ها هو النظام القضائي يترنح تحت وطأة ما وصفه "نادي قضاة لبنان" بعبارة "من بيت أبي ضربت"، تعبيراً عن رفضهم "عرقلة سير العدالة" في ملف التحقيق بتفجير مرفأ بيروت.   

"باسم الشعب اللبناني"

تاريخياً، استمد القضاء اللبناني هيبته من المؤهلات الشخصية والعلمية لقضاته، ومن وقع هيبة الدولة في نفوس المواطنين. ويعود القاضي حاتم ماضي (مدعي عام التمييز سابقاً) في الذاكرة إلى المرحلة السابقة للحرب الأهلية في لبنان، "آنذاك كان يأتي القضاة المتمرنون من البلاد العربية لكي يتدربوا في لبنان، نظراً إلى المكانة العلمية للمؤسسة القضائية، والغنى الكبير برجال القانون المتأثرين بالفقه الفرنسي". ويمتدح ماضي تأسيس "معهد الدروس القضائية" الذي أسهم في تحويل القضاة إلى رجال قانون وباحثين، مشيراً إلى أن "الأمر ما زال مستمراً حتى اليوم، حيث التركيز على منهجيات البحث القانوني، ومواكبة المعارف الحديثة من أجل تطوير الأحكام وإحقاق الحق".
لذلك فهو يميز بين "صفات أصيلة" لا بد أن يتمتع بها القاضي بصورة مسبقة كالنزاهة والأخلاق والاستقامة، وأخرى "مكتسبة"، لأن على القاضي أن يستمر في البحث العلمي والكتابة القانونية. لذلك، لا بد أن يخضع لتأهيل علمي مستقل، وأن ينفتح على العالم الجديد ليطلع على آليات عمل "التوقيع الإلكتروني" أو التطورات في العالم الرقمي. من هنا، يرحب ماضي بالتحديثات الطارئة على مناهج معهد الدروس القضائية، وعلى آلية اختيار القضاة المتمرنين في لبنان لناحية فرض المقابلة والفحص النفسي لاكتشاف استقامة القضاة وقدرتهم على التواصل. كما يطالب بضم خبراء من كل المجالات العلمية إلى مجلس القضاء الأعلى، متسائلاً "ما المانع من انضمام عالم فيزياء أو متخصص بالتربية وعلم النفس وغيرها من العلوم إليه؟"، وهو أمر مشابه لنظام هيئة المحلفين في النظام القضائي الأنغلوساكسوني.  

القضاء اللبناني مدرسة حقوقية

واحتضنت "العدلية" قضاة من ذوي الكفاءات المميزة، يستذكر حاتم ماضي من بينهم يوسف جبران وعاطف النقيب وفيليب خير الله ومصطفى العوجي. ومن خلال العودة إلى سيرهم نكتشف كيف استجمع هؤلاء القضاة وغيرهم بعضاً من صفات الباحثين والزاهدين المتقشفين إلى درجة وصف من خلالها القاضي فيليب خير الله بـ"راهب العدلية" نظراً إلى نزاهته، بينما كان القاضي يوسف جبران "يصدر قرارات ولا يؤدي خدمات".
فإلى القضاة عاطف النقيب وجورج سيوفي وزهدي يكن ومصطفى العوجي يعود الفضل في وضع أضخم مجلدات شرح القانون المدني (الموجبات والعقود) على مستوى أحكام العقد والمسؤولية المدنية، وغيرها من المسائل، ناهيك بإسهامات متنوعة في مجال أصول المحاكمات الجزائية وشرح قانون العقوبات والجرائم الاقتصادية. وعلى يد هؤلاء تتلمذ كبار القضاة، كما تعرف طلاب القانون على "ألف باء" القانون من خلال أعمالهم. كما لا يمكن تجاهل جهود بعض القضاة المؤسسين لبعض فروع القانون كجهد القاضي محمد علي الشخيبي في مجال قانون العمل.
ولعب القضاء دوراً في الحفاظ على تماسك الدولة اللبنانية والحفاظ على هيبتها حتى خلال الحرب الأهلية، حيث استمر القضاة في العمل بما توفر لديهم على رغم المتاريس، كما أسهم في الحفاظ على ملكيات الأفراد، وإنزال العقوبة بالمجرمين، وترك الأمل بعودة الدولة اللبنانية قائماً.
ويرى القاضي حاتم ماضي أن "التدخل السياسي في القضاء كان حاضراً في كافة الحقبات التاريخية، فكان موجوداً في مرحلة الحرب، وكذلك في زمن الوجود السوري في لبنان، إلا أنه لم يكن بالوضوح الذي نشهده راهناً، وصولاً إلى الصراع الداخلي داخل المؤسسة القضائية، مما جعل حراس العدالة القدماء في حالة من الصدمة والذهول".  

لبنان والقضاء الدولي

شكل اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005 محطة مفصلية في تاريخ القضاء اللبناني، عندما علق اللبنانيون، أو في الأقل جزء منهم، آمالهم على العدالة الدولية لكشف حقيقة الجريمة، بعد فشل المؤسسة الوطنية بفعل التداخل العميق بين النظام السياسي والقضاء، والانقسام المذهبي الطائفي، وضعف الدولة في مقابل قوة الأحزاب والتنظيمات العسكرية.
ويشرح الخبير الجنائي الدولي نضال الجردي أسباب تدخل العدالة الدولية في الجرائم السياسية والإنسانية، والتي يحددها بسببين، "إما لعدم رغبة الدولة في تحقيق العدالة، وإما لعدم قدرة مؤسسات إنفاذ القانون على القيام بعملها كما يجب"، معتبراً أنه "في حالة القضاء اللبناني تتوافر الحالتين، فمن جهة هناك تدخل واضح في عمل مؤسسة القضاء لمنعها من القيام بواجباتها، بالتالي عدم الرغبة في إحقاق الحق، ومن ناحية ثانية هناك عدم قدرة مؤسسات إنفاذ القانون عن القيام بواجباتها. ففي جريمة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، كان المشتبه فيهم، ومن ثم المدانون، موجودين في بيروت، ولم تبذل المؤسسة الأمنية أي جهد لتنفيذ مذكرات توقيفهم وتقديمهم للمحاكمة والعقاب. وهذا الأمر، تكرر في ملف مرفأ بيروت، عندما أعلن قادة الضابطة العدلية جهاراً أنهم لن يقوموا بتنفيذ البلاغات ومذكرات التوقيف الصادرة عن المحقق العدلي طارق البيطار".
يجزم نضال الجردي بأن "لبنان يرتكب مخالفات واضحة لالتزاماته الدولية، وتحديداً العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية". ويعتقد الجردي أنه "مع تأخر لبنان في تطبيق موجب الحماية وتحقيق حقوق الإنسان، قد نكون أمام إمكانية لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة من خلال مجلس حقوق الإنسان، لأن لبنان ليس عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وهناك صعوبة لتحقق شروطها".
ويأسف الجردي لأن "الحقيقة في لبنان كانت دوماً مجرد وجهة نظر منذ اغتيال الصحافي سليم اللوزي في الرابع من مارس (آذار) 1980، ويعود ذلك إلى النظام الطائفي وعدم القدرة على إدانة أشخاص منتمين إلى جهات معينة". وينبه إلى "أننا قد نكون أمام مسؤولية الدولة عن عدم تأمين موجب الحماية للأفراد على أراضيها ضد الانتهاكات الواسعة، وهي مسؤولية مستقلة عن مسؤولية الأفراد عن أفعالهم، لذلك فإن استنكاف الدولة اللبنانية عن تحقيق العدالة سيضع لبنان أمام المساءلة الدولية على غرار ما جرى في الحالة اليوغوسلافية وفي ميانمار".         

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وزارة العدل والحالة اللبنانية

تختزل "العدلية" اليوم مشهد الانهيار في لبنان... قضاة يعتكفون بسبب عدم قدرتهم على الوصول إلى مكاتبهم، وقاعات مظلمة، وممرات غير نظيفة، ومرافق متهالكة. وجاء دخول الصراع إلى أروقة "العدلية" ليشكل نقطة تحول سلبية في تاريخ القضاء الذي يعاني مشكلات تراكم الملفات وتعقيد الإجراءات. ويرفض القاضي إيلي الحلو مستشار وزير العدل هنري خوري، تعميم الاتهامات على القضاء، لأن "هناك قضاة يقومون بعملهم أسرع من المعهود فيما هناك فئة من الكسالى. كما لا يمكن لوم القاضي لتأجيل الجلسات عندما لا تقوم الضابطة العدلية بسوق المشتبه فيهم أمام المحكمة"، مطالباً المواطنين بتشكيل "لوبي" للضغط من أجل إقرار القوانين التي تكرس استقلالية القضاء وتمنع التعسف وعرقلة سير العدالة، عبر دفع مجلس النواب باتجاه إقرار اقتراح القانون الهادف إلى عدم كف يد القاضي عن النظر في قضية ما لمجرد تقدم أحد المدعين بدعوى رد أو مخاصمة ضده. ورداً على سؤال حول تخلف القضاء اللبناني عن النظر في قضايا الفساد المتصلة بالانهيار المالي، ومن ثم انتظار لبنان قدوم قضاة من لوكسمبورغ وألمانيا وفرنسا لإثارتها، يقر القاضي الحلو بوجود إشكالية في هذا المجال بما يتصل بعمل النيابة العامة وعدم الادعاء في بعض الملفات المالية، معتبراً أنه "لا يمكن اتهام القضاء اللبناني بالتقاعس لمجرد عدم قيام قاضٍ أو اثنان بعملهما".

استقلالية القضاء محاولة أخيرة

وشكل عدم استقلالية القضاء عن السياسة عبئاً على السلطة القضائية في لبنان. ونجح ضغط حراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في فرض مطلب "قانون استقلالية القضاء" على طاولة البحث في أوساط المنظمات غير الحكومية والسلطتين التنفيذية والتشريعية.
ويوضح النائب بلال عبدالله عضو لجنة الإدارة والعدل أن "اللجنة أنجزت دراسة وإقرار أكثرية مواد القانون بعد الاستماع إلى ملاحظات وزير العدل"، كاشفاً عن توجه لدى غالبية الأطراف إلى "منح صلاحيات واسعة لمجلس القضاء الأعلى في التعيينات القضائية، وكذلك جعل أعضاء المجلس الـ10 منتخبين من قبل القضاة مباشرةً، وإلغاء تدخل السلطتين التنفيذية والتشريعية في التعيين". ورداً على سؤال احتمالية سقوط الاقتراح عند عرضه على الهيئة العامة لمجلس النواب بسبب سحبه صلاحية التعيين من السلطة السياسية، ومن ثم حرمانها من أحد أسلحتها للتأثير، يؤكد عبدالله أن "لجنة الإدارة والعدل تمثل غالبية الكتل النيابية، وبما أن كل عضو يمثل كتلة أو حزباً، فإن المنطق يقول إن الكتل ستصوت لصالح هذا القانون"، ولكنه في المقابل لا يستبعد تكرار تجارب سابقة من خلال تخلي بعض الكتل عن التزاماتها.
ويحمل عبدالله "الطائفية السياسية" مسؤولية ما يعصف بالقضاء، ومن هنا "يتوجه القانون الجديد إلى إقرار المداورة في المواقع القضائية، فلا يبقى موقع حكراً على شخص أو طائفة. كما أن القاضي لا يبقى في موقعه لأكثر من مرتين بموجب التعيينات والمناقلات القضائية".
من جهة السلطة التنفيذية، يستعرض القاضي إيلي الحلو الملاحظات التي تقدم بها الوزير خوري إلى لجنة الإدارة والعدل "التي لم يؤخذ بمعظمها"، فهو حاول أن يحقق في ملاحظاته استقلالية القضاء في لبنان وتالياً مجلس القضاء الأعلى من جهة، وأن "يراعي القانون الجديد الوضع اللبناني، والاستقلالية من جهة، ومبدأ التعاون بين السلطات من جهة أخرى". ويوضح الحلو أن المقترح يحترم النصوص الدستورية والقانونية الأخرى، كما أنه قابل للتطبيق، لافتاً إلى أن "الأعضاء الثلاثة الحكميين: رئيس مجلس القضاء الأعلى رئيس التفتيش القضائي ومدعي عام التمييز، هم من موظفي الفئة الأولى التي ينطبق عليها نص المادة 95 من الدستور اللبناني، ولا بد من مراعاة التوازن الطائفي فيها"، بالتالي فإن جعل الأعضاء الـ10 منتخبين سيتطلب تعديلاً دستوري، وهو أمر صعب حالياً.
ويلفت الحلو إلى أن "مستشاري وزير العدل هم من القضاة، ويعملون بنفس قضائي، وليس سياسياً"، وهناك تمسك بأن "تصدر التشكيلات بقرار من مجلس القضاء الأعلى ووضع معايير لتعيين قضاة المجلس بما يراعي مبدأ أهل مكة أدرى بشعابها". ويضيف الحلو أن فريق وزارة العدل يدعو إلى "أن تنسحب الاستقلالية إلى الاستقلالية المالية - المادية، بحيث يتم اقتطاع المعاشات والنفقات مباشرة من رسوم الدعاوى والمعاملات، ولكن هناك رفضاً سياسياً لهذا المطلب".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير