Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عدوى القلق تصيب المصريين والسبب اقتصادي

الخوف من تداعيات الأزمة حديث المواطنين على رغم محاولات الطمأنة الحكومية

 الأزمة الاقتصادية في مصر تشهد تأزماً منذ بداية العام الماضي (رويترز)

الغلاء حديث الصباح والمساء... هكذا عنونت إحدى الصحف المصرية اليومية الكبرى عددها منذ أيام. فالمصريون لا حديث لهم سوى التعجب وأحياناً التندر والتذمر من أسعار مختلف المنتجات، بدءاً من السيارة وحتى طبق الكشري، التي شهدت قفزات متتالية خلال فترة وجيزة، مما دفع المصريين للتساؤل إلى أين يمضي حالهم والقلق على مستقبل أبنائهم. وبدا أن صوت ذلك القلق قد وصل إلى قصر الاتحادية حيث الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي أكد ملاحظته قلق المصريين، ودعاهم لعدم الخوف لأن "ربنا موجود ولن يتركنا".

حديث الرئيس المصري جاء خلال قداس عيد الميلاد في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في السادس من يناير (كانون الثاني) الحالي، وتزامن مع احتدام الأزمة الاقتصادية بفقدان الجنيه المصري نحو ربع قيمته أمام الدولار خلال بضعة أيام في بداية العام، مما بدد الآمال بعام أفضل من سابقه على الصعيد الاقتصادي، ودفع بعضهم لتوقع توجه مصر إلى انهيار مصرفي شبيه بما جرى في لبنان.

وعلى رغم تواصل الأزمة الاقتصادية في مصر منذ بداية العام الماضي، إلا أن تلك كانت المرة الأولى من رئيس البلاد التي يشير فيها صراحة إلى شعوره بقلق الشعب، وحاول طمأنة المصريين بالتأكيد على أن الدولة حريصة على تخفيف تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية على المواطن، مشيراً إلى أن القيادة السياسية لن تتخذ إجراءات من دون إشراك الشعب بكل شفافية، داعياً المواطنين إلى عدم الانسياق وراء أشخاص "غير مسؤولين".

منتدى الآراء على مواقع التواصل الاجتماعي بدا فيه بوضوح التعبير عن القلق من الأزمة الاقتصادية، بين أدعية دينية ودعوات للتكافل الاجتماعي وتندر على حال الجنيه وأحياناً استرجاع لذكريات عهود سابقة. كان الغلاء وكيفية التعامل معه هو الشاغل الأكبر للمصريين، وارتدى كثيرون عباءة الخبراء الاقتصاديين سواء لاستنتاج بما بعد الأزمة، بعضهم يرى أن المستقبل سيكون مزدهراً وآخرون يعرضون سيناريوهات سوداء تتشابه مع أزمات دول أخرى مثل الأرجنتين.

طمأنة رسمية

أجهزة الدولة المصرية تحاول مجابهة ذلك القلق الشعبي بالتأكيد على توافر السلع الأساسية. ففي اجتماع للرئيس السيسي مع عدد من الوزراء والمسؤولين في العاشر من يناير، تطلع الرئيس على موقف المخزون الاستراتيجي والأرصدة لجميع السلع الغذائية الأساسية للدولة، موجهاً "بالمحافظة على استمرارية المخزون الاستراتيجي للدولة من السلع الغذائية الرئيسة، فضلاً عن تعظيم القيمة المضافة لتخزين السلع"، بحسب بيان لرئاسة الجمهورية. كما نفى المركز الإعلامي لرئاسة مجلس الوزراء أي نقص في السلع التموينية، وأوضحت وزارة التموين والتجارة الداخلية أن السلع الغذائية الأساسية متوافرة بشكل طبيعي، ويتم ضخ كميات وفيرة منها يومياً بانتظام في جميع الأسواق والمنافذ التموينية والمجمعات الاستهلاكية بمحافظات الجمهورية كافة. وأكدت وزارة التموين "توافر مخزون استراتيجي آمن ومطمئن من مختلف السلع الأساسية يكفي لأشهر مقبلة عدة، مع شن حملات تفتيش دورية على جميع الأسواق، للتأكد من توافر السلع الأساسية، والتفتيش على المخازن في المناطق المختلفة، للتأكد من عدم حجب السلع الغذائية عن المواطنين أو التلاعب بأسعارها". كما افتتح رئيس الحكومة مصطفى مدبولي سلسلة معارض "أهلاً رمضان" لتوفير سلع مخفضة بنسب تتراوح بين 10 و50 في المئة.

محمد إبراهيم موظف في إحدى الشركات الخاصة، قال إنه يتابع مثل الجميع ما وصفه بانهيار الجنيه أمام الدولار خلال فترة قصيرة وانعكاس ذلك في الأسواق، مضيفاً أنه لا يحتاج إلى يكون متخصصاً اقتصادياً ليدرك أن موازنة أسرته قد تأثرت بالقرارات الاقتصادية التي رفعت سعر الدولار أمام الجنيه، وتعامله مع الأسواق يومياً تفقده أية طمأنة قد تحاول الدولة بثها من خلال تصريحات إعلامية، بخاصة مع غياب الرقابة على التجار وترك الحرية لفرض زيادات متعاقبة وغير مبررة على السلع، بحسب قوله، ما يجعله يشعر بأنه يقف وحيداً أمام ثنائية الدولار والتجار.

سخرية لا تضحك

بعيداً من نقاشات مواقع التواصل تعبر زينب عبدالفتاح، معلمة متقاعدة، عن قلقها بالحديث مع البائعين في سوق الخضار الذي أصبحت تكتفي فيه بشراء نصف ما اعتادت عليه من الأصناف، مؤكدة أنها قبل الأزمة الحالية كان معاشها بالكاد يكفي احتياجاتها. أما الآن فعلى رغم ما تعلنه الدولة من عزمها تخفيف الأعباء أو زيادة قيمة المعاش، فإنه لا يقارن بحجم ارتفاع الأسعار. وأكدت أنها على مدار عقود، لم تشهد مصر تضاعف الأسعار بتلك السرعة التي تصل إلى التغير اليومي لسلع أساسية مثل الخضروات واللحوم والألبان، مضيفة أنها قلقة على مستقبل أبنائها وأحفادها إذا استمر التدهور الاقتصادي بتلك المعدلات، وأضافت "أنا فقط أدعو الله أن تمر الأيام المقبلة على خير".

كعادة المصريين حولوا وجهتهم صوب السخرية من أوضاعهم، وتزايدت جرعة "الكوميكس" في مواقع التواصل، وهو ما يرجعه عبدالرحمن خلف الموظف في أحد الوزارات، إلى أن المواطن لا يملك من أمره شيئاً، يسمع بأرقام متضاربة وتصريحات لا تتوافق مع ما يراه على أرض الواقع، ما يجعله يلجأ للتنفيس عن القلق والكآبة بالسخرية، وهي الطريقة التي تتناقلها أجيال المصريين للتعامل مع الأزمات، مشيراً إلى أنه بجانب السخرية يحاول الوصول إلى حل بالبحث عن عمل آخر ليلاً لتوفير متطلبات أسرته.

لكن أحمد حسين، مهندس، لا يجد معنى للسخرية في الوقت الذي تمر فيه البلاد بأزمة حقيقية لا يعلم أحد كيف تنتهي، موضحاً أن راتبه فقد 50 في المئة من قيمته بالنظر إلى قيمته الدولارية، ومهما زادت الشركة من راتبه لن تعوض ذلك الانخفاض، بخاصة أن تلك الأزمة أنهت كثيراً من خططه لتحسين مستوى أبنائه وإلحاقهم بمدارس خاصة أفضل، بالتالي هو لا يجد ما يضحك في ما تمر به مصر.

عدوى القلق

انتشار حال الخوف من المستقبل عبر مواقع التواصل تعبر عن حال العدوى بالاكتئاب والقلق، بحسب أستاذ الطب النفسي محمد المهدي، الذي أوضح أنه في ظل تطور وسائل التواصل، أصبحت الأحاديث عن الضائقة المالية والأزمات الاقتصادية على العلن، سبباً رئيساً في إصابة آخرين بالقلق والاكتئاب من المستقبل. وأضاف "إذا قرأت منشوراً على ’فيسبوك‘ عن مدى عجز مواطن عن إطعام عائلته أو توفير سكن لهم أو حتى توفير احتياجاتهم الأساسية وبحثه عن عمل لزيادة دخله، تلقائياً ستصاب بالقلق من المستقبل لأنك ستشعر بإمكانية مرورك بالظروف نفسها في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال إن القلق من المشاعر السلبية التي تنتاب الإنسان يولد لديه الخوف وعدم الأمان، موضحاً أن الظروف الاقتصادية لها العامل الأكبر في مشاعر الخوف من المستقبل، لاسيما لدى الطبقات الهشة والفقيرة التي لا تملك مدخرات كبيرة تنقذها وقت الأزمات.

وأضاف المهدي أن المواطن البسيط أصبح لديه نقص شديد في احتياجاته الأساسية إلى جانب معاناته اليومية لتوفير متطلبات أسرته أو بدائل عنها، فضلاً عن تأثر عمله بالأزمة الاقتصادية وإمكانية الاستغناء عنه أو تقليل احتياجها له، مما يترتب عليه نقص دخله الشهري في ظل زيادة الأسعار المتسارعة، كل ذلك يشعره بعدم الأمان والخوف من المستقبل.

منصات التخويف

وقال إن قلق المواطن مرتبط بخوفه على أسرته في ظل عجزه عن توفير متطلباتهم. فرب الأسرة يشعر بانهيار كيانه الرجولي والأبوي بسبب عدم قدرته على مواكبة الغلاء وزيادة دخله لتوفير على الأقل السلع والاحتياجات لعائلته، مشيراً إلى أن نتيجة ذلك يشعر المواطن بحال قلق مستمر ومتلاحق، يليها اكتئاب وتغيير في هرمونات الجسم وعجز عن التفكير في بدائل لزيادة دخله أو حتى ممارسة عمله اليومي بشكل طبيعي.

كذلك أشار المهدي إلى دور المنصات الإعلامية التي تمارس نوعاً من "التخويف الشديد من خلال بثها أخباراً عن صعوبة الأوضاع والتخوف من استمرار الأزمة الاقتصادية مستقبلاً، لا يهم إن كانت منصات مؤيدة أو معارضة... الأهم أن المواطن يجد نفسه أمام كم من المشاعر السلبية فيخيم عليه الخوف والقلق". وأكد أن تراجع السخرية كأحد أسلحة المصريين في مواجهة المصاعب سببها زيادة مشاعر الخوف التي خنقت حتى الوسائل الدفاعية، وهو دليل على إحساس المواطن بالمعاناة أكثر.

وعما يحتاج إليه المصريون لتجاوز مشاعر الخوف والقلق، أكد المهدي أن المواطن المصري لا يحتاج إلى دعم أو علاج نفسي وطمأنة بالتصريحات، لكن يجب على الدولة توفير النواقص التي يحتاج إليها، بدعم من مؤسسات العمل الأهلي، إلى جانب توقف القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام المختلفة عن بث الذعر بين المواطنين عن المستقبل الاقتصادي في مصر، لأنه يولد مشاعر اليأس وفقدان الأمل، وهو أخطر شيء على المجتمع.

العلاج ترف

ويرى المهدي أنه في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة، أصبح العلاج من المرض النفسي أو مشاعر الخوف من المستقبل نوعاً من الرفاهية، وبعيداً تماماً من أولويات المصريين، قائلاً "من يمتلك قيمة الكشف النفسي أو العلاج بالعيادات سيوفره لصالح احتياجاته الأساسية، فالأولويات تتغير في ظل الأزمة والخوف من المستقبل... والأغلبية العظمة أصبحت لا تملك قيمة زيارة العيادات النفسية من الأساس".

وبلغ معدل التضخم الأساسي في مصر 24.4 في المئة على أساس سنوي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ارتفاعاً من 21.5 في الشهر الذي سبقه، وفق بيان للبنك المركزي في وقت سابق من الشهر الحالي، الذي أوضح أن الرقم القياسي الأساسي لأسعار المستهلكين، سجل معدلاً شهرياً بلغ 2.6 في المئة في ديسمبر 2022، في مقابل معدل شهري 0.2 في المئة في ديسمبر 2021.

كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر تسجيل معدل التضخم السنوي نسبة 21.9 في المئة خلال ديسمبر الماضي، في مقابل 19.2 بالمئة في نوفمبر (تشرين الثاني). وارتفعت أسعار المستهلكين على مستوى الجمهورية بنسبة 2.1 في المئة خلال ديسمبر مقارنة بنوفمبر الماضيين.

هامش الربح

وبرأي المتخصص الاقتصادي وائل النحاس، فإن تعارض واقع أسعار السلع مع التصريحات الرسمية للمسؤولين خلق القلق لدى المواطن على حاله الاقتصادية، وكذلك تأثر علاقة التاجر والحكومة هي الأخرى بسبب وعودها بتوفير الدولار والإفراج عن البضائع التي لا تتحقق، مشيراً إلى أن الوضع الاقتصادي المقلق في مصر يمثله مثلث التاجر والحكومة والمواطن.

وأوضح أن "المواطن العادي أصبح يشعر بسكين الأسعار يذبحه في ظل الأزمة الاقتصادية، في حين هناك بعض التجار يستغلون الوضع لصالحهم سواء بالمغالاة في السلع أو احتكارها، من دون رقابة من الحكومة المسؤولة عن الأزمة نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة والمواطن يدفع الثمن" بحسب قوله، مشيراً إلى أن تحميل التاجر غرامات انتظار البضائع المستوردة في الجمارك وفارق سعر الدولار بين فترة الاستيراد وفترة الإفراج، سيزيد من الأسعار على المواطن، لأن التاجر لا يشغله سوى تحقيق هامش الربح نفسه مهما كانت الظروف.

وتابع النحاس أن خوف المواطن من الأزمة الاقتصادية وضياع مدخراته جعلتاه يلجأ لشراء الذهب أو وضع أمواله في شهادات بنكية ذات فائدة مرتفعة، أو حتى شراء عشوائي لعدد من السلع سواء أجهزة إلكترونية أو سلع استهلاكية قد ترتفع أسعارها مستقبلاً، في محاولة للنجاة... بعدما أدرك المواطن خطورة الوضع على مدخراته ففكر في الحفاظ عليها بالشكل المناسب له. وحذر من أن ذلك قد يشكل ضغطاً على السوق في ظل صعوبات الاستيراد، وقد نصل إلى مرحلة نقص في المعروض من الأجهزة الإلكترونية مثلاً.

وأشار النحاس إلى أن هناك عدداً من الإجراءات الاقتصادية التي قد تتخذها الحكومة لمحاربة السوق السوداء والسيطرة على حركة سعر صرف الجنيه أمام الدولار، لكنها في الأغلب مسكنات ستؤجل الأزمة ولن تحلها بشكل دائم. فالأمر أصبح يتطلب تغييراً في السياسات الاقتصادية العامة للدولة المصرية.

وانخفض سعر الجنيه المصري من مستوى 15.77 للدولار في مارس (آذار) من العام الماضي إلى 29.8 جنيه للدولار حالياً، ما يمثل خسارة نحو 100 في المئة من قيمته.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات