روسيا "ضحية تتعرض لاعتداء مبرمج"، من وجهة نظر الكرملين. والسردية التي يتمسك بها الرئيس فلاديمير بوتين هي، كما قال وزير الخارجية سيرغي لافروف أخيراً، أن ما حدث في أوكرانيا "نتيجة التحضيرات التي قامت بها واشنطن وحلفاؤها على مدى سنوات طويلة لشن حرب كونية هجينة على روسيا". والترجمة العملية لذلك هي أن حرب أوكرانيا رتب لها ما تسميه موسكو "الغرب الجماعي" في إطار استراتيجية كاملة هدفها إيجاد "حل نهائي للمسألة الروسية عبر إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا "لإضعافها وتفكيكها". وبالمعنى نفسه، فإن الهجوم الروسي على أوكرانيا ليس غزواً، ولا "حرب خيار" بل ضربة "وقائية" لإجهاض خطة غربية تستخدم أوكرانيا كمنصة للاعتداء، بالتالي "حرب ضرورة". فهل هذا هو الواقع أم الخيال؟
الوقائع ناطقة. روسيا هاجمت جورجيا عسكرياً عام 2008 وسلخت عنها إقليمين، لكن إدارة الرئيس جورج بوش الابن لم تفعل شيئاً. وكل ما فاخرت به وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في مذكراتها هو أنها رفضت طلب لافروف "إخراج ميشا، أي الرئيس ميخائيل سكاشفيلي من السلطة". عام 2014 ضمت روسيا شبه جزيرة القرم وسيطرت على أجزاء من الدونباس شرق أوكرانيا، لكن الرئيس باراك أوباما قال في مجلس الأمن القومي "إن مصالح روسيا في أوكرانيا مثل مصالح أميركا في المكسيك". ولم يفعل شيئاً حتى بعد أن تدخلت موسكو عسكرياً في حرب سوريا عام 2015، لا بل إن أوباما أعلن بنوع من التحدي في حديث أجرته مجلة "أتلانتيك" عام 2016 "إذا كان في هذه المدينة من يرون أنه كان علينا أن نذهب إلى حرب مع روسيا من أجل شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا فليتكلم الآن". وقلة، كما يقول روبرت كاغان في مقال نشرته "فورين أفيرز" تحت عنوان "عالم حر، إذا كنت تستطيع الحفاظ عليه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الرئيس دونالد ترمب كانت علاقاته جيدة مع بوتين، وحين جاء الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض وكان نائب الرئيس أوباما، فإنه التقى كلاً من بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ، وسعى إلى إقامة علاقات عادية معهما من خلال النظرة إليهما كرجلي دولة يعملان لمصلحة بلديهما كما يفعل هو، لكن الهجوم على أوكرانيا غير المزاج الشعبي في أميركا وبدل الحسابات الرسمية. لم يكن الأمن القومي الأميركي في خطر، ولا هو في خطر مهما فعلت الصين بالنسبة إلى تايوان، والحسابات الاستراتيجية وحدها دفعت أميركا إلى تجييش أوروبا وتقوية دورها هناك وإرسال كل ما يمكن من مساعدات عسكرية ومالية إلى أوكرانيا للوقوف في وجه الهجوم الروسي. لماذا؟ لأن المنطق الذي دفع الرئيس وودرو ويلسون إلى المشاركة في الحرب العالمية الأولى، والرئيس روزفلت إلى خوض الحرب العالمية الثانية بعد سنتين من اندلاعها، هو الخوف من هيمنة الإمبراطوريات القديمة على العالم عام 1914 وهيمنة هتلر وموسوليني و"فلسفة القوة" على أوروبا والعالم الحر.
وليس سراً أن بوتين قال للرئيس بوش الابن في بوخارست عام 2008 "أوكرانيا ليست بلداً حقيقياً"، ولا أنه في مكالمة أخيرة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أشار إلى "الخطر المدمر الذي ينهجه نظام كييف المراهن على تكثيف الأعمال العدائية بدعم من رعاة غربيين يعززون إمدادات الأسلحة". وإذا كان صديق بوتين الدائم ونائب رئيس مجلس الأمن الروسي حالياً الرئيس ورئيس الوزراء السابق ديمتري ميدفيديف يرى إمكان قيام "تحالف المتعبين من الأميركيين"، فإن المتعبين من مضاعفات الهجوم الروسي على أوكرانيا صنعوا تحالفهم سلفاً. وإذا كانت واشنطن تسمي حرب بوتين في أوكرانيا "حرب الخيار الكارثي"، فإن كل حروب أميركا هي "حروب خيار" في رأي روبرت كاغان.
والدرس الذي لم يشأ أن يتعلمه الغرب ولا بوتين من حرب أوكرانيا هو ما سماه الخبير الاستراتيجي لورنس فريدمان "محدودية القوة العسكرية".