Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاعتكاف "سلاح نيابي" قديم في لبنان

لجأ إليه أعضاء البرلمان عدة مرات منذ الاستقلال لكنها المرة الأولى مع معضلة خلو سدة الحكم

النائبان ملحم خلف ونجاة صليبا اللذان بدآ الاعتكاف النيابي (اندبندنت عربية)

بعد جلسة البرلمان اللبناني، الخميس 19 يناير (كانون الثاني) الحالي، والفشل في التوصل إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، اختار عدد من النواب الاعتكاف في مقر المجلس، اعتراضاً على الآلية التي تدار فيها العملية من خلال تطيير نصاب الجلسات والدعوة لاحقاً إلى جلسة جديدة.

يتكرر المشهد نفسه، يحضر النواب، يكتمل النصاب، يتم التصويت، يتم تعداد الأصوات، لا يحصل أي اسم على أكثرية 65 صوتاً، ثم يغادر نواب ويطير النصاب، فيخرج رئيس المجلس النيابي نبيه بري من القاعة وتنتهي الجلسة ويقفل المحضر، ثم يحدد موعد جديد.

أخذ المبادرة النائبان ملحم خلف ونجاة صليبا اللذان وصلا إلى المجلس النيابي من بين 13 نائباً باعتبارهم يمثلون قوى التغيير التي لا تنتمي إلى الأحزاب الكبرى أو الكتل التقليدية.

لقد أفرزت نتائج انتخابات 15 مايو (أيار) 2022 مجلساً نيابياً لا قدرة لأي قوى فيه على تأمين الأكثرية المطلوبة لانتخاب رئيس، إذ إن الأمر يحتاج إلى تأمين حضور 86 نائباً من أصل 128 لكي يكتمل النصاب ثم حصول المرشح على 65 صوتاً ليصير رئيساً.

في العتم

منذ ما قبل خلو سدة رئاسة الجمهورية بـ10 أيام، بدأ بري يدعو إلى جلسات لانتخاب الرئيس وهو يعرف أنها ستكون من دون نتيجة، لكن في ظل الانهيار الحاصل بدا وكأن هناك عملية مقصودة لعدم إتمام عملية الانتخاب، لذلك أراد النواب المعارضون التعبير عن احتجاجهم بالدعوة إلى الاعتصام داخل المجلس واعتبار الجلسات مفتوحة حتى انتخاب رئيس للجمهورية، فمهمة المجلس في ظل الفراغ الرئاسي تصبح محصورة بهذه المهمة، بينما يعتبر بري أن حصر المهمة بهذا الأمر وحده يعطل عمل المجلس.

ومنذ الليلة الأولى، واجه النائبان خلف وصليبا مشكلة انعدام وجود الكهرباء فبقيا في العتم، ولم يقتصر الأمر عليهما، ففي الأيام التي تلت توسعت دائرة النواب المتضامنين أو المنضمين إليهما، لكن من دون أن يؤدي هذا الاعتصام إلى تحريك عجلة الانتخاب، بل حصل العكس إذ تمنع رئيس المجلس عن تحديد موعد جديد لأي جلسة جديدة حتى بات المجلس كله وكأنه في حال اعتكاف عن ممارسة صلاحياته بانتخاب الرئيس.

تجارب سابقة

ليست هذه المرة الأولى التي يتم فيها التعبير بهذه الطريقة عن الاعتراض على مسار الأمور السياسية في ظل أزمات اعتبرت مصيرية بتاريخ لبنان الحديث، ففي 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1943 اعتصم النواب داخل البرلمان بعد اعتقال سلطات الانتداب الفرنسي رئيسي الجمهورية والحكومة بشارة الخوري ورياض الصلح وعدد من الوزراء لمنع تعديل الدستور وإعلان الاستقلال.

وانتهى هذا الاعتصام إلى تراجع السلطات الفرنسية عن قرارها وإطلاق سراح المعتقلين وإعلان استقلال لبنان في 22 نوفمبر من ذلك العام، ومنذ ذلك التاريخ دخل لبنان في سباق البحث عن الطريقة التي يمكن من خلالها الحفاظ على هذا الاستقلال.

عام 1952 استطاع ستة نواب من المعارضة مدعومين بحركة اعتراض سياسية إرغام رئيس الجمهورية بشارة الخوري على الاستقالة بعد اتهامه بتزوير الانتخابات والتمديد لنفسه وخرق الدستور، وفي 1958 خاض عدد من النواب والزعماء ثورة مسلحة ضد عهد الرئيس كميل شمعون بعد اتهامه أيضاً بأنه أسقطهم في الانتخابات ويريد التمديد لنفسه.

حالات الاعتراض والاعتكاف لم تقتصر على النواب، بل لجأ إليها أيضاً رؤساء للجمهورية، ففي 20 يوليو (تموز) 1960 أعلن الرئيس فؤاد شهاب استقالته ببيان تلاه في مجلس الوزراء، اعتبر أنه قام بالمهمة التي جاء من أجلها إلى الرئاسة وأنهى الفوضى وأعاد الأمن وأمن إجراء الانتخابات النيابية الصحيحة وأنه بات بإمكانه العودة لمنزله، لكن حركة اعتراض كبيرة أعادته إلى الرئاسة.

مثله فعل الرئيس إلياس سركيس في 6 يوليو 1978 عندما أوحى أيضاً أنه مستقيل بسبب اعتراضه على قصف الجيش السوري للمناطق المسيحية في بيروت الشرقية وجبل لبنان وعدم قدرته على التأثير في مجرى الأحداث لوقف الحرب، فاعتكف يومين ثم كتب نص استقالته، لكن أيضاً نتيجة تدخلات سياسية محلية ودولية عاد بعد ثلاثة أيام عن استقالته، إلا أن الحرب استمرت.

اعتصام الصدر ومجلس 1972

بين شهاب وسركيس، شهد لبنان في 27 يونيو (حزيران) 1975 اعتصام الإمام موسى الصدر رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بمسجد الرضا في مقر "العاملية" ببيروت بسبب اعتراضه على الحرب، خصوصاً في البقاع، واستهداف قرى مسيحية هناك.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعاد الصدر بعد أربعة أيام عن اعتكافه، معلناً أنه رأى أن "الوطن بحاجة إلى شيء أقوى من السلاح، دنسوا أرض الوطن فلجأت إلى بيت الله مستمداً منه القوة والعون وسأبقى في حال الاعتكاف إلى أن تتجاوز البلاد الأزمة، وإلى أن تخرس أصوات المدافع"، لكن أيضاً انتهى اعتكافه واستمرت الحرب.

لم يحصل أن اعتكف مجلس النواب الذي انتخب عام 1972، وعلى رغم الحرب لم يقصر بواجباته، والمرة الوحيدة التي عبر فيها عن حال اعتراض سلبية كانت عندما وقعت عريضة نيابية تطالب رئيس الجمهورية سليمان فرنجية بالاستقالة على خلفية أنها يمكن أن تضع حداً للحرب، لكن لا الرئيس استقال ولا الحرب انتهت.

استطاع ذلك المجلس على مدى 20 عاماً من ولاياته الممددة بسبب تعذر إجراء انتخابات نيابية انتخاب خمسة رؤساء للجمهورية هم إلياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل ورينيه معوض وإلياس الهراوي، ولم يعطل في أي مرة من هذه المرات النصاب وجرت الانتخابات أحياناً تحت القصف وفي ظل الاحتلال.

 لكن بعد عام 1992 تبدلت الأحوال، فبعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود في نوفمبر 2007 تعطل انتخاب خلف له وحصل الأمر نفسه بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في 24 مايو 2014، وبعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2022، في حين كان يتكرر مشهد تعطيل النصاب، إلا أن أي اعتكاف نيابي لم يحصل لفرض انتخاب الرئيس لأن القرار بمثل هذا الأمر يظل بيد رئيس المجلس النيابي.

اعتكافات نيابية وحكومية

في أيلول 2006 حصل اعتكاف نيابي داخل المجلس بقرار من رئيسه نبيه بري، يومها لم تنقطع الكهرباء واستقبل النواب المشاركون بالترحاب.

وطالب الاعتكاف بانسحاب إسرائيل الكامل من لبنان وفك حصارها للشواطئ اللبنانية ولحركة الطيران في الجو ولوضع حد لاستمرار العمليات العسكرية بعد حرب تموز وبعد صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن الذي قرر رفع عدد القوات الدولية في الجنوب ودعمها بنحو 15 ألف جندي من الجيش اللبناني.

لم يكن الاعتصام مقتصراً على هذا السبب وحده، بل كان رئيس المجلس النيابي متوجساً من خطر حصول انقسام مضاعف وخطر بعد الحرب نتيجة اتهام "حزب الله" للحكومة التي كان يرأسها الرئيس فؤاد السنيورة بالتآمر عليه مع قوى 14 آذار وتأييدها للعملية العسكرية الإسرائيلية.

بعد هذا الاعتصام وتعبيراً عن هذا الخوف، دعا بري إلى جلسات حوار عقدت في المجلس النيابي ولبى الدعوة معظم الكتل النيابية، لذلك أقام بعض النواب لمدة أيام في أماكن قريبة من مقر البرلمان خوفاً من عمليات اغتيال، وهذا الخوف تفاقم بعد مطالبة "حزب الله" باستقالة الحكومة بسبب مطالبتها أيضاً بإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وبقضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ونفذ تهديداته بفرض حصار على السراي الحكومي الذي اعتصم فيه السنيورة رافضاً الاستقالة.

ولم ينته هذا الاشتباك إلا بعملية 7 مايو 2008 العسكرية التي نفذها "حزب الله" وأدت إلى تسوية الدوحة التي أمنت انتخاب رئيس للجمهورية والاتفاق على تشكيل حكومة جديدة.

لكن قبل ذلك ونتيجة الخوف من تعرض النواب المعارضين لـ"حزب الله" لعمليات اغتيال فرضوا على أنفسهم، بعد نصائح أمنية، الإقامة الجبرية الاختيارية في عدد من الفنادق في بيروت بعد تأمين الحماية لها، بينما اختار آخرون الانتقال إلى الخارج.

رؤساء حكومة يعتكفون

اعتصام الرئيس السنيورة لم يكن الاعتراض الوحيد الذي لجأ إليه رؤساء حكومات غيره، ففي 24 أبريل (نيسان) 1969 اعتكف رئيس الحكومة رشيد كرامي بسبب الخلاف الداخلي حول العمل الفلسطيني المسلح في لبنان وبقي معتكفاً ستة أشهر حتى وافق لبنان على توقيع اتفاق القاهرة مع الفلسطينيين في 3 نوفمبر 1969 الذي أنهى الأزمة الحكومية والأمنية وأجل انفجار الحرب حتى عام 1975.

ومثله فعل الرئيس صائب سلام بعد العملية الإسرائيلية في 10 أبريل 1973 بشارع فردان في بيروت واغتيال ثلاثة قادة من منظمة التحرير الفلسطينية، إذ طالب بتغيير قائد الجيش وقتها العماد إسكندر غانم بعد اتهام الجيش بالتقصير.

وعام 1994، بين 8 و14 مايو، اعتكف رئيس الحكومة رفيق الحريري احتجاجاً على ما اعتبر أنه انقلاب في المجلس النيابي عليه خلال مناقشة مشروع قانون تنظيم الإعلام المرئي والمسموع.

انقطع الحريري عن ممارسة صلاحياته كلها وفتح أبواب مقره في قصر قريطم ببيروت لاستقبال الوفود الشعبية التي تضامنت معه، لكنه تبلغ اعتراضاً سورياً على اعتكافه فأنهاه وعاد لممارسة مهمته كرئيس للحكومة.

وفي مارس (آذار) 2016 أوحى رئيس الحكومة تمام سلام أنه معتكف عن ممارسة مهماته، تعبيراً عن معارضته لطريقة تصرف وزراء "التيار الوطني الحر" التابعين للعماد ميشال عون ومحاولتهم مشاركته في إدارة عمل الحكومة باعتبار أنها مجتمعة تملأ الفراغ الرئاسي ولا يمكنه أن يتفرد لوحده باتخاذ القرارات، لكن الأزمة انتهت بتسوية داخلية من خلال التوافق على أن تكون القرارات الوزارية والمراسيم موقعة من جميع الوزراء.

الرئيس سعد الحريري أعرب عن رغبته في الاعتكاف أكثر من مرة، خصوصاً عندما رفض في يوليو 2019 إحالة الحادثة الأمنية التي حصلت في منطقة عالية بين بلدتي البساتين وقبرشمون إلى المجلس العدلي، وهي الحادثة التي أدت إلى سقوط عدد من القتلى نتيجة اعتراض مؤيدين لـ"الحزب التقدمي الاشتراكي" موكب رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل الذي كان ينوي القيام بجولة في المنطقة، وانتهت المسألة بصرف النظر عن هذا التوجه وعن الاعتكاف.

إنها المرة الثالثة التي يحصل فيها الفراغ الرئاسي في لبنان، لكنها المرة الأولى التي يبدأ فيها اعتصام نيابي داخل المجلس من أجل الضغط لإتمام عملية انتخاب رئيس جديد، لكن لا أدوات سياسية أكثر من مجرد الحضور الليلي والمبيت بالمجلس في العتم وهذا وحده لا يكفي.

إلى متى يستمر الاعتصام؟ المعتصمون أنفسهم لا يمكنهم الإجابة عن هذا السؤال إذا أقفلت أمامهم الأبواب السياسية والمخارج وحتى لو فتحت أمامهم أبواب المجلس.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير