Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف نقرأ "لعبة المصالح" بين واشنطن وبكين في أفريقيا؟

وزيرة الخزانة الأميركية تنطلق إلى القارة السمراء في أول رد على الجولة المثيرة لوزير الخارجية الصيني

الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينغ يجتمعان على هامش قمة مجموعة العشرين في بالي الإندونيسية (أ ف ب)

مع انطلاق الاجتماعات التحضيرية للقمة الأفريقية في فبراير (شباط) المقبل تبدو خريطة القارة كرقعة لمباراة شطرنج من العيار الثقيل بين القوى الكبرى.

الصين ترسل وزير خارجيتها الجديد في أول جولة خلال منصبه، ومنذ قرار تخفيض قيود جائحة "كوفيد-19"، بينما تبعث واشنطن وزيرة الخزانة الأميركية إلى أفريقيا في جولة تمتد 11 يوماً.

وتعد هذه الجولة الثانية من مباراة الاستقطاب الدولي على المسرح العالمي بين قطبي المشهد الراهن، عقب القمة الأفريقية - الأميركية بواشنطن في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وعقب انطلاق الوزيرة الأميركية جانيت يلين إلى أفريقيا من عاصمة "الحياد" الدولي، سعت الولايات المتحدة والصين إلى ضبط إيقاع الخلافات في مدينة زيورخ السويسرية التي شهدت لقاءً نادراً بينها وبين نائب رئيس الوزراء الصيني ليو هي، يوم الأربعاء 18 يناير (كانون الثاني) الحالي.

بعض المراقبين يرى في تلك الرسالة تهدئة للمنافسة الاستراتيجية بين البلدين، واتفاقاً ضمنياً على حصر النفوذ الروسي في أفريقيا وحضور القوى الإقليمية الأخرى بزاوية ضيوف شرف ماراثون تقاسم المكانة الدولية في "قارة المستقبل"، بينما يجزم بعضهم باشتعال نار المنافسة الاستراتيجية بين واشنطن وبكين مهما تخفت شرارتها تحت رماد اللقاءات الوزارية والقمم الرئاسية التي كان آخرها القمة بين الرئيسين جو بايدن وشي جينبينغ في بالي بإندونيسيا نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، فيما يعتقد آخرون أن ما نراه محض رماد بلا نار يعكس موقفاً دفاعياً لواشنطن عن مكانتها العالمية المتراجعة في القارة منذ سنوات، مقابل امتداد طموح الصين من قاعدتها العسكرية المجاورة لنظيرتها الأميركية بشرق أفريقيا، وصولاً إلى تموضعها المتسارع على شواطئ الأطلسي، غرب القارة، حيث تسعى إلى إيجاد موطئ قدم عسكري دائم هناك.

ساحة المنافسة

على مدار 33 عاماً، يستهل وزير الخارجية الصيني جولاته الخارجية مع بداية العام الجديد بزيارة القارة الأفريقية، وهو ما يدلل على الأهمية التي توليها بكين للقارة السمراء، لا سيما في ضوء التنافس الدولي الحالي حول القارة الأفريقية، الذي ازدادت وتيرته في ظل اشتداد التنافس الأميركي - الصيني، والذي تعد القارة إحدى ساحاته، هكذا رأت نوران عوضين الباحثة ببرنامج العلاقات الدولية بالمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في القاهرة، جولة وزير الخارجية الصيني الأفريقية.

وأصبحت الصين منافساً لا يمكن مقارنته بغيره من اللاعبين في أفريقيا على المستوى الاقتصادي، لكن تظل المستويات الاستراتيجية والأمنية والسياسية تشير إلى تفوق الولايات المتحدة في أفريقيا وعلى اتساع المسرح الدولي.

ويتفق الباحث محمد عبدالكريم منسق أبحاث وحدة أفريقيا بمعهد الدراسات المستقبلية في بيروت، مع ما ذهبت إليه عوضين، لكنه يعتقد أن منافسة شرسة ولكنها منضبطة، تدور بين واشنطن وبكين في القارة.

وأشار عبدالكريم إلى أن جولة وزير الخارجية الصينية - الأفريقية جاءت اتباعاً لتقليد دبلوماسي دأبت عليه بكين خلال السنوات الأخيرة بهدف استشراف أوجه التعاون مع الدول المعنية (مصر وإثيوبيا والجابون وأنغولا وبنين)، وفي استباق واضح ومقصود على الغالب لفعاليات قمة الاتحاد الأفريقي.

 

 

وعلى رغم تأكيد وزير الخارجية الصيني في أولى مهامه الخارجية منذ تقلده منصبه إيلاء بكين أهمية كبرى لصداقتها التقليدية مع أفريقيا وتطوير العلاقات الصينية - الأفريقية، فإن جانب "التنافس" مع الولايات المتحدة في القارة هيمن على تحليلات أجواء الزيارة ونقاط ارتكازها، لا سيما في القاهرة وأديس أبابا.

وقال عبدالكريم، "لكن، يبدو أن صوت الدبلوماسية الصينية هذا العام، مقارنة بزيارة مماثلة قبل نحو سنة، قد أخذ في الخفوت على خلفية نجاحات أميركية مهمة بإقليم القرن الأفريقي وقيادة واشنطن جهود السلام والأمن في الإقليم طوال العام الماضي في ظل تراجع صيني ملحوظ على الأرض".

وأضاف "يظل الأداء الصيني متوقعاً تماماً، ويتسق مع ما يمكن تسميته (شرعية بيان شنغهاي) بخصوص ضبط العلاقات الصينية - الأميركية والموقع قبل أكثر من 50 عاماً، ويضمن استمرار سياسة ما يسمى (الأسيجة الآمنة) بين البلدين وعدم الانفتاح على صراعات مباشرة كما يتجسد في الساحة الأفريقية".

وقد تحمل الجولة الصينية إلى أفريقيا عديداً من الآثار التي ربما يكون لها انعكاساتها على مستقبل التنافس الدولي في القارة. ويرى أحمد عسكر الباحث المتخصص في الشؤون الأفريقية بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة أنه "من المتوقع أن يتسع دور الصين في أنحاء أفريقيا، سعياً إلى قطع الطريق على منافسيها الاستراتيجيين، لا سيما واشنطن والغرب، مما سيدعم مكانة أفريقيا على الصعيد العالمي، خصوصاً عقب اندلاع الأزمة في شرق أوروبا التي دفعت عديداً من القوى الدولية والإقليمية نحو أفريقيا لتعزيز نفوذها، أملاً في الاستحواذ على مواردها وثرواتها لتعويض الآثار السلبية التي خلقتها الحرب الروسية - الأوكرانية".

"الصينوفوبيا" وذهنية الاستعمار

دفع منتدى التعاون الصيني - الأفريقي (فوكاك)، الذي انطلق في عام 2000، الثقة المتبادلة بين بكين والقارة السمراء إلى آفاق جديدة. وفي مواجهة ذلك، فإن رهاب الصينيين بات نمطاً في الكتابات الغربية والصينية على حد سواء فيما يتعلق بتنامي "الخطر الأصفر"، كما يوصف غربياً.

الأستاذ الجامعي الصيني بكلية العلاقات الدولية والدبلوماسية سونغ واي يرى في مقال بصحيفة "غلوبال تايمز" الصينية أن جولة وزير خارجية بكين وضعت في هذا الإطار.

وقال واي إن قيام وزراء الخارجية الصينيين بأول زيارة دبلوماسية لهم في بداية كل عام إلى البلدان الأفريقية يعد تقليداً دام 33 عاماً، ولا علاقة له بتوقيت قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا في ديسمبر الماضي، أو اللعبة الجيوسياسية الشرسة التي تلعبها القوى الأجنبية في القارة.

وأشار إلى أن الجولة "أثرت على أعصاب بعض الدول الغربية التي من المتوقع أن تولي مزيداً من الاهتمام بالقارة".

ويصور المقال الحضور الصيني كفرصة لأفريقيا، مضيفاً أن "رفع مستوى التعاون الاقتصادي والتجاري بين الصين ودول القارة يجعل الدول الغربية تعيد دراسة القيمة الاقتصادية لأفريقيا، فلم تكن أفريقيا أولوية استثمارية للشركات الغربية لفترة طويلة".

وأشار إلى أنه "في المقابل ظلت الصين تقدم الدعم والمساعدة المخلصين للتنمية المحلية في أفريقيا منذ عقود، وساعدت المنح المجانية والقروض من دون فوائد التي قدمتها الحكومة الصينية، غينيا ومالي ودولاً أخرى على بناء البنية التحتية الصناعية".

ولفت الكاتب إلى أن وسائل الإعلام الغربية "شوهت دعم الصين المخلص، مثل (الزعم بأن) الدعم الأمني الصيني لأفريقيا سيعود في النهاية إلى بكين في شكل مبيعات أسلحة، بالتالي وضع البلدان الأفريقية في (فخ ديون) بصورة أكثر خطورة".

 

 

بالنظر إلى استراتيجية الغرب في أفريقيا، "لقد أصيب الغرب بالشلل بسبب القلق المتزايد تمسكاً بالعقلية الاستعمارية عميقة الجذور، حيث تعتقد الولايات المتحدة والدول الأوروبية أن حال (فراغ القوة) في أفريقيا بدأ ينكسر، مع تقدم مبادرة الحزام والطريق الصينية بالقارة، وفق واي.

ويرى واي أنه إلى "جانب العقلية الاستعمارية عميقة الجذور، كانت أفريقيا في أسفل قائمة أولوياتهم، قبل منتدى (فوكاك) كانت وسائل الإعلام الغربية بالكاد تقدم تقارير عن القارة، ومع ذلك فإن الاهتمام الذي يوليه الغرب لأفريقيا بسبب تعاونه مع الصين لا يفيد القارة".

التعاون في مواجهة الصراع

أعلنت إدارة بايدن في أغسطس (آب) الماضي عن استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء، على رغم أن قمة قادة الولايات المتحدة وأفريقيا، الشهر الماضي، سعت إلى تجنب ذكر الصين في جدول أعمالها، إلا أن المباحثات تركزت على "تأثيرات الصين" بالقارة.

وتروج الصين لمنهج مغاير للنمط الغربي في أفريقيا يقوم على تصور العالم كجزء من مبادرة تجارية واستثمارية عالمية مر على تدشينها 10 سنوات، وتقول عوضين إن بكين تستند في تعاونها مع الدول الأفريقية على مجموعة من المبادئ، من أهمها عدم التدخل في الشؤون الداخلية، واحترام سيادة الدول، والعمل بشكل تشاركي بما يحقق في النهاية الصالح العام والتنمية المشتركة لجميع الأطراف، ولعل مبادرة الحزام والطريق الصينية هي أبرز مثال على هذا النمط التعاوني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فمن ناحية، تعد المبادرة بمثابة المشروع الحلم بالنسبة إلى الدولة الصينية التي من شأنها تعزيز وضع ومكانة الاقتصاد الصيني عالمياً، في المقابل يشير توقيع 52 دولة أفريقية من أصل 53 دولة على وثائق تعاون في شأن البناء المشترك لـ"الحزام والطريق" مع الصين إلى الاهتمام الذي توليه الدول الأفريقية للمشروع الصيني الذي من شأنه تنمية وتطوير البنى التحتية بالقارة وتعزيز عملية الترابط والتكامل الإقليمي.

على رغم زخم التعاون الاقتصادي الأفريقي الصيني، تمتد أوجه التعاون لتشتمل أيضاً مجالات سياسية وأمنية وبيئية وإنسانية، الأمر الذي أعطى للعلاقات وضع مميز بالمقارنة بعلاقات الدول الأفريقية مع باقي القوى الكبرى، وفق عوضين.

وتستكمل الباحثة، "يتعلق جانب آخر لنجاح التعاون الصيني - الأفريقي بما تقدمه بكين للدول النامية من نموذج إيجابي للتنمية والتقدم القائم على تحقيق نهضة داخلية لا تأتي على حساب مقدرات غيرها، أو من شأنها الأضرار بمصالحهم، وإنما يكمن جزء من نجاح هذه النهضة في إرساء مجموعة من قواعد وآليات العمل المشترك التي من شأنها تحقيق الفوز المشترك للجميع".

يبدو في الأدبيات الصينية انشغال بهاجس مواجهة البروباغندا المضادة للصين في أفريقيا. ويرى الباحث أحمد عسكر أن دوافع تحرك بكين في أفريقيا راهنا تنصرف إلى محددات رئيسة عدة، أبرزها تأكيد النفوذ الصيني على المستوى القاري، والاستفادة من القوة التصويتية الأفريقية في المنظمات الدولية على نمط الحرب الباردة. وكذلك "بعث رسالة طمأنة إلى دول وشعوب القارة في شأن السياسات التنموية للصين في مواجهة شيطنة الوجود الأميركي وتحسين صورة بكين، بالتالي دحض الادعاءات الغربية والأميركية ضد الصين، وتأمين وصول الموارد الأفريقية إليها، والعمل على توسيع الاستثمارات الصينية في أنحاء القارة، ومواجهة نفوذ واشنطن وتحديداً استراتيجية البيت الأبيض تجاه القارة المعلنة في أغسطس الماضي".

جولات مكوكية

بينما بدت زيارة وزير الخزانة الأميركية كرد فعل على جولة الوزير الصيني، يعتقد أن الجولات المكوكية للمسؤولين الصينيين تعكس أولوية أفريقيا على الأجندة الدبلوماسية لبكين بغض النظر عن تغيرات البيئة الدولية.

الباحثة المتخصصة في الشؤون الصينية هدير طلعت قالت "بالتأكيد الزيارة كان لها بعد رمزي كبير، كونها أول رحلة خارجية يجريها وزير الخارجية الصيني الجديد تشين جانغ منذ توليه منصبه أواخر العام الماضي، في حين أنه العام الـ33 على التوالي الذي تكون فيه أفريقيا المقصد لأول زيارة خارجية يقوم بها وزراء خارجية الصين الجدد، مما يؤكد أن تعزيز التضامن والتعاون مع الدول الأفريقية أولوية دبلوماسية للصين بغض النظر عن تغيرات البيئة الدولية".

 

 

الزيارة تأتي في وقت تتطلع الولايات المتحدة وفرنسا إلى إعادة بناء العلاقات مع أفريقيا، وفي الوقت الذي يتسع فيه مجال نفوذ روسيا وتركيا أيضاً، وتتزايد التوترات بين بكين وواشنطن على المسرح الدولي، بالتالي تعكس رغبة الصين على موازنة تحركات القوى الفاعلة الأخرى بالمنطقة التي تعتبرها بكين تحدياً رئيساً لها، وعلى رأسهم أميركا.

وفي شأن دلالات الزيارة كأول جولة لمسؤول صيني رفيع المستوى للقارة عقب القمة الأميركية - الأفريقية الثانية في ديسمبر الماضي، وتحذيراتها من نفوذ صيني - روسي يمكن أن يكون مزعزعاً للاستقرار في القارة، علاوة على تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن أن يكون "الجميع في مستقبل أفريقيا" وتقديم بلده على أنها "الشريك المفضل" لدول القارة.

وأوضحت طلعت لـ"اندبندنت عربية" أن هذه الزيارة "جاءت لتؤكد تصميم الصين على تعزيز نفوذها في القارة تدريجاً وببطء من دون استعجال، وبحذر من دون تهور عبر تقديم نفسها كشريك للقارة السمراء ذي صدقية"، وأنها ماضية في تعزيز شراكتها مع دول القارة على رغم التحذيرات والمحاولات الأميركية المستمرة لتقليص نفوذها أو إضعاف حضورها في أفريقيا، وهو ما ينعكس على الترحيب الأفريقي بالوجود الصيني الذي يتميز عن الوجود الغربي في تجاوزه عن فكرة المشروطية السياسية والاقتصادية، لا سيما التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بما في ذلك الحكم وحقوق الإنسان".

طموح أطلسي

الحضور الصيني العسكري المتنامي في البحر الأحمر، من بوابة جيبوتي مباشرة، والتمدد المرتقب بغرب أفريقيا، حيث حل وزير الخارجية في إحدى ساحات الإقليم المرشحة للاضطراب وهي بنين، جعل الباحث محمد عبدالكريم يعتقد أن ذلك "لا يقود بالضرورة إلى توقع تصعيد التنافس مع واشنطن في ضوء ملاحظة أن الوجود الصيني في جيبوتي تم بترتيبات أميركية - غربية صريحة تزامنت معها ترسية إدارة ميناء دوراليه للصين وعدد من شركاء أعمالها الآسيويين على نحو يعزز التعاون الاقتصادي في إقليم القرن الأفريقي".

وقال عبدالكريم، "لا يمكن فصل التقارب الصيني مع بنين عن جهود بكين الداعمة لسياسات الاتحاد الأوروبي وفرنسا في إقليم الساحل لمواجهة الإرهاب، وكذلك لتحجيم النفوذ الروسي المتنامي، ومن أجل ضمان استمرار نمط الاستغلال الاقتصادي لموارد دول الساحل وغرب أفريقيا بشكله القائم من دون خلخلة هيكلية فيه". وأضاف "لا يتوقع بأي حال من الأحوال، لا سيما عند مراجعة تجربة غينيا بعد انقلاب سبتمبر (أيلول) 2021، والموقف الصيني منها الموالي تماماً للمواقف الغربية على الأرض، اتخاذ بكين سياسات مناوئة لواشنطن واقتصار أي تمدد لوجيستي صيني في الإقليم على مشروعات بنية أساسية أو عسكرية حتى لا تتعارض مع المصالح الأميركية على المدى البعيد".

وأوضح عبدالكريم أن طموح الصين لا يزال يدور في الفلك الاقتصادي بعيداً من الأهداف الاستراتيجية المتمثلة بزيادة نفوذ قوتها البحرية ووجودها العسكري في أفريقيا، بحسب ما تشير إليه بعض التقديرات الغربية.

وتابع "بشكل تقليدي، فإن بكين تسعى إلى تعظيم نفوذها الاقتصادي، لا سيما في مصر وإثيوبيا (كسوقين بهما نحو 250 مليون مستهلك)، وعبر تبني سياسات مزدوجة تماماً إلى استمرار الأوضاع، وربما الأزمات الراهنة إلى ضمان حصصها في القارة من دون تقديم تنمية حقيقية لدولها (قدرت صادراتها لمصر بنحو 20 مليار دولار مقابل واردات في حدود مليار دولار فقط، مما يوضح تشوه العلاقات الاقتصادية بشكل لافت للغاية، ولا يمكن فهمها إلا بتفكيك التصور التقليدي للسياسات الصينية في أفريقيا وربطها بشكل أكبر بالمصالح الغربية والأميركية، وليس العكس كما هو شائع".

نهج براغماتي

جاءت الزيارة لتؤكد النهج الصيني البراغماتي في التعامل مع جميع دول المنطقة على قدم المساواة في إطار مفهوم الدبلوماسية الشاملة ذات الخصائص الصينية، وفق ما ذكرته الباحثة هدير طلعت، "إذ شملت دول تتوزع بين شمال (مصر) وشرق (إثيوبيا) ووسط (الجابون وأنغولا) وغرب أفريقيا (بنين)، وكما أكدت الصين خلال القمة الصينية - السعودية في ديسمبر الماضي أولوية الرياض في علاقاتها الخارجية، جاءت زيارة وزير الخارجية لمصر لتؤكد أن علاقاتها بالقاهرة ثابتة لا تقل أهمية أيضاً بكونها قوة محورية ومركز ثقل إقليمي وشريكاً رئيساً ومهماً في المنطقة العربية بالنسبة لها من ناحية وبوابة العبور لأفريقيا ومنها لأوروبا من ناحية أخرى، كما شملت الزيارة كلاً من مصر وإثيوبيا في الوقت نفسه على رغم وجود توترات بينهما في قضية الأمن المائي، إذ توفر زيارة مقر الاتحاد الأفريقي (إثيوبيا)، ومقر الجامعة العربية (مصر) فرصة للاتصال الوثيق مع القادة العرب والأفارقة، وكذلك مع الشخصيات البارزة التي تؤثر في السياسات الداخلية والخارجية للدول العربية والأفريقية الفردية، لذلك تعتبر الرياض والقاهرة وأديس أبابا منصات انطلاق إقليمية قيمة بالنسبة إلى الصين".

 

 

في المقابل، رأت الباحثة نوران عوضين أن العودة الأميركية إلى القارة التي توجت في منتصف ديسمبر الماضي بانعقاد القمة الأميركية - الأفريقية الثانية، والتي حملت في جزء من دوافعها محاولة احتواء الحضور الصيني المتنامي، برزت في مواجهة بكين على الساحة الأفريقية، بينما "لم يتضح بعد حدود ومجالات العودة الأميركية، ومدى قدرتها على منافسة الحضور الصيني المؤسس منذ عقود بالقارة".

فلا تزال الولايات المتحدة في تعاملها مع القارة تعتمد على مبدأ المشاركة الانتقائية بما يتوافق مع القيم الأميركية والغربية التي في كثير من الأحوال لا تتوافق مع الرؤى الأفريقية، في المقابل تستند المشاركة الصينية بالقارة إلى منطق "خصوصية النماذج"، والذي من شأنه إطلاق العنان للتعاون المشترك دون مشروطية أو قيد.

من ناحية أخرى، لا تزال الولايات المتحدة متراجعة بشكل كبير في علاقاتها الاقتصادية مع دول القارة بالمقارنة مع الصين، "ففي حين تمثل التجارة مع أفريقيا واحداً في المئة فقط من إجمالي التجارة الدولية للولايات المتحدة، وتتجه نحو الانخفاض، سجلت الصين نحو 254 مليار دولار في تجارتها مع أفريقيا خلال عام 2021، أي نحو أربعة أضعاف التجارة بين الولايات المتحدة وأفريقيا، كذلك تعد الصين أكبر مزود للاستثمار الأجنبي المباشر، بما يقرب من ضعف مستوى الاستثمار الأجنبي المباشر للولايات المتحدة بالقارة، كما تظل بكين أكبر مقرض للدول الأفريقية، ومن المرجح أن يزداد النشاط التجاري للصين في القارة، لا سيما مع حاجة الصين إلى المواد الخام لدعم قاعدتها التصنيعية"، وفق نوران عوضين.

مصفوفة المصالح المشتركة

تعول بكين على تثبيت دعم هذه الدول في قضاياها ومشاغلها الرئيسة، وعلى رأسها تايوان وأمن الطاقة، بالنظر إلى أنغولا مثلاً من أكبر موردي النفط للصين، ودعم التعددية في قيادة النظام الدولي، واستمرار نجاح مبادرة "الحزام والطريق"، إضافة إلى تأمين أسواق وفرص خارجية للمنتجات والاستثمارات الصينية، كما ذكرت الباحثة هدير طلعت. بالتالي جاءت الزيارة لتؤكد علاقات الشراكة الاستراتيجية بين الصين وتلك الدول واستمرار تبادل الدعم في المشاغل الرئيسة ذات الأولوية بينهما، كما تعكس أيضاً اهتمامها بتطوير العلاقات مع دول المنطقة على أساس تبادل المنافع، وإبراز دورها في تعزيز أمن واستقرار المنطقة، حيث يستمع وزير خارجية الصين إلى وجهات النظر حول الشؤون الإقليمية والقضايا الساخنة، ليقدم المساهمة الصينية في الحفاظ على السلام، والتنسيق بين استراتيجيات التنمية بين الجانبين، واستعادة بناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تأثرت بـ"كوفيد-19"، والحرب الروسية - الأوكرانية، واستكشاف مجالات التعاون المحققة للمنافع المتبادلة والكسب المشترك.

وفي منظور أفريقي، تعكس هذه الزيارة رغبة أفريقية في تنويع الشراكات الدولية المتوازنة مع جميع القوى الكبرى، إذ تتطلع هذه الدول إلى التعاون مع الصين بوصفها موازناً دولياً للغرب. كما أن بروز الصين كقوة لها تأثيرها الكبير في الشأن الدولي، يمكن أن تلعب دوراً فعالاً في حلحلة أزمات عدة بالمنطقة، منها أزمة سد النهضة، مما يعزز من وجودها الأفريقي، إلى جانب تعاظم الفرص التي يحققها التعاون الأفريقي - الصيني، وخصوصاً في المجالات الناشئة كالطاقة الجديدة، الاقتصاد الأخضر وتكنولوجيا الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي، وغيرها، فضلاً عن المجالات التقليدية للتجارة والاستثمار والبنية التحتية والطاقة والأمن الغذائي"، بحسب طلعت.

المزيد من تحقيقات ومطولات