Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شكري المبخوت يقتحم أسوار الجامعة التونسية  بالرواية

"السيد العميد في قلعته" تكشف مظاهر الفساد الأكاديمي الذي ينسحب على المجتمع

"قلعة" الجامعة التونسية (ا ف ب)

"السيد العميد في قلعته" (دار التنوير) هي الرواية الخامسة للكاتب والأكاديمي التونسي شكري المبخوت، بعد "الطلياني" 2014، و"باغندا" 2016، و"مرآة الخاسر" 2019، و"السيرة العطرة للزعيم" 2020. وهو في هذه الروايات المتعاقبة يدرس تحوّلات المجتمع التونسي بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي حتى العشرية الأولى من القرن الحالي ضمناً.  ويفعل ذلك، في ثلاث منها، من خلال اتخاذ الفضاء الجامعي التونسي عالماً مرجعياًّ لها، تنطلق منه وتحيل إليه. يتناول في الأولى شخصية الطالب الجامعي القادم من البادية، ويرسم في الرابعة شخصية القائد الطالبي بأسلوب الباروديا الساخرة، ويصوّر في الخامسة  شخصية العميد الأكاديمي. والمفارق أن ما يجمع بين هذه الشخصيات هو تحدّرها من أصول ريفية حتى إذا ما اصطدمت بالمدينة/ الجامعة، تترتب على الاصطدام ترددات كثيرة يقوم المبخوت برصدها في مشروعه الروائي.

على أن انطلاق المبخوت من الفضاء الجامعي والإحالة إليه أمرٌ طبيعي ينسجم مع سيرته الذاتية المهنية. فالرجل يتحدّر من هذا الفضاء طالباً وأستاذاً وعميداً ورئيساً، وقد شغل منصب عميد كلية الآداب والفنون والإنسانيات في جامعة منوبة التونسية بين عامي 2005 و2011، وترأس الجامعة المذكورة بين عامي 2011 و2017.  و"رواية السيد العميد في قلعته"، كما سابقاتها، هي نتاج هذه السيرة المهنية الغنية.

عنوان مضلِّل

 بالدخول إلى الرواية من عتبة العنوان، يبدو الأخير مضلّلاً للوهلة الأولى، ذلك أن اشتماله على كلمتي "العميد" و"قلعته" يشي بفضاء عسكري، باعتبار الأولى رتبة عسكرية والثانية موقع حصين. غير أن الولوج في المتن يبدّد هذا التضليل، فـ"العميد" منصب أكاديمي و"القلعة" هي الكلية الجامعية التي يتولى إدارتها. وهو ما نكتشفه، منذ البداية، على لسان الراوي الذي يروي أن القلعة "حافظت على موقعها وسط البساتين يستنشق فيها الطلبة الذين يؤمونها الهواء النقي، وتغرق أرجلهم في الوحل ما إن ينزلوا من الحافلات التي تقلّهم إليها".

 تبدأ الرواية بتوجه السيد العميد إلى الكلية بعد انتخابه لإدارتها، وتنتهي بتفكيره في خوض الانتخابات لولاية ثانية كي يحافظ على ما حققه من إنجازات، ويحول دون وضع "الأنذال أيديهم عليها من الوزير إلى الواشي الحقير...". وبين البداية والنهاية ثلاث سنوات، تشكّل زمن الأحداث التي تجري في عهد الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي، وتتمحور حول شخصية العميد، وتحفل بالوقائع والمعارك والصعوبات والدسائس والمؤامرات التي تسهم جميعها في بلورة هذه الشخصية وترسم صورة نموذجية للعميد الأكاديمي لكنها واقعية في الوقت نفسه.

خصوم وأصدقاء

منذ انتخابه، يتربص بالعميد خصوم وحاسدون، من خارج الكلية وداخلها، ويسعون إلى دسّ الدسائس له ونصب الشراك وحياكة المؤامرات ووضع العراقيل أمامه، في محاولة منهم لإحراجه فإخراجه. يتزعم هؤلاء وزير التعليم من خارج الكلية بسلطته الديكتاتورية وعنجهيته الفارغة وعيونه وآذانه. ويتزعمهم داخل الكلية نائب العميد فريد الأرناؤوط الطامع في موقع العمادة، النقابي الشيوعي الانتهازي الذي لا يألو جهداً للإيقاع بالعميد، رغم أن شرعية وجوده في منصبه يعود إليه. في المقابل، يحيط به أصدقاء ومخلصون، من خارج الكلية وداخلها، يضعونه في أجواء الوزارة ويسدون له النصيحة ويمدون يد العون. يتزعّم هؤلاء من خارج الكلية رئيس الجامعة الذي يتقاسم معه عداء الوزير لكل منهما. ويتزعمهم داخل الكلية صديقه النقابي فتحي الملولي الذي اقترحه لمنصب العمادة، وأقنع الآخرين بالتصويت له، ولم يدّخر جهداً لدعمه والوقوف إلى جانبه.

 وبين الفريقين ينصرف العميد إلى ممارسة مهامه؛ يتفقد البناء الجامعي، يتعرّف إلى أوضاع الأساتذة والموظفين، يعقد الاجتماعات القطاعية، يطرح الأسئلة، يبدي الملاحظات، يدوّن المشاهدات، يطلب التقارير الخطية عن سير العمل وكيفية تحسينه، يعالج المشكلات بحكمة، يجمع بين الحزم والمرونة، يكتسب ثقة الطلاب واحترامهم، يدعم الأساتذة في إضرابهم الإداري، يرفض الخضوع لضغوط الوزير المخالفة للقانون، ما يؤدي إلى انتظام العمل وتحقيق إنجازات معيّنة.

نموذجية إيجابية

 هذه الأعمال تتمخّض عن شخصية إدارية نموذجية تجمع بين المبدئية والبراغماتية. على أن هذه النموذجية لا تقف عند حدود ما يضفيه الكاتب / الراوي على الشخصية من صفات مباشرة بل تُستَنتج من سياق الوقائع المتراكمة بحيت تبرز ملامحها تباعاً؛ فإعادة توزيع المهام على الموظفين وفق الاختصاص والخبرة تعكس حسن استثماره الموارد البشرية. الاستعانة بصديقه الملولي لمعالجة الشكوى من الأستاذ عبد السلام الشماخي المتهم بالتحريض على النظام تعكس حسن تخلّصه. الإصغاء للطلاب المتحمّسين وحل مشكلاتهم يعبّر عن رحابة صدره.  الامتناع عن مساءلة الأساتذة المضربين عن العمل يعبّر عن حسّه النقابي. مواجهة فريد الأرناؤوط بمكائده ومخططاته تشي بالحزم ووضع الأمور في نصابها. حدّه من جموح مسؤول الموارد البشرية المهدي المكني يعبّر عن عقلانية وقدرة على لجم التطرّف. التصدّي للجهاز الأمني الذي يحاول الاعتداء على الطلاب المعارضين يتكشّف عن شجاعة واضحة.  أمّا رفضه الرضوخ للضغوط الخارجية والداخلية المطالبة بمعاقبة الطلاب الذين تصدّوا للوفد الفرنسي / الاسرائيلي الزائر للكلية تحت مظلة التطبيع الثقافي فيعبّر عن وطنيته وقوميته. هذه الوقائع وسواها ممّا  لا يتسع المقام لذكرها، تؤكد نموذجية الشخصية المحورية في رواية "السيد العميد في قلعته". غير أن واقعتين اثنتين تنتقصان من هذه النموذجية؛ تتمثّل الأولى في مجاراته المرأة التي تنتحل صفة "الطالبة العاشقة" في رسائلها الإلكترونية الجريئة إليه. وتتمثّل الثانية في اهتمامه بالطالبة الجريئة نسرين التي تقتحم مكتبه، وقيامه بإعداد القهوة لها بنفسه، والانخراط معها في علاقة غرامية قبل أن تتوارى، ويكتشف، بعد فوات الأوان، أن نسرين هي "الطالبة العاشقة" نفسها. ولعل ما يشفع له بهذا التجاوز هو أنه لا يزال شاباًّ على قيد العزوبية. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صراع بين منظومتين

من جهة ثانية، يمثّل نائب العميد فريد الأرناؤوط نموذجاً للانتهازية والنفاق والرياء والمداهنة والمكر والخديعة ونكران الجميل. وهو ما يتمظهر في الوقائع المتعاقبة؛ يغتاب العميد وينتقص من تجربته، يترصّد الزلّات والهفوات ويستعد للانقضاض. يتّصل بالأساتذة لتشكيل لائحة انتخابية منافسة، يحاول توريط العميد في التطبيع الثقافي، يؤلّب الأساتذة عليه، يسعى إلى وضعه في مواجهة مع الوزارة، يرفع التقارير الكاذبة عنه، يحرّض على معاقبة الطلاب الوطنيين، وسواها من الوقائع التي تتمخّض عن شخصية ماركنتيلية، الغاية عندها تبرّر الوسيلة. على أن الربط الذي يقيمه الكاتب بين انتهازية الأرناؤوط ونشأته الشيوعية، من جهة، وبين ادّعائه المظلومية ودراساته في تاريخ الأقلية اليهودية، من جهة ثانية، يجعل النص ينزلق إلى شبهة العنصرية وأخذ الجماعة بجريرة الفرد. وهو ما يتنافى مع المنظور الروائي العام الذي يصدر عن إعلاء القيم الأكاديمية والإدارية والنقابية والتربوية والوطنية...

إلى هاتين الشخصيتين المتضادتين في الرواية، ثمة شخصيات ثانوية تتعالق مع الأولى وما تمثله من قيم إيجابية. وثمة شخصيات أخرى تتعالق مع الثانية وما تمثله من قيم سلبية، ناهيك بتعالق المجموعتين فيما بينهما؛ ففي المجموعة الأولى، نقع على رئيس الجامعة والأستاذين فتحي الملولي وصالح النصراوي الذين يقفون إلى جانبه، ويدافعون عنه، ويشيرون عليه بالرأي والنصيحة، ويُفنّدون دعاوى خصومه، ويعرّون ممارسات السلطة السياسية الجائرة. وفي المجموعة الثانية،  نقع على الوزير والطاهر بن مصطفى الكاتب العام للنقابة وعبد الجليل ابراهيم زعيم الشيوعيين في الكلية الذين تتقاطع مصالحهم مع الأرناؤوط، ويسعون إلى الإيقاع بالعميد، ودسّ الدسائس له، وحبك المؤامرات عليه، وإطلاق الإشاعات عنه. والرواية هي هذا الصراع بين المجموعتين اللتين تمثل كل منهما منظومة قيم مختلفة عن الأخرى. وهو صراع ينجلي عن انتصار الحق على الباطل، في نهاية المطاف، وتعرية الفساد السياسي والحزبي والإداري والتربوي المستشري في العالم المرجعي للرواية، ووضع الأمور في نصابها الصحيح. ولعل هذا ما يحدو بالعميد الذي حقق الإنجازات وطبّق القانون وحافظ على الاستقلالية، إلى عدم التخلي عن الكلية والتفكير بالترشّح لولاية ثانية. وبذلك، نكون إزاء منظور روائي إيجابي يؤمن بإمكانية التغيير والمحافظة على المتغيرات رغم المعوقات الكثيرة.

الكلية في "السيد العميد وقلعته" معادل روائي للمجتمع التونسي في العشرية الأولى من القرن الجاري، تعكس تحوّلاته، على المستويات المختلفة، وتشكل إرهاصاً مبكّراً بالربيع العربي الذي أطلق شرارته محمد البوعزيزي في نهاية تلك العشرية. والمبخوت استطاع أن يرصد التحوّلات الجارية بدقة، انطلاقاً من سيرته الذاتية المهنية، وأن يستشرف المستقبل، ويجدّد الإيمان بحتمية التغيير.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة